::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> دراسات وأبحاث

 

 

موقف الإسلام من الحمَّامات العامة

بقلم : سليمان القراري ، باحث في الفكر الإسلامي  

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والشكر له كما يجب لجزيل نعمائه وكثير ألطافه، والصلاة والسلام على نبيّه ورسوله، محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه.  

أما بعد: فإن الله تعالى شرَع لعباده من الطيِّبات ما لا يُعد ولا يُحصى حتى يتمَّ تكليفُهم وهُم في بسطة من حالهم وسِعة من أمرهم، وجعل دون هذه الطيِّبات محرَّمات معدودة ليختبر دينهم، فحدَّها وبيَّن مفاسدها لتكون معلومة عندهم، وبين تلك الطيِّبات التي أباحها وهذه المحرَّمات التي حظَرها خلق الشُّبُهات التي لا يعلمها كثيرٌ من الناس حتى يصطفي منهم من علِمَها ثم اتقاها. وفي هذا المقال سأحاول ـ بعون الله تعالى ـ دراسة موقف الشريعة الإسلامية من الحمَّامات العامة ـ بناؤها ودخولها ـ وِفق النصوص الحديثية المعنية بها، وبتتبع أقوال الفقهاء بدءاً من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وانتهاء بآراء المذاهب الفقهية، حتى نعرف موقف الإسلام منها، أهو موقف الإباحة فتتنزل الحمَّاماتُ منزلة الطيِّبات، أم هو موقف التحريم فتتنزل منزلة المحظورات، أم  هو موقف بين هذا وذاك.  

أولا: حكم بناء الحمَّامات العامة.

      عملا بالقاعدة الشرعية التي تنصُّ على أن الأصل في الأشياء الإباحة يمكن القول بأن بناء الحمَّامات العامة في الإسلام قصد استعمالها للتنظيف والتداوي مباح، وِفْقَ الشروط الشرعية التي تحثُّ أربابها على التفريق بين الجنسين وأمرهم بالسترة وحجب العورات عن الأنظار، ودليلنا على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: {الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ.}[1] فاستثناؤه عليه السلام الحمَّام من الأرض في كونها مسجدا دليل على إقراره الحمَّام في الأرض وأنه لا ينهى عن الانتفاع به مطلقا، إذ لو كان يحرم بناؤه لم تخصّ الصلاة بالمنع فيه[2]. إلا أن الإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ كرِه بناءَ الحمَّام وبيعه وشراءه مطلقا[3]، ونُقل عنه أنه كان يقول في الذي يبني حمَّاما للنساء ليس بعدل وفي رواية لا تجوز شهادته[4]. ووجه ذلك عند شيخ الإسلام ابن تيمية أن البلاد التي زارها الإمام أحمد الغالب عليها الحرّ وأهلها لا يحتاجون إلى الحمَّام غالبا، ولهذا لم يكن بأرض الحجاز حمَّام على عهد النبوة، مما يعني أن فتوى الإمام أحمد مقيَّدة بالبلاد الحارة دون غيرها[5]. وهذا ـ في اعتقادي ـ بعيد عن المراد، لأن الإمام أحمد ـ وهو الفقيه الذي ذاع مذهبه البقاع على اختلاف أهلها وتنوع مناخها ـ لم يعلق الكراهة إلا بما يقع في الحمَّامات من منكرات، سواء تواجدت في بلاد حارة أو باردة، وهو ما أشار إليه ابن قدامة حين قال: «وإنما كرهه ـ الإمام أحمد ـ  لما فيه ـ الحمَّام ـ من فعل المنكرات من كشف العورات ومشاهدتها..»[6] وذلك اقتداء بابن عمر ـ رضي الله عنه ـ الذي كرِه دخول الحمَّام معللا ذلك بقوله: «إني أكره أن أرى عورة غيري.»[7] لذا فإن الفقيه اليوم عليه أن يُفتي بكراهة بناء الحمَّامات إن طرأ على بعضها منكرٌ من قبيل كشف العورات حتى لا يصير من العادات، أما إن طرأ عليها منكر أكبر كاختلاط النساء مع الرجال وسريان الفاحشة فيها فلا شك في تحريم بنائها ودخولها، أما إن خلَت الحمَّامات من هذه المفاسد فإن الأصل في بنائها الإباحة، وقد بُنيت حمَّامات بالشام على عهد الصحابة ودخلها بعضُهم[8] حين كان الغالب على المجتمع الصلاح قال ابن تيمية: «وقد بُنيت الحمَّامات على عهد الصحابة في الحجاز والعراق على عهد عليٍّ وغيره وأقروها .... وفي زمن الصحابة كان الناس أتقى لله وأرعى لحدوده من أن يكثر فيها المحظور، فلم تكن مكروهة إذ ذاك وإن وقع فيها أحيانا محظور فهذا بمنزلة وقوع المحظور فيما يبنى من الأسواق والدور التي لم ينه عنها، وإن كان يمكن الاستغناء عنها.»[9]

