::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> دراسات وأبحاث

 

 

الحكم الشرعي ومشكلة تغير الأعراف والعادات والتقاليد

بقلم : د . يحيى هاشم حسن فرغل  

 

  إذا كان صحيحا – وهو صحيح  غالبا  - ما ذهب إليه الكثير من أعلام الفقهاء وأئمتهم وبخاصة الإمام الجليل ابن قيم الجوزية في الفصل الذي وضعه في  كتابه " إعلام الموقعين "  بعنوان :" فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد " ، فإنه لمن الصحيح أيضا  بعد أن وصل سلطان العرف في الفكر المعاصر إلى ما وصل إليه أن نؤكد ما ذهبوا إليه في الوقت نفسه من ضرورة ( صيانة الفتوى عن أهواء العرف والعادات والتقاليد )

ذلك أن سلطان العرف وتغير الزمان والمكان في الفكر العلماني المعاصر هو الذي يصنع الدين والأخلاق والقيم والعرف ، ولا يرى في الدين أو الأخلاق أو القيم أو العرف إلا منتجا عرضيا من منتجات العرف والعادات والتقاليد

والعتب إنما هو على المفتين المعاصرين الذين يرددون قاعدة فقهية صحيحة في العرف المحكم دون أن يلقوا بالا لواقع الفكر المعاصر الذي كان عليهم أن يضعوه أمام أعينهم وهم يقررون تغير الفتوى بتغير العرف والعادات والتقاليد ، واكتفى بعضهم مع الأسف باشتراط الوسطية - لا تفريط ولا إفراط – أو استثناء الثوابت ، وما تذكروا أن تغير " العرف والزمان والمكان " كان قد أطاح من قبل بشيء من الثوابت العقدية عند ابن سينا الذي ذهب إلى تأويل الجزاء الحسي في الجنة والنار بكونه رمزا للجزاء الروحاني ، وانه جاء في صورته الحسية في القرآن الكريم تلاؤما مع أحوال الزمان والمكان والبيئة والعرف التي لم تكن لتفهم في تقديره شيئا عن النعيم الروحي !! فلما تغير الزمان وهلت أنواره بهلال الفلسفة اليونانية على المسلمين كان ما كان من تأويلات هي أبعد ما تكون عن التأويل

والمهم في عصرنا أن نعلم  قد تم احتواء عامل العرف والزمان والمكان  في الفكر المعاصر جوهرا بحيث لم يعد يقبل في منطقة نفوذه قسمة أو مساومة أو وسطية أو استثناء ، وأن هذا الفكر هو الذي يسيطر على الساحة الثقافية وهو الذي يشارك في المناقشة حول ما يطرحه المفتون ، وهو الذي يظن هؤلاء المفتون – وهم واقعون في أسر " تجميل الإسلام "  !! - أن تلك القاعدة تمثل خط التقاء بينهم وبين هذا الفكر في حين أن كلا منهم ينطلق من عقيدة  مختلفة أصولا وفروعا .

إن قادة الفكر المعاصر وهو علماني في جملته يتنكرون لما نسميه الثوابت سواء كانت هذه الثوابت راجعة إلى العقل المجرد أو إلى الوحي المقدس ، وهم يرتكزون على المنهج التجريبي في مختلف فروع المعرفة ، وقد أداهم ذلك إلى القول بأن ما يسمى الأحكام الدينية والتشريعية والخلقية مجرد تعميمات يصطلح عليها الإنسان بعد خبرة وتجربة تتراكم عبر الأجيال ، خاضعا في ذلك لارتباطات زمانية ومكانية واضحة الأثر في إصدار تلك التعميمات - راجع توفيق الطويل في كتابه العقليون والتجريبيون في فلسفة الأخلاق " ص 41- 43 -  ومن ثم فهم يتوجهون لاستلهام مبادئهم ومعارفهم وأعرافهم من مجموعة العلوم التجريبية حصرا مثل : علم البيولوجيا وعلم النفس وعلم الحيوان وعلم السلالات البشرية " الإثنولوجية " و علم وصف الإنسان أو الإنثروبولوجيا في نطاق دراسته للعرف والعادة في جميع الأمم ، وهو يتتبع ضروب العرف والعادة إلى مناشئها الأولى في القبائل الهمجية ، ويقارن بينها وبين أسبابها ، كما يقارن بين العوامل الإقليمية والاجتماعية وآثارها في التشابه أو التباعد بين قواعد الأخلاق – راجع عباس العقاد في عقائد المفكرين في القرن العشرين ص 144- 145-

وفي أعقاب الثورة الفرنسية ظهر أوجست كونت ( 1798- 1875 ) زعيم المدرسة الوضعية وبعد أن أطاح بالدين - طبقا لقانون الأحوال الثلاثة - باعتباره نتاج المرحلة البشرية الأولى الغارقة في الخرافة والأساطير وليأتي بعده ليفي بريل( 1857- 1939 )  ليزعم أنه لقد تحقق لهذه الفلسفة الوضعية حظ واسع من الانتشار بحيث أصبح الطمع في جعلها مذهبا للإنسانية جمعاء أمرا قريبا إلى الأذهان . وانتشرت هذه الفلسفة بين عدد مرموق من الفلاسفة في انجلترا وفرنسا ثم امتزجت بالتفكير العام في العصر الراهن امتزاجا شديدا وانعكست في عدد كبير من الاتجاهات الفكرية المختلفة لا سيما في التاريخ والقصة والشعر ، وبدرجة أساسية في علم الاجتماع المعاصر .الذي أخذ على عاتقه مهمة أن تحتل الفلسفة الوضعية مكانة الفكر اللاهوتي والميتافيزيقي ، في وضع نقطة البدء في تنظيم المجتمع وتقرير مبادئ الأخلاق والسياسة والتشريع ، منطلقا من دراسة الظواهر الاجتماعية والخلقية بالطريقة نفسها التي تدرس بها الظواهر الطبيعية الأخرى ، وأصبح علم" الأخلاق " " علم العادات الأخلاقية " - كما هو في عنوان كتاب ليفي بريل

 

وذهبت هذه الأخلاق الوضعية إلى تحديد مفاهيمها الأخلاقية في" التكيف " و" التقدم " و"الإنسانية " .

والإنسانية كما أنها موضوع لعلم العادات الأخلاقية هي موضوع للعبادة والحب كذلك .

ويأتي " ليفي بريل " ليؤكد المنهج الوضعي في العادات الأخلاقية وليوضح أكثر من سابقيه أن ما كان يسميه البعض عقيدة أوأخلاقا تقليدية ثابتة أو معيارية – لا هوتية كانت أو ميتافيزيقية أو عقلانية - لا تعدو أن تكون نسخة مستنبطة من العادات العملية الواقعية التي طبقت في مجتمعاتهم وفي عصورهم ، وأن ما يدعونه مثلا عليا ليس من ابتكارهم وإنما هي صور ينتزعونها من الحياة الواقعية نفسها ويخلعون عليها طابعا شخصيا أو مذهبيا أو دينيا

ويتابع ليفي بريل أيضا النقد الذي يوجهه إلى الأخلاق التقليدية من حيث إن هذه الأخيرة تعتقد أن القواعد الأخلاقية تحدَّد للإنسان بصفة نهائية ، ظنا منها أن طبيعة الإنسان لا تتطور ، مع أن التاريخ الفكري والثقافي يرشدنا إلى أن العقلية الإنسانية في تطور مستمر

كذلك فإن الواقع يكشف لنا – وفقا لليفي بريل - عن أن محتويات ما يسميه أصحاب الأخلاق التقليدية " الضمير الأخلاقي " غير متجانسة ، لأنا إذا درسنا التقاليد والعادات الأخلاقية في الريف أو في المدن وجدنا أنها لا ترجع كلها إلى عصر واحد ، بل إلى عصور متباعدة ، وأجناس مختلفة ، وحضارات متباعدة ومتنافرة ، ومن هنا كان على الباحث في الأخلاق العلمية أن يقوم بدراسة مختلف الحضارات الراهنة والغابرة ، وأن يحلل الطقوس والعقائد في مختلف الشعوب البدائية ، فيرى مثلا كيف نشأت الواجبات والنواهي ، وكيف تطورت فكرة العدل والكرامة والأثرة والإيثار والجدارة ، كما يجب عليه أن يدرس العادات الخاصة بالزواج والطلاق وجميع صنوف العادات الأخلاقية ليرى كيف نشأت وكيف تطورت ولأي القوانين تخضع ، وكيف أنها في نهاية المطاف أخلاق نسبية تخضع لمجموعة من الشروط الاقتصادية والثقافية والدينية والتاريخية ، وأنها شروط تتطور باستمرار ، ومن ثم كان لها صداها في الأخلاق نفسها

ولا يختلف دوركايم ( 1858-1917 ) أحد أقطاب هذه المدرسة الوضعية عما قرره أوجست كونت أو ليفي بريل وبالتالي علم الاجتماع المعاصر من حيث يقرر اختلاف الأخلاق باختلاف الزمان والمكان وسائر الظروف أي أنها تابعة لأحوال المجتمعات التي تخترعها وتفرضها على الأفراد

وليس مجالنا الآن الرد على هذه الفلسفة بقدر اهتمامنا بموقفها من العادات والتقاليد والأعراف وسلطانها في إنتاج الدين والأخلاق ، ومساسها بقاعدة تغير الفتوى بتغير العادات والأعراف والأزمان والمكان

راجع كتابنا " الفكر المعاصر في ضوء العقيدة الإسلامية " نشر جامعة الإمارات عام 1998 ، و" الأخلاق وعلم العادات الأخلاقية لليفي بريل ترجمة محمود قاسم والسيد محمد بدوي نشر إدارة الترجمة إدارة الثقافة العامة وزارة المعارف العمومية طبعة الحلبي عام 1953 صفحة : ج د ص 3 خ ط ح هـ ز ي ك & وكتابه " فلسفة أوجست كونت " ترجمة محمود قاسم والسيد محمد بدوي أيضا مطبعة لجنة البيان عام 1952 ص 347- 351& التربية الأخلاقية لدور كايم ترجمة محمد السيد بدوي مطبعة الحلبي 1953 ص 93- 107-418- 118- 104- 117

وإذا كنا نرى أنه لا مجال لنا في هذا المقال أن نتوسع  في الرد على هؤلاء الوضعيين ، فإننا نكتفي بالتنبيه على موضع المفارقة بيننا وبينهم  في أن الإسلام  يجيب  من خلال ما يقرره عن تبعية الأعراف والتقاليد لمرجعيته العليا في العقيدة والشريعة والأخلاق … يجيب عن السؤال الهام في هذا المقام :  ما المصلحة التي يجب أن يهدف إليها النشاط الإنساني  ؟ والإجابة هي : في قيام المخلوق بوظيفته في عبادة الخالق ، ونجاح الإنسان في امتحان الاستخلاف الذي تعرض له في هبوطه إلى الأرض ، وعندئذ يصير مقياس الخير والشر في أعمال الإنسان هو فيما يكون محققا لذلك النجاح ، وما يكون طريقا له  للفوز بالرضا الإلهي والتحرز عن سخطه ، سواء كان لذات الرضا ، أو لما يتبعه من حسن الجزاء ، ويكون مرجع السلطة من وراء القوانين والأخلاق والعادات والتقاليد هو الله سبحانه وتعالى وكلمته وهداه ، مستعليا – أي الإنسان -  في مسيرته كلها على أهوائه وشهواته وعاداته وأعرافه ، مستعينا بها إذا لم تكن مما يحل حراما أو يحرم حلالا ، لا خاضعا لها،  ولا جاعلا إياها أصلا في تغير الفتوى كلما تغيرت

ومن هنا يتبين كيف أن القاعدة الفقهية " في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد " ، أصبحت في سياق الثقافة العصرية في أشد الحاجة خلافا للعصور التي أنتجتها إلى جهد كبير كبير إلى تقييدها  بـ :

تخليص المصلحة – طبقا لوجهة النظر الشرعية - من حمأة النظرة العلمانية

والتدقيق في بيان أهداف الشريعة النابعة  أولا وأخيرا من هدف العبادة لله

وتمييزها عن أهداف العلمانية النابعة  أولا وأخيرا من هدف عبادة الإنسانية أو المجتمع أو السعادة أو اللذة أو المنفعة

والتفريق بين قيمة العرف في سياق الشرع وقيمته في سياق الفكر المعاصر

وبيان المصدر هنا والمصدر هناك

والتأكيد على الغاية هنا والغاية هناك

وأخيرا : التفرقة بين الفتوى والحكم الشرعي كواحد من أهم أسس هذا البيان .

إنه لا يصح موالاة الكافر ، أو التفريط في الواجبات ، أو تقديس الوثنيات ، أو توثين المقدسات ، أو توثيق عرى الضلالات ، أو ترويج فاجر الكتابات ، أو إرجاع من أسلم إلى دينه الذي أقلع عنه ، أو اعتبار تقديم الخمور في اللقاءات الدبلوماسية وضيافات الطائرات والقصور والنوادي  والفنادق ، ولبس الرجل للحرير ، والسهر في دور الملاهي الفاجرة ، أو سماع الأغاني الفاجرة ،أو تشجيع العروض الفاسقة ، أوالمقامرة في سباقات الخيول والهجن والمباريات الرياضية ، ومسابقات الجمال  العارية ، أوالعري في المصايف المكشوفة أو المختلطة ، أو المخالطة غير المراقبة أو الخلوة بين الخطيبين ، أو رغبة المسلم غير المضطر في الاستفادة من فوائد البنوك الربوية ، أو رغبة المسلمة في الزواج من كافر ، أو الاستمرار معه بعد أن أسلمت ، أو رغبة المسلم في وراثة زوجته الكتابية المتوفاة ، أو رغبة المرأة المسلمة في التماهي مع المودات العارية وما أشبه ، أو تقرير ما يسمى " الحشمة " بتنازلاته وذبذباته بدلا من أحكام العورة ،.... لا يصح اعتبار شيء من ذلك وما أشبهه مصلحة أو مقصودا حاجيا أو تحسينيا في الإسلام لأنه يخل بالمصالح أو المقاصد الضرورية في حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال  بينما هو من المصالح والحاجات والتحسينات والترف المطلوب في غير الإسلام مهما قيل عن تغير العادات والتقاليد والأعراف وفقا لمنطق الفكر المعاصر المتدثر بنار العلمانية .

إن الحكم الشرعي ثابت لا يتغير ، ووظيفة المفتي البحث عن موضوعه لتنزيل الحكم عليه ، وإذا كانت قضية الحكم الشرعي مركبة كأي قضية منطقية من " موضوع " و"محمول " مثل " الربا حرام "  : الربا هو الموضوع ، والحرام هو المحمول ، فإن التغير قد يتناول الموضوع " الربا " بحيث يختفي هذا الموضوع أو صفة ملحوظة فيه  في عرف من الأعراف ويحل محله موضوع آخر " الفوائد " وعندئذ فعلى المفتي أن يبحث عن معنى الفوائد ليجد أنها هي " الربا" ، وأن الاختلاف لفظي بحت ، ووظيفته عندئذ أن ينزل الحكم عليه فتكون فتواه " الفوائد حرام " هذا هو ما يصح أن يكون مرادا بقولهم تغير الفتوى بتغير العرف  ولا تغير في الحكم

وهذا ما يفعله المفتي في قضية المؤلفة قلوبهم واستحقاقهم الزكاة - مثلا - فقد يجد أن موضوع القضية " المؤلفة قلوبهم " قد اختفى نزولا على تغير أحوال المسلمين وانتشار الإسلام واستغناء المسلمين عن تأليف هذه الطائفة ، ومن هنا فقد يفتى بعدم تخصيص جزء من الزكاة لهذا المصرف بحكم اختفائه واقعا أو حكما ، فهو تغير في الفتوى بحكم اختفاء الموضوع  أو صفة ملحوظة فيه ، وليس تغييرا في الحكم الشرعي الذي يظل ثابتا قابلا للتنفيذ لو عاد الموضوع للظهور بحكم تغير الزمان والمكان والأعراف والتقاليد وهذا ما فعله الخليفة عمر رضي الله عنه في قضية المؤلفة قلوبهم

وهذا ما يفعله المفتي في حكم " الأئمة من قريش " ( إنّ هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلا كبّه الله في النار على وجهه، ما أقاموا الدين " رواه البخاري )، فقد يجد المفتي أن قريشا ذابت في أنحاء العالم العربي والإسلامي أو أن غيرهم أصبحوا أكثر منهم إقامة أو نفوذا في الدين وبين الناس ، ولم يعد لها تلك الكينونة التي تجعلها موضع السمع والطاعة كما كانت قبل الإسلام وصدرا منه ، ومن هنا فقد يفتي بعدم التعويل عليها في مبايعة الحاكم العام ، فهو تغير في الفتوى بحكم اختفاء الموضوع أو صفة ملحوظة فيه ، ، وليس تغييرا في الحكم الشرعي نفسه الذي يظل قابلا للتنفيذ نظريا لو عاد الموضوع .

يقول الإمام ابن القيم : في كتابه " إعلام الموقعين عن رب العالمين " – وهو في كتابه إنما يِـُعلم الموقعين المفتين – باعتباره من المجتهدين حسب أصول الاجتهاد المعتمدة  -  يعلمهم بما هو عن الله رب العالمين – في الفصل الذي عقده بعنوان ( تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد ) : يقول : ( هذا فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة ، أوجب الحرج والمشقة وتكليف مالا سبيل إليه ، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به ) ص27

وهو من هنا يبني تغير الفتوى المشروط على ركنين :

أولهما : رعاية الشريعة للمصالح ودرء المفاسد في المعاش والمعاد إذ يقول :  (  فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد

وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها ، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل ) ص 27

وأول مفارقة بين هذا المبدأ وبين المصلحة في المنظور العلماني جاءت في قوله ( في المعاش والمعاد ) أي في الدنيا والآخرة ، وهذا فارق جوهري كأنه الأقيانوس الذي يفرق بين أرض الوحي في الشرق وأرض الشيطان في الغرب أو أكبر .

الثاني : بناء المصلحة على الشريعة وليس العكس إذ يجعلها الأصل والمرجع في تقرير ماهي المصلحة وذلك بقوله عن الشريعة : ( فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسله صلى الله عليهم وآلهم وسلم أتم دلالة وأصدقها ، وهي نوره الذي أبصر به المبصرون وهداه الذي اهتدى به المهتدون وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل وطريقه المستقيم الذي من استقام به فقد استقام على سواء السبيل ، فهي قرة العيون وحياة القلوب ولذة الأرواح ، فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها وحاصل بها وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها ، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوى العالم وهي العصمة للناس وقوام العالم وبها يمسك الله السماوات والأرض أن تزولا فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقي من رسومها ، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة )

ثم يبدأ الإمام ابن القيم ذكر أمثلة على رعاية الشريعة للمصلحة من خلال اعتبار تغير الفتوى في أحوال الزمان والمكان والعرف والنيات بما لا يدع مجالا للظن بتغيير الحكم الشرعي نفسه ، وذلك  بقوله ( ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه في هذا الفصل بعون الله وتوفيقه بأمثلة صحيحة ) ص 28

المثال الأول : في شرط إنكار المنكر ألا يؤدي إلى منكر أشد ، مستدلا بالشريعة من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في عدم تغيير البيت ورده إلى قواعد إبراهيم ، خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام  .ص 28

ومن الواضح في هذا المثال تغير حال المنكر الذي يراد تغييره إلى حال يكون فيها أقل نكرا مما يصار إليه بالتغيير ، فلم يكن التغيير في الحكم الشرعي ولكن في تغير موضوعه أو في صفة ملحوظة فيه  من حال إلى حال جديد ، يكون تغييره فيها عملا بالمنكر الأشد

المثال الثاني :ألا تقطع الأيدي في الغزو ، مستدلا بالشريعة من حديث رسول الله صلى الله عليه فيما رواه أبوداود ص 29 ، ومن الواضح في هذا المثال أيضا تغير حال فعل السرقة الذي  يراد عقوبته بالقطع ، إلى حال فتنة تلحقها هزيمة محتملة بسببه  ، فلم يكن التغيير في الحكم الشرعي ولكن في موضوعه أو في صفة ملحوظة فيه من حال إلى حال جديد

المثال الثالث : إسقاط القطع عن السارق في عام المجاعة مستدلا بالشريعة من فعل الصحابي ، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وبفعل عمر أيضا في حادثة المزني الذي سرقت ناقته بفعل غلمان لحاطب ابن أبي بلتعة : فحكم عمر بإسقاط القطع عن الغلمان لأنهم كما قال ( والله إني أعلم إنكم تستعملونهم وتجيعونهم ، حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله حل له لقطعت أيديهم ) وزاد على ذلك بأن غرم ابن أبي بلتعة ثمن الناقة ضعفين للمزني . ص 32- 33 ومن الواضح كذلك في هذا المثال أيضا تغير حال فعل السرقة الذي  يراد عقوبته بالقطع إلى حال المجاعة التي تدخل تحت استثناء الضرورة ، فلم يكن التغيير في الحكم الشرعي ولكن في موضوعه أو في صفة ملحوظة فيه من حال إلى حال جديد

المثال الرابع : جواز إخراج صدقة الفطر صاعا من غالب طعام أهل المدينة اعتبار ا بتغير العرف من التمر أو الشعير أو الزبيب إلى الذرة أو الأرز أو التين أو غير ذلك من الحبوب  ذات الاستمرارية في الحفظ ، فإن كان من غير الحبوب أخرجوا فطرتهم منها كائنا ما كان . ومن الواضح كذلك في هذا المثال  تغير حال شيوع السلعة واجبة الزكاة إلى  ندرة ثم إلى شيوع سلعة أخرى مكافئة ، فلم يكن التغيير في الحكم الشرعي ولكن في موضوعه أو في صفة ملحوظة فيه من حال إلى حال جديد

المثال الخامس : أن النبي صلى الله عليه وسلم نص في المصراة - وهي  التي تشد أخلافها ليجتمع فيها اللبن،  فيتوهم المشتري أن ذلك معتاد وليس كذلك – نص على رد صاع من تمر بدلا من لبن التصرية الذي استهلكه المشتري ،أي عند ردها بخيار العيب عيب التصرية -  والصحيح عدم التقيد بالتمر ، فيحمل تعيين الصاع من التمر في الرواية المشهورة على أنه يخرج من كل موضع صاعا من قوت ذلك البلد ، وهذا قول أصحاب أحمد وأصحاب مالك

 

وكذلك حكم ما نص عليه الشارع  من الأعيان التي يقوم غيرها مقامها من كل وجه ، أو يكون غيرها أولى منها ، كنصه على الأحجار في الاستجمار ، ومن المعلوم أن الخرق والقطن والصوف أولى منها ، وكذلك نصه على التراب في الغسل من ولوغ الكلب والأشنان ( الصابون ) أولى منه ، هذا فيما علم مقصود الشارع منه  وحصول ذلك المقصود على أتم الوجوه بنظيره وما هو أولى منه . ومن الواضح كذلك في هذا المثال  تغير حال شيوع التمر في التصرية ، أوالأحجار في الاستجمار ، أو التراب في الغسل من ولوغ الكلب ..  إلى حال الندرة أو التدني  إلى شيوع أعيان أخرى مكافئة أو هي الأولى فيما علم مقصود الشارع منه ، وحصول ذلك المقصود على أتم الوجوه ، فلم يكن التغيير في الحكم الشرعي ولكن في موضوعه أو في صفة ملحوظة فيه من حال إلى حال جديد

المثال السادس :  تخصيص منع الحائض من الطواف بالبيت حتى تطهر ببعض الأحوال والأزمان والتفرقة بين حال القدرة على الاحتباس حتى تطهر وتطوف ، والعجز عن ذلك . ويعرض ابن القيم تحليلا مستفيضا لحالات إمكان الطواف بطهر من عدمه يذكر في أثنائه أن ( القول باشتراط طهارة الحدث للطواف لم يدل عليه نص أو إجماع بل فيه النزاع قديما وحديثا ) ص42

المثال السابع : إيقاع الطلاق الثلاث بفم واحد طلاقا واحدا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وخليفته أبي بكر وصدرا من خلافة عمر توسعة لعباده فلما تغير الزمان في عهد عمر واستعجل الناس في أمر كانت لهم فيه أناة  كما قال رأى أن يمضيه عليهم بكلمتهم ثلاثا ، من باب التغير في أحوال الناس ، لا من باب النسخ

ولكن التغير لحق الناس مرة ثانية بعد ذلك ، وانكبوا على مفسدة التحليل – أي أن يرجع الرجل لمطلقته التي تم التفريق بينهما بطلاق بائن بينونة كبرى  لا ترجع إليه حتى تتزوج غيره زواجا كاملا صحيحا ، وفقا لقوله تعالى " حتى تنكح زوجا غيره " ، ، فيحتال للرجوع إليها  بتزويجها  " للمحلل " الذي سرعان ما يطلقها بدوره لترجع إليه زوجته السابقة ،  وقد ورد في الحديث استشناع هذه الحيلة – فكان الحل بفتوى الرجوع إلى إمضاء التطليق ثلاثا بفم واحد طلقة واحدة  واحدة تعطيلا لسوق التحليل أو تقليلا منها وتخفيفا من شرها ، من باب تغير الفتوى بتغير الناس ورعاية للمصلحة الشرعية ( وإذا عرض على من وفقه الله كون الثلاث واحدة ومسألة التحليل ووازن بينهما تبين له التفاوت وعلم أي المسألتين أولى بالدين واصلح للمسلمين ) إعلام الموقعين ص54 -  59

هذا ما فعله المفتي في تغير حال المطلق ثلاثا بفم واحد من حال المتورع المستحق لفتوى إيقاعها واحدة تيسيرا وتوسعة قياسا على ما لو قال أستغفر الله ثلاثا وثلاثين ، فهي مرة واحدة لا تكون أكثر من ذلك  إلا بعد تكريرها بالعدد المذكور ، .. تغيره إلى حال المستخف المستحق لفتوى إمرارها عليه ثلاثا بما قال  ، فهو تغير في الفتوى بحكم اختفاء الموضوع أو صفة ملحوظة فيه ، ونشأة موضوع بديل ، وليس تغييرا في الحكم الشرعي نفسه وهو ما فعله عمر رضي الله عنه وأقره طائفة من الصحابة عليه

وهذا ما فعلته طائفة من الفقهاء في تغير حال المطلق ثلاثا بفم واحد من حالته الأخيرة في إيقاعها ثلاثا إلى حالة اللاجئ إلى ممارسة " التحليل " فانتقل من حال واقع فيها تحت حكم شرعي إلى حال يقع فيها تحت حكم شرعي آخر إذ صارفي الحال الثانية مرتكبا لمنكر أشد فاستحق فتوى العودة إلى ما كان عليه الحال أولا من إيقاعها واحدة سدا لذريعة التحليل و تقليلا من مساحة ذيوعها ، فلم يكن التغيير في الحكم الشرعي ولكن في موضوعه أو في صفة ملحوظة فيه من حال إلى حال جديد

 

 

المثال الثامن : مما تتغير به الفتوى لتغير العرف والعادة موجـِبات الأََيمان والإقرار والنذور :

فمن ذلك إذا حلف الحالف لا يركب دابة وكان في بلد عرفهم في لفظ الدابة الحمار خاصة اختصت يمينه به ولا يحنث بركوب الفرس ولا الجمل .  إلخ ص 60

ومن ذلك اليمين بالطلاق لا يقع عند من لم تجر عادتهم به في التطليق ص 63 ، وإنما يقصد  الحالف به منع نفسه بالحلف بما لا يريد وقوعه ، ص 66 كما لو قصد منع نفسه عن فعل بالتزام الإعتاق أو الحج أو الصوم أو صدقة مال أو التزام ما يكرهه من الكفر فإنه لا يلزمه ويجب طرد ذلك في الإعتاق والطلاق ص 67

( وقد أجري العرف مجرى النطق { الفعلي } في أكثر من مائة موضع منها :

نقد البلد في المعاملات ، وتقديم الطعام للضيف ، وجواز تناول اليسير مما يسقط من الناس من مأكول وغيره ، والشرب من خوابي السبيل ، وأكل الثمرة الساقطة من الغصن على الطريق ..

وجواز التخلي في دار من أذن له في الدخول إلى داره والشرب من مائه والاتكاء على الوسادة المنصوبة ..

وإذن المستأجر للدار لمن شاء من أصحابه وأضيافه في الدخول والمبيت والثوي عنده والانتفاع بالدار ، وإن لم يتضمنهم عقد الإجارة لفظا ، اعتمادا على الإذن العرفي …

ومنها لو رأى شاة غيره تموت فذبحها حفظا لماليتها عليه كان أولى من تركها تذهب ضياعا ..

ومنا لو باعه صبرة عظيمة أو حطبا أو حجارة ونحو ذلك جاز له أن يدخل ملكه من الدواب والرجال ما ينقلها به وإن لم يأذن له بذلك لفظا ..

ومنها لو جذ ناره أو حصد زرعه ثم بقي من ذلك ما يرغب عنه عادة جاز لغيره التقاطه وأخذه وإن لم يأذن فيه لفظا

ومنها لو أتى إلى دار رجل جاز له طرق حلقة الباب عليه وإن كان تصرفا في بابه لم يأذن له فيه لفظا

ومنها الاستناد إلى جداره والاستظلال به

ومنها الاستمداد من محبرته وقد أنكر الإمام أحمد على من استأذنه في ذلك

وهذا أكثر من أن يحصى .. وعليه يخرج حديث عروة بن الجعد البارقي حيث أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم دينارا يشتري به شاة فاشترى شاتين بدينار ، فباع إحداهما وجاء بالدينار والشاة الأخرى ، فباع وأقبض وقبض بغير إذن لفظي ، اعتمادا على الإذن العرفي الذي هو أقوى من اللفظي في أكثر المواضع ، ولا إشكال بحمد الله في هذا الحديث بوجه ما ، وإنما الإشكال في استشكاله فإنه جار على محض القواعد )

( فصل : ومن هذا الشرط العرفي كاللفظي وذلك كوجوب نقد البلد عند الإطلاق ووجوب الحلول حتى كأنه مشترط لفظا ، فانصرف العقد بإطلاقه إليه وإن لم يقتضه لفظه …

 

ومنها السلامة من العيوب حتى يسوغ له الرد بوجود العيب ، تنزيلا لاشتراط سلامة المبيع عرفا منزلة اشتراطها لفظا …

ومنها وجوب وفاء المسلم فيه في مكان العقد وإن لم يشترطه لفظا بناء على العرفي ..

ومنها لو دفع ثوبه إلى من يعرف أنه يغسل أو يخيط بالأجرة ، أو عجينه لمن يخبزه ، أو لحما لمن يطبخه ، أو حبا لمن يطحنه ، أو متاعا لمن يحمله ، ونحو ذلك ممن نصب نفسه للأجرة على ذلك …. وجب له أجرة مثله ، وإن لم يشترط معه ذلك لفظا عند جمهور أهل العلم ) إعلام الموقعين لابن القيم ج 3 ص 17- 18

من هذا العرض يتبين على سبيل اليقين أن لا مكان للانحراف بمبدأ تغير الفتوى بتغير الأعراف والأمكنة والأزمنة والنيات كما يتصوره العلمانيون احتجاجا بما يقوله ابن القيم أو غيره ممن يعتد بهم من الأئمة والمجتهدين ، إذ تبين لنا المجال الذي يتحرك فيه ابن القيم في تقرير هذا المبدأ حيث :

1- يبدأ بالشريعة وينتهي بها

2-  وحيث يبني هذا التغير على رعاية المصلحة

3-  وحيث يلاحظ في هذه الرعاية مصلحة المعاد ( الآخرة )كما هو في المعاش ( الدنيا )

4-  وهذا يعني ربط المصلحة الدنيوية بالمصلحة الآخرة

5- بل يجعل المصلحة الأخروية حاكمة على الدنيوية طبقا لقوله تعالى ( والآخرة خير وأبقى ) .

و يمكن تصنيف المراد بالعرف عند ابن القيم وأمثاله من الفقهاء فيما يقوله الأستاذ الدكتور علي حسب الله من كبار علماء الشريعة في كتابه " أصول التشريع الإسلامي " تحت عنوان " العادة محكمة ص 349-351 : إذ يقول :

( وتحكيم عادة الناس وعرفهم في معاملاتهم يدخل في باب رعاية مصالحهم وعدم إيقاعهم في الضيق والحرج :

فأما عرفهم اللغوي فإنهم يعاملون به وإن خالف عرف القرآن الكريم فلو حلف امرؤ لا يأكل رأسا لم يحنث إلا بأكل رأس الضأن متى جرى عرف الناس الذين يعيش بينهم بذلك ، ولو حلف لا يجلس على بساط فجلس على الأرض أو حلف لا يجلس تحت سقف فجلس تحت السماء أو لا يستضيء بسراج فاستضاء بالشمس ، أو لا يأكل لحما فأكل سمكا لم يحنث في شيء من ذلك وإن سمى الله الأرض بساطا في قوله تعالى " والله جعل لكم الأرض بساطا " وسمى السماء سقفا ، والشمس سراجا والسمك لحما

وأما العرف الفعلي فهو نوعان : عرف فاسد وهو ما أحل حراما أو حرم حلالا كاعتيادهم التعامل بالربا ، أو شرب الخمر جهارا ، أو كشف العورات ، أو ما أشبه ذلك وهذا يجب إلغاؤه وعدم الاعتداد به ، { وهو ما تجري حوله غارات العلمانية ودسائسها }

وعرف صحيح وهو مالا يحل حراما ولا يحرم حلالا كاعتيادهم الإهداء إلى العروس قبل الزفاف ، وجعلهم المهر قسمين ، حالا ومؤجلا ، ونحو ذلك { كاعتبارهم أثاث المنزل من ممتلكات الزوجة } ونحو ذلك وهذا تجب مراعاته في الإفتاء والقضاء ..

وقد بنت الشريعة كثيرا من الأحكام على العرف ، ومن ذلك وجوب الدية على العاقلة ، وبناء الولاية في الزواج على ما عرف من العصبية ، واعتبار الكفاءة في الزواج ، وتحكيم العرف في مقدم الصداق ومؤخره عند اختلاف الزوجين …

فالأحكام المبنية على العرف وإن تغيرت بتغيره زمانا ومكانا فهي لا تخرج عن دائرة المباحات لأنها لا تحل حراما ولا تحرم حلالا

ومن هنا يقول الشاطبي في العادات المتغيرة ( منها ما يكون متبدلا في العادة من حسن إلى قبيح وبالعكس ، مثل كشف الرأس بحسب البقاع في الواقع ، فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد الشرقية ، وغير قبيح في البلاد الغربية { الأندلس } فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك ، فيكون عند أهل المشرق قادحا في العدالة ، وعند أهل المغرب غير قادح ) الموافقات ج 2 ص 198

يقول الإمام الشاطبي في الموافقات : ( إن اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد ليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب ، لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا إلى ما لانهاية ، والتكليف كذلك لم يحتج في الشرع إلى مزيد ، ومعنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم بها  ، وإلى معنى .

كما في البلوغ مثلا فإن الخطاب التكليفي مرتفع عن الصبي فإذا بلغ وقع عليه التكليف ، فسقوط التكليف قبل البلوغ ثم ثبوته بعد ليس باختلاف في الخطاب وإنما وقع الاختلاف في العوائد أو في الشواهد ) الموافقات ج 2 ص 205

( إن بعض الوقائع تنتقل من حكم شرعي إلى حكم شرعي آخر ، إذا كانت الوقائع مستندة إلى نوع من العادات التي تتبدل وتتغير ، وعرف أن الشارع أذن بانتقالها من اصل شرعي إلى اصل شرعي .

كما توجد عادات شرعية ، أو عادات ثابتة ولكنها غير الشرعية  : فهذان النوعان لا يخضعان لظروف الأزمنة والأمكنة والأحوال ، وما عداهما يخضع لعادة الناس وعرفهم ، وهو معنى القاعدة المعروفة في الفقه " العادة محكمة " .) ص 187 يوسف حامد العالم في رسالته للدكتوراة بعنوان " المقاصد العامة للشريعة الإسلامية "

وإذن فمن الواضح إجمالا أن العادة لا تكون محكمة إذا أحلت محرما أو حرمت حلالا أو كانت اتباعا للهوى

إنه من المعلوم – كما يقول الأستاذ الدكتور يوسف حامد العالم:  94- ص 96  تلخيصا عن الإمأم الشاطبي - ( أن قصد الشارع من وضع الشريعة هو دخول المكلف تحت أحكامها ليخرج بذلك عن داعية هواه . حتى يكون عبد الله اختيارا كما أنه عبد له اضطرارا - أنظر الموافقات للشاطبي – 2\120 صبيح – وقد جاءت الأدلة بذلك في إثبات مقاصد الشريعة ، كما جاءت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية بذم اتباع الهوى ، ودلت العادات والتجارب على أن اتباع الهوى والمشي مع الأغراض والجري وراء الشهوات بدون قيد لا بد أن يؤدي إلى التهارج والتقاتل وإهلاك الحرث والنسل المضاد لمقاصد الشارع ، فاتباع الأهواء أمر قد توارد النقل والعقل السليم على ذمه - الموافقات للشاطبي – 2\120 صبيح –

وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز لأحد أن يدعي على الشريعة أنها وضعت على مقتضى تشهي العباد ، وأغراضهم . ( أما الوجوب والتحريم فمصادمتهما لمقتضى الاسترسال في متابعة الهوى والأغراض ظاهرة ، لأنه بمثابة القول له افعل كذا ، كان لك غرض فيه أم لا ، ولا تفعل كذا كان لك فيه غرض أم لا ، فإذا اتفق للمكلف فيه غرض موافق وهوى باعث على مقتضى الأمر أو النهي فبالعـَرَض لا بالأصل ) الموافقات للشاطبي – 2\120 صبيح

( وأما بقية الأقسام – الإباحة والندب والكراهة التنزيهية - وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرة المكلف فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره ، فهي راجعة من ناحية أخرى إلى إخراجها عن اختياره ….

وإنه ليترتب على توارد الأهواء والأغراض المتعارضة على الشيء الواحد انخرام النظام ولذا قال تعالى " ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن " 71 المؤمنون )

وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ضمن الثلاثة المهلكات الهوى المتبع ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :  ( إذا رأيت شحاً مطاعاً و هوى متبعاً و دنيا مؤثرة و إعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك و دع العوام ، فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلٍ يعملون مثل عملكم ) أخرجه الترمذي / 3058 / و أبو داود / 4341 / و ابن ماجه / 4014 / } ولعل المراد بالعوام في الحديث العامة الذين هم أقرب إلى الاسترسال مع العادات والتقاليد والأعراف .

( وإذن فإن إباحة المباح لا توجب دخوله تحت اختيار المكلف إلا من حيث كان قضاء من الشارع ، وإذ ذلك يكون اختياره تابعا لوضع الشارع ، وغرضه مأخوذا من تحت الإذن الشرعي ) الموافقات للشاطبي – 2\122 - 123صبيح

ويذكر الأستاذ  الدكتور مصطفى زيد شروط اعتبار المصلحة فيقول : ( إن الأئمة متفقون على أن الشارع قد راعى مصالح المكلفين فيما شرع لهم من أحكام في المعاملات والعادات ، على أن المصلحة يجب أن تراعى وتبنى عليها الأحكام :

1- حيث لا نص ولا إجماع ولا قياس

2- وحيث تقتضي الضرورة رعايتها مع وجود النص والإجماع  ) في كتابه " المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي  نشر عام 1964 م دار الفكر العربي ط 2 ص    145 "

إن رعاية المصالح الملحوظة أساسا في قاعدة تغير الفتوى بتغير العادات وفقا لما شرحناه هي ما تم تقريره بصورة أخرى في المقاصد الخمسة  بمراتبها الثلاثة ( الضرورية والحاجية والتحسينية) ثم هي أخيرا في ربطها بالمصلحة العليا في الآخرة  فهي لا تعتبر في الشريعة الإسلامية إلا من حيث تقام الدنيا للأخرى والدليل على ذلك ما سبق أن بينه الشاطبي من أن الشريعة إنما جاءت لتعبيد الإنس والجن اختيارا بعد تعبيدهم إجبارا ، " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " ولكي يتم ذلك لابد من إخراجهم من دواعي أهوائهم  لقوله تعالى ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ) ولأن المقاصد يختلف فيها النافع بالضار وحينئذ يقدم الأكثر نفعا كما يحكم بذلك العقل السليم ، فإذا تعارضت مصالح الدنيا مع مصالح الآخرة قدمت مصالح الآخرة ومقاصدها لأنها هي الحياة وهي البقاء : ( وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ) ( والآخرة خير وأبقى ) . وهذا هو الفارق الجوهري  بين مقاصد الشريعة والمصالح المعتبرة فيها وبين مقاصد العلمانية  والمصالح المعتبرة فيها، وهو بعد ذلك فارق في النموذج الحضاري بين كل منهما  .

 

******

إن إطلاق القول بتغير الفتوى بتغير العادات والتقاليد دون إلحاقها بالنص على شروطها كما بيناه منزلق خطير وأصل من مقولات العلمانية المعاصرة التي تعمل على إلغاء الشريعة الإسلامية

وقد سبق إليها رواد العلمانية في العالم الإسلامي ، و عبر عنها باستحياء الكاتب العلماني الشهير " توفيق الحكيم " في مقال له بعنوان " الشريعة بين الجمود والتغيير"  وقد رددنا عليه حينذاك بمقال لنا بالأهرام بتاريخ 9\6\1978  :( تلك كلمة حق يراد بها باطل ، ذلك أن تصور المصلحة يتغير بتغير الفلسفات والنظريات والمعتقدات والآن : ما هي المصلحة في حكم الشريعة الإسلامية ؟ هذا هو السؤال ومن ثم يكون علينا أن نعرف أولا ما هي الشريعة وما أحكامها لنعرف منها ما هي المصلحة وليس العكس)

وكيف لشريعة أخرى أن تسبق الشريعة الإسلامية  إلي تقدير المصلحة وهي لا تستقيم في تقديرها لهذه المصلحة بحكم خلوها من ربط مصالح الدنيا بالآخرة ، خلافا للشريعة الإسلامية بمقاصدها الخمسة في حفظ الدين والعقل والنفس والمال والنسل ، بطبقاتها الثلاثة : الضرورية والحاجية والتحسينية ، وأولوياتها من حيث إن المقاصد التحسينية والحاجية ليست مقصودة لذاتها أو مخترعة بحالها في الشريعة الإسلامية ، وإنما هي معتبرة من حيث تعد مكملة للضروريات ، فلا عبرة لمقصود تحسيني يعارض مقصودا حاجيا ، ولا لمقصود حاجي يعارض مقصودا ضروريا ، فالعبرة في النهاية بقيام المقاصد الضرورية على الوجه الأكمل " انظر الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات ج2  ص18 ط تونس وج 2 ص 25 طبعة المنار ، والاعتصام ج 2 ص 295 -  303 – 307 - 313

وبذلك تلغى كل المقاصد التحسينية أو الحاجية غير المعتبرة أي التي تؤدي إلى فساد المقاصد الضرورية ، وفي أعلاها مقاصد الآخرة ، فهي أصل لكل المقاصد الأخرى ، إذ أن أي تكملة تؤدي إلى فساد أصلها – فإنها لا تصح كما يقول الفقهاء ، والعقلاء أيضا

وعلى هذا الأساس يجب التمسك بالمقاصد الضرورية ولو أدت إلى إلغاء المقاصد الحاجية أو التحسينية أو المقاصد الضرورية الأقل أهمية من مقصد حفظ الدين والحياة الأخرى .

وكيف لمقصود تحسيني في تجميل طريق ، أن يقدم على مقصود حاجي في رفع المشقة عن السير فيه ، وكيف لمقصد حاجي في رفع المشقة عن السير فيه أن يقدم على المقصد الضروري في قطع بعض مراحله ، وكيف لمقصد ضروري في قطع بعض مراحله أن يقدم على المقصد الضروري الأصلي في الوصول إلى الهدف منه  وفقا للهدف الأصلي من بنائه طبقا لإرادة مالكه ؟

إن الأخذ بالمصلحة في التشريع الإسلامي ليس بالإطلاق الذي يطلقه العلمانيون باعتبارها الأصل الحاكم ، وإنما  له شروط وضوابط: أهمها الملاءمة لمقاصد الشرع بحيث لا تنافي أصلا أعلى من أصوله ولا دليلا أولى من دلائله ، ومن أهم ضوابطها أن تندرج في مقاصد الشارع الخمسة مع علو مصالح الآخرة على جميعها ، وألا تتعارض مع الكتاب ، أو السنة ، أو الإجماع ، وألا تتعارض مصلحة مع مصلحة أهم منها …

ولا تقاس اتجاهات العلمانية في إطلاق تحكيم المصلحة والعرف  على عواهنها ، بقولهم :  ( حيثما توجد المصلحة توجد الشريعة وحيث تنتفي المصلحة تنتفي الشريعة ) بما ذهب إليه نجم الدين الطوفي الحنبلي في القرن السابع الهجري  ، فالرجل – أي الطوفي - بالرغم مما قيل في نقده علميا حيث كانت له شبهات في تقديم المصلحة على النص ،  رجح الأستاذ الدكتور مصطفى زيد أنه رجع عنها  ثم أنسيت أطروحته إلى مشارف القرن العشرين ، فلما نشرت أخيرا نقدها كبار العلماء نقدا قويا  .

نقدها  العلامة الأستاذ الكبير الشيخ محمد زاهد الكوثري وقال عنه إنه : ( من جملة أساليبهم الزائفة  في محاولة تغيير الشرع بمقتضى أهوائهم ) ثم يقول : ( سل هذا الفاجر ما هي المصلحة التي تريد بناء شرعك عليها ؟ إن كانت المصلحة الشرعية فليس لمعرفتها طريق غير الوحي ، حتى عند المعتزلة الذي يقال عنهم إنهم يحكمون العقل .. وإن كنت تريد المصلحة الدنيوية على اختلاف تقدير المقدرين فلا اعتبار لها في نظر المسلم عند مخالفتها للنص الشرعي .. وأما المصلحة المرسلة وسائر المصالح المذكورة في كتب الأصول وكتب القواعد ففيما لا نص فيه باتفاق علماء المسلمين ، فلا يتصور الأخذ بها عند مخالفتها لحجج الشرع  ) ثم قال ( وهذه كلمة لم ينطق بها أحد من المسلمين قبله ولم يتابعه بعده إلا من هو أسقط منه ) في مقا له عن " شرع الله في نظر المسلمين " نشر ضمن كتابه " مقالات الكوثري " نشرة الأزهر ، ص 94- 96- 257 – 261

ونقده الشيخ العلامة الأستاذ الكبير الدكتور محمد مصطفى شلبي وهو يقرر أنه – أي الطوفي – ( ركب متن الغلو في بعض المواقف ، وأن هذا ألجأه إلى الاستدلال أحيانا بما لا يسلم له أو بما لا يفيد ، ويضرب لهذا مثلا لادعائه الاتفاق على المصلحة ) في كتابه " تعليل الأحكام ط 1947 ص 295م

ونقده  العلامة الأستاذ الكبير الشيخ محمد أبوزهرة حيث استعرض أدلة الرجل ، وانتهى إلى أنها أقوى دلالة على نقيض ما ذهب إليه ، ثم انتهى إلى أن رأيه " شاذ بين علماء الجماعة الإسلامية عموما وعلماء المذهب الحنبلي خصوصا "  ثم وازن بينه وبين الشيعة الإمامية فحكم بأنه منهم ، ونقل عن ابن رجب ما يعزز هذا الحكم ، في كتابه عن " الإمام أحمد بن حنبل ص 307- 313 "

. ونقده  العلامة الأستاذ الكبير الشيخ عبد الوهاب خلاف الذي انتهى من دراسته  إلى أنه (  قد فتح بابا للقضاء على النصوص ، وجعل النص أو الإجماع عرضة للنسخ بالرأي ، لأن اعتبار المصلحة ما هو إلا مجرد رأي وتقدير ، وربما قدر العقل مصلحة وبالروية والبحث قدرها مفسدة ، فتعريض النصوص لنسخ أحكامها بالآراء وتقدير العقول خطر على الشرائع الإلهية وعلى كل القوانين ) في كتابه " مصادر التشريع الإسلامي عام 1955وكتابه الاجتهاد بالرأي ط 1950 ص 89-93

ونقده  العلامة الأستاذ الجليل الشيخ علي حسب الله فعرض لرأي الطوفي - كما يقول الدكتور مصطفى زيد – وحكم بأن فيه مغالاة ، وفيه افتراض لما يبعد وقوعه من تعارض المصلحة المحققة مع النص المقطوع به ) في كتابه " أصول التشريع الإسلامي " ط 1964ص158

 

ونقده الأستاذ العلامة الأستاذ الدكتور محمد يوسف موسى  فرأى : أن رأي الطوفي في المصلحة إنما هو اجتهاد منه أخطأ فيه ، إذ أن المصلحة دليل شرعي حقيقة ، ولكن  في دائرة النصوص فقط ، ولهذا لا ينبغي بحال أن تقدم مصلحة على نص عارضها لأن هذا نوع من نسخ النص وقد مضى زمنه بانقطاع الوحي . في كتابه " البيوع منهج ونطبيقه " ط 1953 ص 18-20 ( راجع كتاب الدكتور مصطفى زيد أنظر  كتابه " المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي " نشر دار الفكر العربي ط  1964ص 163 – 164-168-172)

ونقده الأستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي حيث ذراه مع الريح ترابا …في كتابه عن " ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية " وهو رسالته للدكتوراة التي حصل عليها من الأزهر لعام 1965.

ومهما قيل عن رأي الطوفي في النص والمصلحة فإن الهامش الصحيح فيها بغير خلاف  : ترجيح المصلحة الضرورية المقطوع بها – فرضا – على النص على فرض تعارضها معه ،  وترجيح النص عليها إن كانت تحسينية ، أما إلحاق الحاجية  بالضرورية ففيه الخلاف ، وهذا من قبيل إعمال  النص لا تعطيله في قوله تعالى ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ) البقرة 173 (  وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ، وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين ) الأنعام 119 

و بالرغم مما كان من إنساء رأي  الطوفي منذ قال به من القرن السابع الهجري  إلى نشره في بداية القرن الثالث عشر الهجري فقد كان للأمة  آنذاك ضمان سلامة ضده وارد من جهة المجتمع المتشبع آنذاك بقيم الإسلام وشريعته وعقيدته  ، بحيث لا يتصور أن تزل به قدمه وراء تصورات منفلتة أو معادية للشريعة مهما ارتدت من فتوى هذا الشيخ أو ذاك ،الأمر الذي لا يتواطأ مع جو المجتمع الراهن الذي يستمد تصوره للمصلحة  من ضخ العلمانية التي هاجمتنا منذ قرن على الأقل

ولذا فعند  نشر رسالته بعد سبعة قرون - عندما جردها الشيخ القاسمي من شرحه لحديث " لاضرر ولا ضرار " وقدم بين يديها ترجمة وافية له ثم علق عليها ، ثم نقلها السيد رشيد رضا في المنار - أصبحت مثار مناقشة بين بعض كتاب العصر الذين غلبت عليهم العلمانية ، وذلك على إثر ما نشرته مجلة رسالة الإسلام التي تصدرها " دار التقريب بين المذاهب " في العدد الرابع من المجلد الرابع  لكاتب كبير تحت عنوان " نظام الإسلام السياسي" وصل المروق به إلى حد أن  دعا المجالس التشريعية والنيابية في العالم الإسلامي إلى أن تنسخ ما تشاء من آيات القرآن وأحكامه ، بدعوى أن النسخ في القرآن لم ينته حكمه بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بل إن آية " وأمرهم شورى بينهم " نقلت حق التشريع من الله إلى الأمة فالله عز وجل كان هو المشرع ابتداء ثم غدا التشريع إلى الأمة انتهاء " !! - راجع مصطفي زيد في كتابه المصلحة في التشريع الإسلامي ص  171-

وهكذا بدأت حركة العلمانية في الدوران انطلاقا من مبدأ تغير الفتوى  بتغير العرف في تصوره للمصلحة ، بطلقة افتتاح مما نسب إلى الطوفي ، وانبرى للرد عليه كبار المفكرين والعلماء مثل السيد محب الدين الخطيب والدكتور محمد يوسف موسى ، والشيخ عبد اللطيف السبكي ، والشيخ محمود النواوي بمقالات نشروها في مجلتي الأزهر ورسالة الإسلام راجع مصطفي زيد في كتابه " المصلحة في التشريع الإسلامي " ص  171- 172 ، وما زالت المعركة دائرة حتى اليوم مع كثير من المراوغة والسفسطة والتخليط ، والتستر تارة والتبجح تارة أخرى

إن المشكلة تكمن في أن أولئك الذين يضعون المصلحة أساسا تلهث الشريعة إثره إنما تحكمهم معايير زمنية ضيقة محدودة بعمر الدنيا وحدها – وهذا هو الوعاء الزمني الأوسع للعلمانية التي يخدمون في قصورها – يقيسون بها المصالح والمفاسد ، ومن هنا يأتي تناقضهم مع الشريعة الإسلامية ومقاصدها التي هي كما يقول الإمام الشاطبي ( تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى )

وفي هذا الطريق أ صبح الاختلاط الجنسي بغير ضوابط أخلاقية هو النمط السائد في الحضارة المعاصرة والثقافات العلمانية الراهنة : في المكاتب والمعامل والمصانع والجامعات ووسائل النقل والمصايف والمنتزهات والملاهي بالطبع ،  وأصبحت الدعوة إلى تطبيق الضوابط الأخلاقية في هذه الأركان صوتا في فلاة ، أو دعوة تثير السخرية لأنها تأتي من " مغفلين " في " الاتجاه المعاكس " ، وأصبحت الممارسة الجنسية قبل الزواج مصلحة من أجل نجاحه ، أو من أجل تفادي أخطار الكبت ، وأصبح الحب أقدس من الزواج ، وأصبحت العلاقات الجنسية المحرمة مقبولة في مقابلة رفض تعدد الزوجات ، أو حلا عصريا ينبغي تشجيعه أو غض الطرف عنه في مقابلة صعوبة الزواج ، وأصبحت تسهيلات الحرام مساوقة لمعوقات الحلال ، وأصبحت التسهيلات الطبية والاجتماعية والقانونية مطلوبة لممارسات المراهقين والمراهقات فيما يسمى " الصحة الإنجابية " وتمكين الشباب من تفادي الحمل - بتوزيع العازل الذكري مجانا عليهم وعليهن - أو إجهاضه بطريقة مأمونة ، كحق من الحقوق الإنسانية حسب مؤتمرات عالمية كبرى بدءا من بكين عام 1995 وتوابعها إلخ

وفي هذا الطريق أيضا أصبح الفن بكل أنواعه وأشكاله وألوانه "سموا بالروح " و " رقيا في الحضارة " و " ساعة للقلب " " وجمالا في الإحساس" و " مهنة " يفتح لها باب من كواليس الراقصات إلى  " موائد الرحمن " ؟ !

ومن هنا نجد كل مظاهر استدعاء الدين لدعم تصورات المصلحة عند القادة من هؤلاء

ومن هنا كان استيلاء الدولة الحديثة في العالم الإسلامي على المؤسسات الدينية – تماما كما استولت على الإعلام والثقافة وكما هي مستولية على الجيوش والشرطة بالطبع  - لتوظيفها جميعا وفقا لتصوراتها عن المصلحة العلمانية

فتأتي الفتوى – مثلا – بجواز الصلح مع إسرائيل أو مقاطعتها ، و تأتي الفتوى بفرض الجهاد ثم تأتي بدحضه أو منعه أو التعتيم عليه وتشويهه باسم الإرهاب ، وتكون الفتوى بجواز التعاون مع الاحتلال الأجنبي ثم تأتي بتحريم التعاون  مع " عدو هذا الصديق " وتكون الفتوى بحلاوة وبهاء وجمال سواد عيون الديموقراطية عندما يأتي بها الوحي من البيت الأسود ، ، ثم تكون بتجنبها عند ما يكون ذلك ضمن تصور آخر للمصلحة تبعا لسياسة علمانية في استئصال التيارات الإسلامية .

إنه ما من حاكم – مسلما أو غير مسلم – إلا وهو يستهدف " المصلحة " وفقا لتصور معين ، فهو إذن يحكم بالشريعة ، وإذن فكل حاكم على ظهر هذه الأرض – إلا ما ندر من طفولة أو سفاهة أو جنون  - يحكم بالشريعة !! هكذا وفقا لما سمعناه من بعض المفتين  في حلقة تليفزيونية بتاريخ  (  حلقة بلا حدود قناة الجزيرة بتاريخ 7\10\2004 ) ومن هنا سقطت أو تسقط كل الشعارات التي دعت أو تدعو إلى تطبيق الشريعة ، وصارت لغوا من القول !! بل إنه لينطبق حتى على إبليس وهو يجاهد في تصوره لمصلحة تحطيم " النموذج الآدمي " غير المستحق للسجود !!

إن ضلال هؤلاء جاء من جهل بعضهم وتجاهل آخرين منهم أن تصور الشريعة للمصلحة هو الأساس للمصالح الأخرى ومقدم عليها فيجب التضحية بما قد يتعارض معها ،  إبقاء للشريعة وحفاظا عليها ،  وذلك على العكس من تصورات العلمانيين قاطبة في فرض تصوراتهم الخاصة عن المصالح الدنيوية ، غافلين عن مصلحتهم العليا في ربطها بالآخرة ،  بمساعدة غفلة موظفيهم من رجال الدين .

ويتمسح دعاة المصلحة كقائد حاكم للتشريع بالحديث النبوي ( أنتم أعلم بشئون دنياكم ) كأنهم يخبروننا بلسان الحال : أن الإسلام قدم إليهم في خطاب سري استقالته من كل وظائفه التي تقلدها في أنظمة شئون الحياة الدنيا في السياسة والجهاد والاقتصاد والقضاء والإدارة والتربية ..

وبالرغم مما في هذا الرأي من سطحية ، فقد تكفل بدحضه الإمام الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر ببيان أن للشريعة مقاصد وأحكاما ، وبين أن تأبير النخل الذي جاء الحديث السابق في سياقه إنما يدخل في باب الوسائل التي تقام بها المقاصد والأحكام ، أنظر كتابه " نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم ) ص 192 ط القاهرة 1344 هـ

فكشف عن أن وضع تلك الوسائل ليس مطلقا ولا مصلحة حاكمة على الشريعة أو محددة لها : ولكنها إنما تقبل أو لا تقبل تحت تحديد المصلحة  الأعلى وإرادة المقصد الحاكم : الشريعة

إن عقل الإنسان لم يمنح له لكي يسبق الشريعة ويتقدم عليها ببيان ما هي المصلحة ثم لتلهث الشريعة خلفه ، وإنما أقصى ما يكون له : أن ينظر في ورقة التشغيل التي وضعها الصانع ، وأن يلتزم بها كأدق ما يكون الالتزام .

ومن هنا وجب أن نقرر أن التشريع لمصلحة الإنسان هو من حق العالم الصانع الخالق

وكل كلمة إنما تأتي تبعا لكلمة الله

وإذا قلنا إن التشريع على هذا النحو هو من حق الصانع الذي يضع لك خطة البناء وخطة التشغيل  فإننا نكتشف بالتالي أن من شرع لك فإنه يستعبدك ، كشأن " السيارة " مثلا : تظل عبدا لمن رسم لها الخطة والشغل والهدف .

يقول الدكتور هرمان راندال في كتابه " تكوين العقل الحديث " عن تأثير جون جيرمي بنتام في حركة التشريع في القرن الثامن عشر : ( إن الناس أخذوا يسعون لتقليد الله بوضع قوانين للمجتمع البشري فما صنعه الله للطبيعة والإنسان معا يصنعه المشرع للمجتمع .. ) وفي هذا بيان لقوله تعالى :

" اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله  " فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى هذه الآية فقال : " كانوا يحرمون لهم ويحلون "

وهل كانوا يذهبون أبعد مما قيل بإطلاق أثيم  : " حيثما تكون المصلحة تكون الشريعة " ؟؟  وحيث تنتفي  ينتفي ؟؟

وهل كانوا يذهبون ابعد مما قيل بإطلاق مرفوض  إلى ( تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد " ) ؟؟

أليست الساحة المستباحة اليوم بحاجة أشد – بعد أن وصل سلطان العرف في الفكر المعاصر إلى ما وصل إليه -  إلى أن نطلق  مصطلحا احترازيا مشتقا جديدا قديما :  ( صيانة الفتوى عن أهواء العرف والعادات والتقاليد )

والله أعلم .

المصدر :

 

yehia_hashem@ hotmail .com

 http://www.yehia-hashem.netfirms.com

 

 

 

 

 

 

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 3779

 تاريخ النشر: 08/09/2008

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1207

: - عدد زوار اليوم

7448191

: - عدد الزوار الكلي
[ 32 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan