نقد التفسير العددي للقرآن الكريم
بقلم : الدكتور أحمد محمد الفاضل
سلسلة نقد التفسير المعاصر للقرآن الكريم
بقلم: د. أحمد محمد الفاضل
مدرس التفسير وعلوم القرآن الكريم
نقد التفسير العددي
لقوله تعالى: ) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ( [التوبة:109].
وتحطمت الطائرات في برجي التجارة العالميين في نيويورك، وكان حدثاً عظيماً، أذهل البشرية، وهزَّها هزاً عنيفاً..
وقد أفرح هذا الزلزال أناساً كثيرين، وأثلج قلوبهم، لأنه شفى صدورهم، وأسكن نفوسهم؛ لأن أمريكا تمادت في عدوانها، وأسرفت في طغيانها، فما أجدرها – برأيهم – أن تُنكب، وأن تُصاب بالكوارث، وأن تُحيط بها الدوائر...
وكما صدع السابقون بفرحهم العارم، حزن آخرون، واغتموا، إما لفقد أحباب لهم، كانوا في أحد البرجين، وإما لأنهم أحسوا بما أُوتوا من معرفة وفكر ثاقب بأن بلاءً مستطيراً، وكيداً فظيعاً يتربص بالمسلمين في كل مكان إثر هذا العمل الأرعن الذي حسب أًصحابه المنفذون المباشرون، والمخططون البعيدون، أنه سيكون انتصاراً مؤزراً كالانتصارات التي كانت على أيدي المسلمين في معاركهم الكبرى، فما هو من الانتصار ببدر واليرموك وحطين ببعيد...!!
لكنَّ الأمر جاء كما فطن له ذوو الألباب وأُولوا البصائر الذين لا ينظرون إلى الحدث نفسه، بل يَحدُّون النظر ويطيلون التأمل في الحدث وما قبله، وما وراءه، ويرون بعيون قلوبهم ما لا يراه غيرهم بعيون رؤوسهم، فقد نال المسلمين ما نالهم غب هذه الغزوات!! فاجتيحت أفغانستان وبعدها العراق وأُلصقت بالإسلام والمسلمين كل شنيعة وكل معرة، وما زالت النكبات تصيبهم وتلاحقهم، وكان من آخرها ما ادَّعاه الأفاكون المفترون في حق سيد الخلق ذي الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم....
وبعد الذي جرى تحفزت فئةٌ من الناس فأخذت تبحث عن هذا الحدث الخطير في القرآن الكريم، لأن هذا الكتاب – بزعمهم – لا بد أن يكون قد أشار إلى ذلك إشارة قريبة أو بعيدة.. فهو الكتاب الذي لا يفوته شيء، إذ هو تبيانٌ لكل شيء!!
وبعد لأيٍ (أي تعب) عثروا على الصيد السمين والكنز الدفين الذي يريدون..!!
يقولون: تدمير البرجين كان في الحادي عشر من الشهر التاسع (سبتمبر) والبرجان في الشارع رقم /109/ وهنا الاكتشاف الرائع المدهش!!.. إن الآية القرآنية /109/ وهذا يوافق رقم الشارع!! وأيضاً الجزء الذي فيه هذه الآية من سورة التوبة هو الجزء الحادي عشر من القرآن العظيم، وهذا يوافق اليوم الحادي عشر الذي وقع فيه الحدث الجلل!! ثم يغالون بما لا يعقل فيزعمون أن اسم الشارع الذي فيه البرجان (جرفٌ هار) !!
وكل الذي سبق يدل عليه قوله تعالى: ) ... أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( فهو بنيان شُيِّد على غير التقوى والإيمان، لذلك تداعى فهو خاوٍ على عروشه!!.. ما أعظم هذا التوافق الذي نطق به القرآن العظيم قبل أربعة عشر قرناً خلت!!.. إنه لدلالة قاطعة بأنه كلام الله عز وجل الذي يتجاوز المكان والزمان والغيوب..
هذا ما تدفق به البيان البليغ لبعض الخطباء في يوم الجمعة، وقد شُدِهَ (دُهش) الناس لسماع هذا الكلام العجيب الذي يُبرز إعجاز القرآن العظيم العددي والعلمي!!..
وبعد.. فهل هذا الهراء الساقط إعجاز حواه القرآن كما يزعم هؤلاء؟ لا جرم أن هذا باطلٌ بيِّنُ البطلان وفاسدٌ بيِّنُ الفساد، ودونك الأدلة الناصعة على هذا:
الأول: أن هذه الاصطلاحات – الترقيم للصفحات والآيات، وتقسيم القرآن لأجزاء – كل ذلك طارئ محدث لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة حين كُتب القرآن العظيم، وهي شكلية تخص الشكل والهيئة، ولا علاقة لها بأيِّ جانب من جوانب الإعجاز القرآني؛ لأن الإعجاز إنما يتعلق بالمضمون والمعاني، وليس له من صلة بشكل الحرف وكتابته فضلاً عن هذه الاصطلاحات الطارئة التي اتُّفق عليها فيما بعد.
فكيف يُسوغ في عقل عاقل أن نجعل من مثل هذه المصطلحات البشرية محلاً للإعجاز والتحدي؟!
الثاني: أن أصحاب هذا الإعجاز الباهر، يركنون في إعجازهم هذا على عدد الآيات في سورة التوبة وأرقامها.
وهذه الآية /109/ إنما هي كذلك على قراءة حفص، وأما على قراءة ورش عن نافع فهي مختلفة، إذ تصير / 110/ !! فكيف يُبنى الإعجاز القرآني على أمرٍ مختلفٍ فيه هذا الاختلاف؟!
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا الاختلاف في عدد الآيات، إنما هو ناشئٌ من اختلاف عدِّ آية من الآيات آيتين عند قارئ وآية واحدة عند قارئ آخر، كما في سورة الفاتحة ) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ( فهي آيةٌ واحدة بحسب قراءة حفص والمذهب الشافعي، وهي آيتان بحسب قراءة ورش والمذهب الحنفي.
ونقول لهؤلاء الذين قرروا هذا الإعجاز : لا ريب أن أهل المغرب العربي الكبير – وهم على قراءة ورش – عندما سمعوا بهذا الإعجاز العددي الرائع، فتحوا مصاحفهم ليتأملوا فيه، فوجدوا أن الرقم المعجز /109/ غير معجز في قراءتهم ومصحفهم، لأنه عندهم /110/، فقالوا: يا أهل المشرق! هذا الإعجاز في قرآنكم لا في قرآننا!!!..
أيُّ عاقل يهبط إلى هذا الحد من السخف الساخف في الفكر والعقل والمنطق، ليقول مثل هذا الكلام؟! ومتى كان الإعجاز في القرآن الكريم يفترق من نسخة إلى أخرى؟!
الثالث: إني لأجزم أن هؤلاء المروجين لما يُسمى زوراً وبهتاناً (الإعجاز العددي) هم أتباع الطائفة البهائية القاديانية، والفرق الباطنية التي تؤسِّس اعتقاداتها على الحروف وأعدادها.
ولعل أكبر شاهدٍ على ما أقول ما كتبه رشاد خليفة عن الرقم /19/ في كُتيِّبه (عليها تسعة عشر) والأكاذيب التي ضمها هذا الكتيب، ثم تبين بعد حين أن رشاد خليفة قادياني المذهب والاعتقاد، وكانت نهايته الوخيمة في أمريكا..
وهذه الفرق المنحرفة الضالة المعاصرة لها جذورها في الماضي، وقد بين فضائحهم ومخازيهم الإمام الغزالي في كتابه (فضائح الباطنية).
فإذا كان الشأن كما ذكرنا وبيَّنا، فليتق الله تعالى الدعاة والخطباء الذين يحملون مثل هذا الغثاء، ثم يبثونه بين المسلمين دون وعي وإدراك لنتائجه في المستقبل على عقولهم وعقائدهم.. وما أجدر أن نتحرى في مثل هذا؛ لأن قرآننا العظيم يأمرنا بذلك إذ يقول: ) وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤولاً ( [الإسراء:36].
التعليقات:
2 |
|
|
مرات
القراءة:
4653 |
|
|
تاريخ
النشر: 14/11/2008 |
|
|
|
|
|
|