  ولقد قسَّم شيخ الإسلام الكلام في حكم بناء الحمَّامات وبيعها وإجارتها على أربعة أقسام، إما أن يحتاج إليها من غير محظور، أو لا يحتاج إليها ولا محظور، أو يحتاج إليها مع المحظور، أو يكون هناك محظور من غير حاجة إليها. فأما القسم الأول: كأن يبني الرجلُُ حمَّاماً في البلاد الباردة لاحتياج الناس إليه، ويصونه عن كل محظور، فلا شك في جوازه [10]، والقسم الثاني: كأن يبني حمَّاما في البلاد الحارة حيث لا يحتاج إليه كثيرا ويصونه عن كل محظور، فإنه لا يحرم عليه بناؤه أيضا، وقد بُنيت حمَّامات على عهد الصحابة في البلاد الحارة كالحجاز والعراق وأقرها الصحابة[11]، والقسم الثالث: كأن يبني حمَّاما في البلاد الباردة لاحتياج الناس إليه مع احتمال وقوع المحظور، كغالب الحمَّامات التي في البلاد الباردة، فيكون بناؤها معلقا بقاعدة الضرورات التي تُبيح المحظورات، فالغُسل الواجب كغسل الجنابة والحيض والنفاس يقتضي دخول الحمَّام، وكذا المؤكد كغسل الجمعة، والمستحب إن خيف عليه الموت أو المرض حيث لا يجوز الانتقال إلى التيمم مع القدرة على الاغتسال بالماء في الحمَّام[12]، أما القسم الرابع: كأن يبني حمَّاما في البلاد الحارة حيث يمكن الاستغناء عنه مع احتمال وقوع المحظور فيه، كما في حمَّامات الحجاز والعراق واليمن فهذا محل نص فتوى الإمام أحمد وتجنب عبد الله ابن عمر.[13] وفي القسمين الأخيرين نظر فالضرورة إنما تبيح المحظور عند العلم ـ ولو بالظن الغالب ـ بحدوث مفسدة أكبر من فعل هذا المحظور، ولا يتم ذلك إلا بضبط هذه الضرورة ومعرفة قدرها وحظها من المحظور، ثم تُقدَّر المفسدة المحتملة فتعقد الموازنة بينهما وِفق تعارض المصالح والمفاسد، ولا شك أن الناس على أنحاء منهم القوي الصحيح الذي يقدر على الغُسل في بيته، ومنهم الضعيف السقيم الذي يخشى على نفسه فتختلف الضرورة بين هذا وذاك، فإن كان الغالب على الحمَّامات كشف شيء من العورات فقط، فإن ضرورة السقيم الذي يخشى على نفسه الهلاك ترخص له دخول الحمَّام لأنها أكبر من ذلك المنكر، وعلى حد قول العز بن عبد السلام:« إن قدر على الإنكار أنكر، وإن عجز عن الإنكار كره بقلبه فيكون مأجورا على كراهته، ويحفظ بصره عن العورات ما استطاع.»[14] وفي هذه الحالة يكون بناء الحمَّامات مباحا تبعا لإباحة دخولها عند اقتضاء الضرورة، أما إن كان الغالب عليها وقوع الفاحشة أو الاختلاط بين الجنسين أو التعري، فإن المفاسد المترتبة على هذا عامة هي أعظم من كل ضرورة خاصة، فيُحرَّم بناؤها والدخول إليها باتفاق العلماء.

ثانيا: حكم دخول الحمَّامات العامة.

    لمَّا كان الأصل في بناء الحمَّامات الإباحة فمن باب أولى يكون الأصل في دخولها الإباحة إن جاء متبوعا بآداب الشريعة من سترةٍ وحجبٍ للعورات قدر الإمكان، إلا أنه ثمة أحاديث نبوية تخالف هذا الطرح الذي انتهينا إليه بدلالتها على أن الأصل في دخول الحمَّامات التحريم، كالحديث الذي رواه حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ بإسناده إلى أمنا عائشة: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ عَنْ الْحَمَّامَاتِ، ثُمَّ رَخَّصَ لِلرِّجَالِ فِي الْمَيَازِرِ.}[15] فظاهر الحديث يدل على أن النبيَّ عليه السلام إنما رخَّص دخول الحمَّامات ـ للرجال في الأزر دون النساء ـ بعد ورود النهي عن دخولها ابتداء، ونحن إذا علمنا أن الحمَّامات لم تكن موجودة في زمن النبوة، وأن كلامه ـ عليه السلام ـ عنها كان إخبارا عن غيب ـ علَّمه الله إيَّاه ـ ثبت لنا أن حديث حمَّاد بن سلمة لا يرقى إلى درجة الصحة بحال، إذ كيف ينهى النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن شيء لم يثبت فعله ثم يجوِّزه في وقت واحد، وقد يقال بل كان الحمَّام موجودا للحديث الذي أخرجه الإمام أحمد بإسناده إلى ابْنِ لَهِيعَةَ قال حدثنا زَبَّانُ عَنْ سَهْلٍ عن أبيه أنه سمع أُمَّ الدَّرْدَاءِ تقول:{ خَرَجْتُ مِنْ الْحَمَّامِ فَلَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ يَا أُمَّ الدَّرْدَاءِ، قَالَتْ مِنْ الْحَمَّامِ، فَقَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ امْرَأَةٍ تَضَعُ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ أَحَدٍ مِنْ أُمَّهَاتِهَا إِلَّا وَهِيَ هَاتِكَةٌ كُلَّ سِتْرٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرَّحْمَنِ.}[16] ويُجاب عنه: هو معارض لقوله عليه الصلاة والسلام:{إِنَّهَا سَتُفْتَحُ لَكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ، وَسَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا يُقَالُ لَهَا الْحَمَّامَاتُ...الحديث} [رواه أبو داود] كما أن في إسناد حديث أم الدرداء مقال، فعبد الله بن لهيعة تكلَّم فيه غيرُ واحد من النقاد المعتمدين[17]، وكذا زبان بن فائد ضعيف الحديث مع صلاحه وعبادته[18]، وسهل بن معاذ لا يُعتد بحديثه من طريق زبان بن فائد[19]. وحتى شيخ الإسلام لم يطمئن إلى مثل هذا الحديث فقال: « لم يكن بأرض الحجاز حمَّام على عهد رسول الله... والحديث الذي يروى أن النبيَّ دخل الحمَّام موضوع باتفاق أهل المعرفة.»[20]

    لذا فإن المحدثين نظروا إلى حديث حمَّاد بن سلمة بعيون ناقدة وأولهم الترمذي الذي أخرج الحديث في سننه وعلق على إسناده: « هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث حمَّاد بن سلمة وإسناده ليس بذاك القائم.»[21]. وهذا ليس خدشا لعدالة الراوي حمَّاد الذي قال فيه ابن المديني: «من تكلَّم في حمَّاد بن سلمة فاتهموه في الدين.»[22] إنما هي إشارة إلى تغيُّر ضبطه وحفظه في آخر أيامه كما صرَّح بذلك البيهقي[23]. لذا فإن الحديث الذي يمكن التعويل عليه هو ما رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناده إلى عمر بن الخطاب أنه قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقْعُدَنَّ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا بِالْخَمْرِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدْخُلْ الْحَمَّامَ إِلَّا بِإِزَارٍ، وَمَنْ كَانَتْ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا تَدْخُلْ الْحَمَّامَ.}[24] وقد صحَّحه الحاكم في المستدرك[25]، وكذا ابن حبَّان في صحيحه[26]. مما يعني أن أصل دخول الحمَّام بالنسبة للرجل الجواز الذي جاء معلقا بشرط صون العورة ـ ما بين سرته حتى يجاوز ركبتيه ـ مع غض البصر عمَّا لا يحل النظر إليه وقت الاغتسال[27]، وإن كان يغلب على الحمَّام منكرٌ من قبيل كشف العورات فإن الفقهاء كرهوا دخوله من غير ضرورة، لأنه لا يأمن وقوعه في المحظور[28]، أما إن كان لا بد منه لضرورة كالتداوي دفع المضطرُ المنكرَ عن بصره وسمعه ما أمكن، وإن قدر على الإنكار أنكر، وإن عجز كره بقلبه فيكون مأجورا[29].

     أما بالنسبة للنساء فالأصل في دخولهن الحمَّامات التحريم كما هو ظاهر حديث عمر بن الخطاب، وللحديث الذي قال فيه النبي عليه السلام:{..مَا مِنْ امْرَأَةٍ تَضَعُ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلَّا هَتَكَتْ السِّتْرَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا.}[30] وقد استدلت أمنا عائشة بهذا الحديث على منع النساء من دخول الحمَّامات لحديث أَبِي الْمَلِيحِ الْهُذَلِيِّ:{أَنَّ نِسَاءً مِنْ أَهْلِ حِمْصَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ دَخَلْنَ عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ أَنْتُنَّ اللَّاتِي يَدْخُلْنَ نِسَاؤُكُنَّ الْحَمَّامَاتِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا مِنْ امْرَأَةٍ تَضَعُ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلَّا هَتَكَتْ السِّتْرَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا.}[31] قال الترمذي: حديث حسن، وأخرجه الحكام في المستدرك، ورواه أبو داود وابن ماجه والدارمي في السنن[32]، وأخرج الإمام أحمد بإسناده إلى عمر بن الخطاب أنه قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقْعُدَنَّ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا بِالْخَمْرِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدْخُلْ الْحَمَّامَ إِلَّا بِإِزَارٍ، وَمَنْ كَانَتْ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا تَدْخُلْ الْحَمَّامَ.}[33] وقد صحَّحه الحاكم في المستدرك[34] وابن حبان في الصحيح[35]. والملاحظ أن هذه النصوص عامة في تحريم دخول المرأة الحمَّام، وقد جاءت متبوعة برخصة للحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:{إِنَّهَا سَتُفْتَحُ لَكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ، وَسَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا يُقَالُ لَهَا الْحَمَّامَاتُ، فَلَا يَدْخُلَنَّهَا الرِّجَالُ إِلَّا بِالْأُزُرِ، وَامْنَعُوهَا النِّسَاءَ إِلَّا مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ.} [رواه أبو داود] وثبت عن أمنا عائشة حين دخلت الحمَّام في مرض قالت: {إنِّي سَقِيمَةٌ، وَأنَا أَنهْىَ الآنَ أَلاَّ تَدْخُلَ امْرَأَةٌ اَلحْمَّامَ إِلاَّ مِنْ سُقْمٍ.}[36] من هنا ذهب الفقهاء إلى تجويز دخول النساء الحمَّام لعذر المرض والنفاس فقط دون غيرهما من الأعذار[37]، وزاد بعضُهم أو حاجة إلى غُسلٍ حيث لا يمكن لهن الاغتسال في بيوتهن لتعذر ذلك عليهن، أو خوفهن من مرض أو ضرر مرتقب فيباح لهن ذلك[38]، إلا السرخسي من الحنفية يرى بأن دخولهن الحمَّام يكون جائزا من غير توقف على عذر، لشدة حاجتهن إليه من الرجال فقال: «حاجة النساء إلى دخول الحمَّامات فوق حاجة الرجال، لأن المقصود تحصيل الزينة، والمرأة إلى هذا أحوج من الرجل، ويتمكن الرجل من الاغتسال في الأنهار والحياض والمرأة لا تتمكن من ذلك.»[39] ونحن إذا علمنا أن كشف عورة المرأة أمام غيرها من النساء قد تنشأ منه مفسدة عامة تفوق مصلحتها الخاصة التي دعتها إلى دخول الحمَّام لم يكن لفتوى السرخسي معنى، فأمنا عائشة لمَّا نصحت لنساء أهل حمص ومنعتهن من دخول الحمَّام قالت:{فَإِنْ كُنَّ قَدْ اِجْتَريْن عَلىَ ذَلِكَ فَلتَعْمد إِحْدَاهُن إِلى ثَوْبٍ عَرِيضٍ وَاسِعٍ يُوَارِي جَسَدَهَا كُلَّهُ، لاَ تَنْطَلِقُ أُخْرَى فَتَصِفَهَا لحِبَيبٍ أَوْ بَغِيضٍ.}[40] لذا فإن التمسك بظاهر النصوص التي تمنع النساء دخول الحمَّامات من غير عذر أبعد للفتنة قال السمعاني: «وإنما كره للنساء لأن أمرهن مبني على المبالغة في التستر، ولما في وضع ثيابهن بيوتهن من الهتك، ولما في خروجهن واجتماعهن من الفتنة والشر.»[41] وهو ما كان عليه السلف الصالح، فقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة ـ رضي الله عنهما ـ  بمنع نساء المسلمين دخول الحمَّامات لأجل أنهنَّ كنَّ يختلطن بنساء أهل الشرك فيها[42]، وسُئل نافع مولى ابن عمر عن الحمَّام للنساء فقال: «لسنا نراه حراما ولكننا ننهى نساءنا عنه.»[43] ورُفع إلى عمر بن عبد العزيز حديثُ رسول الله:{.. وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ نِسائِكُمْ فَلَا تَدْخُلْ الْحَمَّامَات.}[44] فكتب إلى الأمصار بمنع النساء دخول الحمَّامات[45].

ثالثا: آداب دخول الحمَّامات العامة.

  وللداخل آداب منها أن يتذكر بحرِّ الحمَّام حرَّ النَّار فيستعيذ بالله تعالى منها سائلا إيَّاه الجنة، وأن يكون قصده من دخوله التنظيف والتطهر حتى ينال منزلة من قال فيهم الله تعالى:﴿واللهُ يُحِبُّ اَلمْطَّهِرِينَ﴾ [التوبة:108] وألاَّ يسرف في استعمال الماء حتى لا يدخل في عموم قوله:﴿إنَّ اَلمْبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الَشَّيَاطِينِ﴾ [الإسراء:27] وإن علم بمنكر في الحمَّام من كشفٍ لبعض العورات فلا يدخله إلا لضرورة ملِّحة توجب عليه غض البصر والنهي عن المنكر ما أمكن له، إلا لخوف ضرر أو شتم أو نحوه، وعليه أن يصون عورته صونا عن نظر غيره ومسِّه، فلا يستعين على إزالة الوسخ بأحد مخافة أن تنكشف له عورته، وإن حرص على خلوة الحمَّام يكون أفضل[46]، ولا يمعن النظر إلى الأبدان المكشوفة لما فيه من قلة للحياء، فإنه لا يخلو الناس في الحركات من انكشاف العورات فيقع عليها بصره، وألا يكثر الكلام إلا من ذكر الله وقراءة القرآن إن كان في مكان طاهر نظيف لحديث إبراهيم بن يزيد التابعي: « لَا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْحَمَّامِ وَبِكَتْبِ الرِّسَالَةِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ .»[47] هذا وأدعوه تعالى السداد فيما قلت والرشاد فيما كتبت، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطئا فمن الشيطان ومن نفسي، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

* تعريف بكاتب البحث :  الأستاذ سليمان القراري، باحث في الفكر الإسلامي.

دبلوم الدراسات المعمقة في الدراسات الإسلامية تخصص الفكر العقدي وعلاقته بالعلوم الشرعية، جامعة محمد الأول بالمملكة المغربية مدينة وجدة.  

 

هامش المصادر والمراجع:


[1]- أخرجه الترمذي في سننه كتاب الصلاة باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمَّام.

[2]- مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية 21/303  جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم ـ مكتبة المعارف – الرباط المملكة المغربية.

[3]- المغني لابن قدامة 1/146 – دار الفكر – بيروت ط. الأولى / 1405هـ.

[4]- كشاف القناع عن متن الإقناع لمنصور البهوتي 1/158 تحقيق هلال مصيلحي مصطفى هلالدار الفكر- بيروت ط/1402هـ.

[5]- مجموع الفتاوى 21/300-301

[6]- المغني لابن قدامة 1/146

[7]- مصنف عبد الرزاق لأبي بكر عبد الرزاق الصنعاني رقم الحديث 1126 ج1 ص292 تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي - المكتب الإسلامي ـ بيروت ط. الثانية/1403هـ.

[8]- التاج والإكليل لمحمد بن أبي القاسم العبدري 2/93 دار الفكربيروت ط. الثانية/ 1398هـ .

[9]- مجموع الفتاوى 21/310

[10]- مجموع الفتاوى 21/302

[11]- مجموع الفتاوى 21/311

[12]- مجموع الفتاوى 21/310-311

[13]- مجموع الفتاوى 21/313

[14]- التاج والإكليل 2/93

[15]- أخرجه الترمذي في سننه كتاب الأدب عن رسول الله باب ما جاء في دخول الحمَّام.

[16]- مسند الإمام أحمد باقي مسند الأنصار حديث أم الدرداء عن النبي عليه السلام رقم الحديث 25794

[17]- تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني 5/327- 331  ـ دار الفكر ـ بيروت ط./1404هـ 

[18]- تقريب التهذيب تقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني 1/213 تحقيق محمد عوامة  ـ دار الرشيد ـ سوريا ط.1/1406هـ

[19]- تهذيب التهذيب 4/227

[20]- مجموع الفتاوى 21/301

[21]- أخرجه الترمذي في سننه كتاب الأدب عن رسول الله باب ما جاء في دخول الحمَّام.

[22]- تهذيب التهذيب 3/13

[23]- تهذيب التهذيب 3/13

[24]- أخرجه الإمام أحمد في مسنده مسند عمر بن الخطاب رقم الحديث 120

[25]- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري رقم الحديث 7783 ج4 ص321 تحقيق مصطفى عبد القادر عطا ـ دار الكتب العلمية ـ ط.1/1411هـ. بيروت.

[26]- صحيح ابن حبان لمحمد بن حبان أبي حاتم التميمي 12/410 تحقيق شعيب الأرنؤوط ـ مؤسسة الرسالة ـ ط.2/1414هـ بيروت.

[27]- مغني المحتاج لمحمد الخطيب الشربيني 1/76 ـ دار الفكر ـ بيروت.

[28]- المغني لابن قدامة 1/146

[29]- التاج والإكليل 2/93

[30]- أخرجه الترمذي في سننه كتاب الأدب عن رسول الله باب ما جاء في دخول الحمَّام.

[31]- أخرجه الترمذي في سننه كتاب الأدب عن رسول الله باب ما جاء في دخول الحمَّام.

[32]- أخرجه الحاكم في المستدرك رقم الحديث 7780 ج4 ص321 وأبو داود في سننه وابن ماجه في سننه كتاب الأدب باب دخول الحمَّام والدارمي في سننه كتاب الاستئذان باب في النهي عن دخول المرأة الحمَّام.

[33]- أخرجه الإمام أحمد في مسنده مسند عمر بن الخطاب رقم الحديث 120

[34]- أخرجه الحاكم في المستدرك رقم الحديث 7783 ج4 ص321 

[35]- أخرجه ابن حبان في الصحيح 12/410

[36]- مصنف عبد الرزاق الصنعاني 1/295

[37]- نيل الأوطار للشوكاني 1/321 ـ دار الجيل ـ  بيروت/1973م.

[38]- المغني لابن قدامة 1/146

[39]- المبسوط السرخسي 10/147-148 – دار المعرفة ـ بيروت/1406هـ

[40]- مصنف عبد الرزاق 1/293 رقم 1131

[41]- المجموع لمحيي الدين بن شرف 2/235 تحقيق محمود مطرحي- دار الفكربيروت ط. الأولى/ 1417هـ

[42]- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7/95 رقم الحديث 13321 تحقيق محمد عبد القادر عطا – مكتبة دار الباز – مكة المكرمة.

[43]- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7/309 رقم الحديث 14586

[44]- أخرجه الحاكم في المستدرك رقم الحديث 7783 ج4 ص321     

[45]- أخرجه الحاكم في المستدرك رقم الحديث 7783 ج4 ص321  وابن حبان في الصحيح 12/410

[46]- المجموع 2/235

[47]- أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الوضوء باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره.

 التعليقات: 1

 مرات القراءة: 3150

 تاريخ النشر: 30/01/2009

2009-02-01

محمد الفحام - حلب

ما شاء الله بحث متكامل .. جزاك الله خيراً يا أستاذ سليمان ، لقد أفدنا من بحثك الكثير .. وكل الشكر لموقع رسالتي على هذا التنويع الذي نجده عبر صفحات الموقع .

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1844

: - عدد زوار اليوم

7453095

: - عدد الزوار الكلي
[ 27 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan