::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مقالات متنوعة

 

 

ذكورية التربية في المجتمعات العربية

بقلم : سهير أومري  

 

يقول المتنبي:

وَمَا التأنيثُ لاسم الشمسِ عَيْبٌ ... ولا التذكيرُ فخرٌ للهلال

 

مواقف وعبارات نراها ونسمعها في مجتمعاتنا وأسرنا العربية تتكرر أمامنا كل يوم تتعدى موقف الفرح عند إنجاب الولد والحزن عند إنجاب البنت، وتتعدى افتخار الحامل بالذكر على الحامل بالأنثى، والإكرام الذي تحظى به الأولى من قبل المجتمع إلى قضية أهم وأعمق تأثيراً، وهذه المواقف تتلخص في تربية الولد أي الذكر بطريقة تعزز فيه أنه أعلى درجة من الأنثى وأنه مقدم عليها في الحقوق ومقدم عليها في الصلاحيات هذه القضية التي تسود أسرنا العربية على نحو شائع وبطرق عديدة تتجلى في مواقف مختلفة منها المواقف التالية:

منذ أن يبدأ الطفل (الذكر) بالتمييز والإدراك وقبل أن يتجاوز عامه الرابع أو الخامس كثيراً ما نسمع من والديه عبارات يزرعانها في نفسه تتأصل جذورها لتمتد وتمتد ثم تؤتي أُكُلَها مع تقدُّم سنّه، فعندما يتشاجر الطفل مع أخيه مثلاً ويبكي يقولان له مستنكرَين: "أهكذا يبكي الرجل" وعندما يبدي خوفاً من أمر ما يقولان له: "الرجل لا يخاف" وربما يهددانه بأن يضعا له قِرطاً في أذنه ليصبح مثل البنت لأنه يخاف، أما عندما يقع ويتألم ويبكي فيحاولان أن يشدّا أزره ويشجعاه بقولهما: "أنت مثل فلانة الطفلة... ما هذا!! أنت تبكي!! الرجل لا يبكي" وإن قام الطفل بعمل متميز كأن نجح في تركيب المكعبات فصنع بيتاً، أو رسم بضعة خطوط على الورقة، أو قام بترتيب غرفته، أو ذهب إلى سريره لينام ولم يخف من الظلمة، فيكون الثناء عليه بأنه أصبح رجلاً حقاً وأثبت ذلك بجدارة، وفي كل مرة تُلفط أمامه كلمة رجل تلفظ بطريقة "أبو شهاب وأبو عصام" نفسها يعني بتشديد الجيم ومد الألف لتصبح (رجّــاااال)، وفي كل مرة يودّان فيها توبيخه أو تعنيفه تكون بتشبيهه بالأنثى أو تهديده بأن يصبح أنثى....

وينمو هذا الأمر ويتفاقم مع تقدم الطفل (الذكر) في السن فعندما يصبح فتى يافعاً، فحدّث ولا حرج عن قائمة المسموحات التي يتمتع بها الولد التي تُمنح له لا لشيء إلا لأنه ولد، عدا عن ردود الفعل التي يلاقيها تجاه أخطائه والتي تكون بسيطة جداً فيما لو كان الذي ارتكب الخطأ ذاته بنتاً، فمن السماح له بالخروج والتأخُّر عن المنزل والدراسة عند أصحابه إلى تقبل محاولته للتدخين وغيرها.... ويغيب عن الوالدين أمر هام أن انحراف الولد لا يقل خطورة عن انحراف البنت أبداً بل ربما كانت له نتائج اجتماعية تؤدي إلى هلاك الفتى والقضاء على مستقبله تماماً، وكثيراً ما سمعنا عن فتيان تم الإيقاع بهم في مستنقع الرذيلة والمشكلات السلوكية والأخلاقية وقضي على مستقبلهم بسبب الصلاحيات التي كانوا ينالونها في أسرهم وعدم الاكتراث لأخطائهم والمبادرة إلى علاجها لا لشيء إلا لكونهم ذكوراً يحق لهم ما لا يحق لأخواتهم من الإناث.

مع أن الله تعالى في محكم تنزيله لم يفرق بين الذكر والأنثى لا في التكليف ولا في الحدود ولا في الأجر والحساب، فكلاهما في الأجر والمثوبة سواء قال تعالى: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)" غافر

وكذلك كلاهما في العقوبة والحساب سواء فالله تعالى لم يجعل خطيئة الرجل أياً كانت أهون من خطيئة المرأة قال تعالى: "لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73) الأحزاب

أما في السلوك والأخلاق فقد أمر الله تعالى كلاً من الذكر والأنثى بالالتزام بحدود الله على حد سواء فمثلاً أمرهما بالابتعاد عن مقدمات الزنا والالتزام بالعفة والفضيلة وقال تعالى: " قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ... (31)" النور

ولم يعل الله تعالى خطيئة الزنا فاحشة للمرأة وذنباً صغيراً للرجل بل جعل الله تعالى عقوبة الزنا للذكر مثل الأنثى تماماً قال تعالى: " الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ... (2)" النور كما جعل عقوبة السارق مثل عقوبة السارقة تماماً

ويتعدى الأمر خطورة عندما يشبّ الفتى ويصبح رجلاً ناضجاً (في السن) إذ يترسخ في نفسه أن نعته بالمرأة إنما هو سبة رديئة، بل أكبر سبة توجه له، وبالتالي فإن أراد أن يسب أحداً فأوجع كلمة يوجهها له أن ينعته بالمرأة... وكذلك فقد شاع في مجتمعاتنا أن من عبارات الثناء على المرأة بأن يقال لها: "أخت رجال" ناسين أن الكثير من الصفات التي يزعم الرجال أنها تخصهم دون النساء كثيرون منهم يفتقدونها وما ذلك إلا لأنها صفات إنسانية منها ما يكون مكتسباً بالفطرة أي موروثاً ومنها ما يتحلّى بها الإنسان (ذكراً كان أو أنثى) بسبب عوامل اجتماعية وبيئية يعيشها، فالشجاعة مثلاً صفة إنسانية لا علاقة لها بالمرأة والرجل، ولربما تمتعت بها المرأة إلى حد يفوق الرجل بدرجات، وكثيرة هي القصص التي تحدثنا عن شجاعة النساء عبر التاريخ منها قصة صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم عندما قتلت ذاك الذي اقترب من حصن النساء في غزوة الخندق بينما لم يستطع الصحابي الجليل والشاعر الكبير حسان بن ثابت أن يقترب منه ليدافع عن النساء المسلمات حتى لم يستطع الاقتراب منه بعد قتله ليأخذ سلاحه، وقبل كل هذا لم يقدر أن يخرج مع المسلمين لمواجهة العدو لما كان يفقده من الشجاعة ورباطة الجأش وقوة القلب مع أن أحداً لا ينكر قوته وجرأته في مواجهة المشركين من أهل مكة ولكن شجاعته كانت تكمن في شعره فقط...

ومثل الشجاعة صفات أخرى كثيرة يظن الرجل أنها ترتبط بالرجولة وأنها حكر عليه فقط، ولكنها في الحقيقة صفات إنسانية من الممكن أن تتحلى بها المرأة كما يتحلى بها الرجل تماماً، كالحكمة في إدارة المواقف والتعامل مع الأمور، والشهامة والنخوة، والحزم، واتخاذ القرار، والوفاء بالوعد كما يقولون (كلام رجال).....

ويرفع الكثيرون من الرجال في مجتمعاتنا راية تفوّقهم على الأنثى بأن الله تعالى جعل للرجل عليها درجة متذرعين بقوله تعالى: " وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)" البقرة، ولكن من المناسب أن نوضح أن هذه الدرجة التي جعلها الله تعالى للرجال على النساء إنما هي درجة تكليف وليست درجة تشريف إنها درجة تقضي بأن يكون الرجل قوّاماً على أمور المرأة ومسؤولاً عنها ليقوم بحاجاتها ومتطلباتها وينفق عليها وليس بأنه يفضلها ويفوق عليها بأصل تكوينه وخلقه....

فما أجدرنا ونحن على أبواب نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة أن نعيد التفكير في طرق معاملتنا لأبنائنا والأسس التي ننشئهم عليها، وأن نزرع فيهم احترام الأنثى وتقديرها والاعتراف بما منحها الله تعالى من صفات وقدرات، وترسيخ مبدأ هام في نفوسهم وهو أن الصفات الإنسانية الحميدة أو القبيحة لا تتعلق بالذكر والأنثى، وإنما هي صفات موروثة أو مكتسبة يتصف بها كل منهما بحسب أسرته وبيئته، أما ما اختُصَّ به الذكر فإنما هي صفات جسدية، وبالمقابل فقد اختصت الأنثى كذلك بصفات جسدية تميزها على الرجل، فكل منهما خصَّه الله تعالى بصفات معينة وما ذلك إلا لغاية عظيمة وهي عمارة هذه الأرض واستمرار الحياة عليها....

وما أجدرنا بأن نعزز مكانة الأنثى التي هي نصف المجتمع وتلد وتربي النصف الآخر، ويطيب لي في هذا المقام أن أتوجه إلى كل رجل ولدت له أنثى لأنقل له عبارات تهنئة بليغة وردت في كتاب معاهد التنصيص على شواهد التلخيص لمؤلفه: "العباسي" جاء فيها: " أَهلاً وسهلاً بعَقيلة النساء، وأم الأبْناء، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، ومبشرة بأخوة يتناسَقون، ونجباءَ يَتلاحَقون. فادَّرع يا سيدي بها اغتباطاً، واستأنف نشاطاً، فالدنيا مؤنَّثة، والأرض مؤنَّثة ومنها خلقت البرية، وفيها كثرت الذرية، والسماء مؤنَّثة، وقد زينت بالكواكب، وحليت بالنجم الثاقب، والنفس مؤنَّثة، وبها قوام الأبدان، ومِلاك الحيوان، والحياة مؤنَّثة، ولولاها لم تتصرف الأجسام، ولا عُرف الأنام، والجنة مؤنَّثة، وبها وُعِد المتقون، وفيها ينعم المرسلون، فهنيئاً هنيئاً ما أُوليتَ، وأوزعك الله شكر ما أُعطيتَ...."

 

 

 التعليقات: 6

 مرات القراءة: 3453

 تاريخ النشر: 16/11/2008

2009-01-05

هيثم

جزاك الله خيرا

 
2008-11-17

سامي

مشكلة كبيرة تعاني منها مجتمعاتنا، والسبب في ذلك كما أرى هو جهل الأهل في الدرجة الأولى، والاعتقاد أن الرجل هو المخلص الأول.... بينما أن أرى شخصيا ً أن الرجل هو المعذب الأول... ونسوا أنه لولا النساء ما جاء الرجال, ... وعلى كل حال، أعتقد، كما أنه للرجال دور لا يمكن تجاهله وتجاوزه، للمرأة أيضا ً دور لا يمكن لا تجاوزه وإهماله...

 
2008-11-17

سهير علي أومري

أشكر لكم إخوتي قراءتكم المقال وأرجو أن يجعل الله تعالى فيه النفع العميم وإنني يا أخ شعباني قد رصدت هذه الظاهرة في مجتمعات عديدة وحتى المتعلمة والمثقفة والمتزودة بالثقافة الإسلامية فهم لا يهملون تربية الإناث بل على العكس يتشددون في محاسبتها ومتابعتها أكثر بكثير من متابعة الشاب والإشراف على سلوكه بل حدث ولا حرج عن قائمة المسموحات التي يتمتع بها الشاب وتكون من حقه لا لشيء إلا لكونه ذكراً. وإن تغيير نظرة المجتمع للأنثى برأيي تبدأ من طبقة وعت تعاليم الإسلام بحق وبدأت بتعليم أبنائها ذكوراً وإناثاُ كيف أن المفاضلة بينهما لا تكون إلا على أساس العمل الصالح... أشكرك أخت مروة وأخت رزان على الإطراء الجميل وأسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن علم فعمل وعمل فأخلص .

 
2008-11-16

شعباني

جميل أن يتربّى الولد على الشجاعة و القوة و النخوة والغيرة والشرف وفضائل الأخلاق، ولكن ليس على حساب البنت، ومن النقص في الدين، والجهل في التربية أن توجّه العناية إلى الذكر وتُهمل الأنثى ، وما تتحدث عنه الكاتبة غالباً ما يكون في المجتمعات البعيدة عن تعاليم الإسلام وأخلاقياته، وما هي إلا موروثات جاهلية، وعادات عفنة، وتقاليد بالية، فإن من عرف الإسلام وقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يتبينُ له خطأ ما يفعله أولئك الناس. يجب علينا أن نُعنى بتربية البنات أكثر من العناية بتربية الأبناء، فنحن إذا ربّينا اِبناً ربّينا فرداً واحداً، ولكن إذا ربّينا بنتاً ربّينا أسرةً كاملة، فإذا عُنينا بتربية البنات استطعن أن يُنشئن شعباً مثالياً، نبيلاً في خلقه، قوياً في جسمه، سديداً في تفكيره، صادقاً في قوله، أميناً في عمله، محباً لوطنه، مخلصاً لبلاده، شجاعاً في الحق، مستمسكاً بالفضيلة، مجتنباً للرذيلة، ورحم الله شاعر النيل حافظ إبراهيم حيث قال : الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق الإسلام أنصف المرأة وأعطاها حقوقها كاملة، وحافظ على كرامتها، وأنزلها المنزلة الكريمة، ووقف بجانبها، ودافع عنها، وأزال عنها كل ما لحقها من ظلم وقسوة. الإسلام أكرم المرأة وعاملها معاملة عزيزة كريمة، ومنحها من الحقوق والواجبات ما منح الرجل، منحها حقوقا لم تُمنحها من قبل في أي دين من الديانات أو في أي دولة من الدول. لقد منح الإسلام المرأة حقوقاً إنسانية واقتصادية واجتماعية، وأباح لها الجهاد والعمل وكسب العيش،و مساعدة الزوج، ولم يمنعها من ممارسة نشاطاتها، والقيام بالأمور التي تستطيعها ،وإن جعل الإسلام الرجل قيِّما على المرأة ؛فهذا لا يمسُّ عزتها وشخصيتها واحترامها، بل يجعلها عزيزة مصونة كريمة غير مُمتهنة .

 
2008-11-16

مروة

جزاك الله خيراً ... وما شاء الله أخت سهير ، قلمك مبدع ، وتصوراتك رائعة ، وعرضك لمشكلة الانحياز للذكور على حساب الإناث لغة قوية ... وميزة هذا الموقع أنه يقدم لنا بين الحين والآخر كاتبة متميزة ، وكأنه مصنع مبدعين ومبدعات ... كل الشكر لأدارة هذا الموقع والقائمين عليه ، وفقكم الله للخير .

 
2008-11-16

رزان

جزاك الله خيرا .. حقا قلت و صوابا خط قلمك فمن أعظم الحسنات إكرام البنات فمن رزقه الله بنات ، فأكرمهن ...كُنّ له حجابا من النار فإكرام البنت ، و تعهدها بالبر و الصلة هو الجسر الموصل للجنة فما أجمل تعليمها و الرفق بها و حسن تربيتها لتكون من نساء الإسلام المصونات من الآثام و المحفوظات من اللئام . ***

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 174

: - عدد زوار اليوم

7468421

: - عدد الزوار الكلي
[ 34 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan