::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> دراسات وأبحاث

 

 

جمود الفكر وخطره على الإسلام

بقلم : الباحث أديب الكمداني  

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وبَعْدُ فإنّ الإسلامَ ابتلي بثلاثةِ أصنافٍ مِن الناس:

الصنفُ الأولُ: جاهلٌ، يتكلم باسم الدِّين، فيَقْلِبُ الحقائقَ العلميةَ عن جَهْلٍ، ويُظْهِرُ صورةً سيئةً عن العِلم.

الصنفُ الثاني: جاحدٌ، يُنْكِرُ الحقائقَ العلميةَ بشبهاتٍ لا صِلةَ لها بالعِلْم، وإنما الباعثُ الهوى تارةً، والخضوعُ لأفكارٍ مسمومةٍ تارةً أُخرى، والحصولُ على أَجْرٍ ماديٍّ تارةً ثالثة.

 

الصنفُ الثالث: جامِدٌ، وهذا أخطرُ الثلاثة، لأنّ الصنفين السابقين أَمْرُهما مكشوفٌ، وحالُهما معروفٌ. أمّا الجامِدُ فَإنه يَتَكَلَّمُ باسمِ الإسلام، ويأتي بأدلةٍ مِن الإسلام، وهي في الحقيقةِ مُناقضةٌ لقواعدِ الإسلامِ، ومقاصدِ الشريعة وكُلّياتِها، لأنها وُضِعَتْ في غيرِ مَحلِّها، وأُصْدِرَتْ أحكامٌ خاطئةٌ بناءً عليها، لِسوء فَهْمِ ناقِلها أو المستدلِّ بها. فأورثَ هذا كلُّه عواقبَ وخيمة، وجَنَتْ الأُمّةُ ثَمرةً سيئةً مِن جرّائها، على جَميع الأصعدة، فقد كانت هذهِ العقولُ سبباً في نَشْرِ الضغائن بين الناسِ، وساهمتْ بتفرقةِ الكلمة، وصنّفَتِ الناسَ أصنافاً، مِنهم مُؤمنون موحّدون، وهم أتباعهم فقط. ومِنهم الكافرون، أو المشركون، وهم الذين لا يعتقدون عقائدهم الكلية والجزئية. ومِنهم الفاسقون المبتدعون. وهم الذين لا يَخضعون لآرائهم الفقهية والاجتهادية.

    هذه التصنيفاتُ أَورَثَتْ في نفوسِ أتباعهم كُرْهَ المخالِف لهم، وشَنَّ الحربِ عليه، والسعيَ في إيذائه، وإباحةَ غيبتهِ وسبِّهِ وشتمهِ، هذا إذا كان مسلماً. أمّا إذا كان غير مسلم، فزرعوا في نفوس الأتباعِ الحقدَ الدّفين، والعداوةَ المستعرةَ ضِدَّ غير المسلم، استناداً إلى أدلّة لَوَوْا عُنقَها لِتميلَ مع هواهم وفهمِهم ومعتقدِهم.

 

    وبذلك تتجلّى خطورةُ سوءِ فَهْمِ الإسلام، حيث سوَّى هؤلاءِ الناسُ بين النصوص القطعيةِ التي لا تحتمل إلا وجهاً واحداً، وبين الأدلةِ الشرعية التي تَحتمل أكثرَ مِن وجهٍ، عند الخبير بقواعد العِلم، وواسعِ الاطلاع على الأدلة الشرعية.

    وقد تكلمتُ في رسالة مستقلة عن خطورة سوء فهم الإسلام ألخصها في هذه الورقات، وأتحدث فيها عن جانبٍ مِن حال هذا الصنّف مِن الناس، وهو جانبُ إنكارِ المسائل الخلافيةِ، أو تجاهلها، التي كانت مُرتكزةً على أدلّة هي في الأصلِ قابلةٌ لِعدّةِ وجوهٍ ومفاهيم، واللهُ تعالى قادرٌ أنْ يَجعلَها تَحتملُ وجهاً واحداً، ولكنه لم يَفْعَلْ، لِيفتحَ البابَ أمامَ الأُمّة، لِيُظهِروا مفاهيمَهم وإبداعَهم وقدراتهم، وكلٌّ مِنهم يَحترمُ رأيَ الآخر. والله أعلم.

 

الفهم في القرآن والسنة

 

    ثبتتْ نصوصٌ كثيرةٌ في مدح الفهم، وذمِّ فقدانه:

    قال الله تعالى: ]فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَان [.

    وقال الله تعالى: ]وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ[.

    وهؤلاءِ هُم الجاحدون، ومِثلُهم أَذنابُهم الذين يُردّدون ما يُلقَى عليهم.

    ولقد أخبر سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي r تَرَكَ للناس القرآنَ والسُّنَّة، وفَهْماً يَرزُقُه اللهُ للمسلم.

    وقال النبي r: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بهِ خيراً يُفَقِّهْهُ في الدِّيْنِ)) ([1].

 أي يفهمه الإسلامَ، ومقاصدَ الشريعة، والمرادَ مِن التشريع، والمغزى منه.

    قال زياد بن لبيد: ذَكَرَ النبيُّ r شيئاً قال: ((وذاك عند أوانِ ذهابِ العِلْم)). قلتُ: يا رسول الله وكيف يَذهب العِلم ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا، ويُقرئه أبناؤنا أبناءَهم إلى يوم القيامة؟! قال: ((ثكلتك أُمّك يا ابن أم لبيد؛ إنْ كنتُ لأراك مِن أفقه رجلٍ بالمدينة!! أَوَ ليس هذه اليهودُ والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل فلا ينتفعون مما فيهما بشيء؟!!)) ([2]).

    فليست المشكلةُ في الإسلام، وإنما المشكلةُ في فقدان الفهمِ والفِقْهِ الذي أورثَ سوءَ فَهْمِ الإسلامِ، وسوءَ إدراكهِ إدراكاً صحيحاً سليماً. وسوءُ الفهمِ سببُ كلِّ بلاء، لأنه يُنتِجُ قَلْباً للحقيقة، وتحريفاً للنصوص، ووَضْعَاً للشيء في غير محلِّهِ. فَنَشأتْ طائفةٌ سَدّتْ بابَ الاجتهاد، وتطاولتْ على الأئمةِ المجتهدين، وأَنكرتْ سماحةَ الشريعة وسعتَها ورحمتَها في اختلاف أئمتها المعتبَرين، وسَوَّتْ بين النصوص القطعية المعصومة التي لا اجتهاد فيها، وبين المسائل الاجتهادية الخلافية القابلة للخطأ والصواب، ونَسَبَتْ كلَّ هذه المسائل إلى الله ورسوله، مُلَبِّسةً على الناس بقولها: (هذا حُكْمُ الله، ومَن بحث فيه أو خالفه باجتهاد فهو ضال)!!

    أمّا الذين أَحسنوا فَهْمَ الإسلامِ: فإنهم فَرّقوا بين المسائل التي لا اجتهادَ فيها، وهي معصومةٌ مِن الخطأ، وبين المسائل الاجتهاديةِ الخلافية، التي تَقبلُ النقدَ والصوابَ والخطأ، فالمسائلُ المعصومةُ هي: (حُكْمُ الله). والمسائلُ الاجتهادية الخلافية: (فِقْهٌ ورأيٌ وفَهْمٌ، واجتهادٌ، وكلُّها قابلة للصواب والخطأ). وفَرْقٌ كبير بين (الضلال) وبين (الخطأ).

    كان النبي r إذا أَمَّرَ أَميراً على جيش أو سَرِيّةٍ أوصاه في خاصتهِ بتقوى الله ومَن معه مِن المسلمين خيراً ثم قال له: ((وإذا حاصرتَ أهلَ حِصنٍ فأرادوك أن تُنْزِلهم على حُكمِ الله فلا تُنْزِلهم على حُكم الله، ولكنْ أَنْزِلهم على حُكمك، فإنك لا تَدري أَتُصيب حُكْمَ الله فيهم أَمْ لا)) ([3]).

    ومعنى هذا أنّ الأحكام الاجتهادية لا تُنْسَبُ إلى الله، فلا يُقال: (هذا حُكْمُ الله) وإنما يُقال: (هذا مَذهبُ فلان) أو (هذا اجتهادُ فلان) أو (الحكمُ الفِقهيّ كذا) ومَن خالفه باجتهادٍ معتبرٍ لا يُوصف بالضلال أو الفِسق، أو الانحلالِ، أو مخالفةِ الشريعة، لأنّ الخلاف في المسائل الفقهية الاجتهادية فيه صوابٌ وخطأٌ، وليس فيه ضلالٌ. ومِثلُ ذلك مَن اتّبعَ مذهباً اجتهادياً مخالِفاً لمذهبٍ آخر: ليس فيه ضلال، وإنما فيه صواب أو خطأ. فلا يجوز الإنكار والتشنيع على المجتهد ولا على من قلّد المجتهد، وإنما هو النقد والحوار والبحث مع الأدبِ والاحترام، واعتقادِ: (أنّ رأيي صوابٌ يَحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأٌ يَحتمل الصواب).

    فلا يوصف بالضلال إلا من خالف فرضاً أو أنكر حكماً صحيحاً صريحاً لا يحتمل أي وجه من أوجه التأويل المعتبرة، وهي نصوص واضحة معروفة، مثل فرضية الصلاة والصيام وغيرها، ومثل حرمة الخمر والربا والزنا وغيرها.

    نعم، إنّ جميع مسائل الفقه الاجتهادية تُنسب إلى الإسلام، وذلك مِن بابِ المجاز، لأنّ مصدرَها الكتابُ أو السنةُ، عن طِريق الفهم والاستنباطِ والقياس. فيجب الاحتكام إليها بشكل عام، لأنّ مصدرها مُحْكَمٌ صحيحٌ.

    لا يصح أنْ يقولَ المحرِّمُ لمسألة اجتهادية: (حكم الله في هذه المسألة حرامٌ). ولا يجوز لمن يجوّزُ هذه المسألة أنْ يقول: (حُكمُ اللهِ فيها حلالٌ) وإنما يقول كلُّ واحدٍ مِن المحرّم والمحلِّل: (الحكمُ الفِقهي في هذه المسألة كذا). أو يقولان: (مذهب فلان في المسألةِ كذا).

    لأنّ حُكمَ الله لا يُوجد فيه اختلافٌ ولا خِلاف، بل هو قطعيٌّ واضحٌ كالشمس في دِلالاته ووضحه، كتحريمِ الزنا وشُرْبِ الخمر، والسرقةِ والقتل، والحقدِ والغِلِّ والشحناءِ والبغضاءِ، وسبِّ المسلم وشَتمهِ، وغِيبتهِ وإذايتهِ والإضرارِ بهِ، وغير ذلك مِن المحرَّمات. وكفريضةِ الصلاةِ والزكاة والصيام والحج، وغيرِها مِن الفرائض. هذا هو: (حُكمُ الله). أمّا المسائلُ الاجتهاديةُ والخلافيةُ فلا يُقال فيها: (حُكمُ الله). كما ذَكرتُ أدلةَ ذلك في رسالةِ (سوء فهم الإسلام). وأَنْقُلُ هنا كلاماً نفيساً للإمام الفقيه الحافظِ ابنِ القيّم رحمه الله قال: (لا يَجوزُ للمفتي أنْ يشهد على اللهِ ورسولهِ بأنه أَحَلَّ كذا، أو حَرَّمَهُ أو أَوْجَبَه، أو كَرَّهَه، إلا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نَصَّ اللهُ ورسولُهُ على إباحتهِ أو تحريمهِ أو إيجابهِ أو كراهتهِ، [لمجرد التقليد أو التأويل، لا ينبغي أن يقال: هذا حكم الله. وقد نهى النبي r أن يسمى حكم المجتهدين حكم الله] وأمّا ما وَجَدَه في كتابهِ الذي تَلَقّاهُ عمّن قَلَّدَهُ دِينَه فليس له أنْ يشهد على الله ورسوله به، ويغرّ الناسَ بذلك، ولا عِلْمَ له بحكمِ الله ورسوله.

    قال غير واحد مِن السلف: لِيحذرْ أحدُكم أن يقول: أَحَلَّ اللهُ كذا أو حَرَّمَ اللهُ كذا. فيقول الله له: كَذَبْتَ لَمْ أُحلّ كذا ولم أُحَرِّمْه.

    ونقل عن  شيخ الإسلام (ابن تيمية) قوله: حضرتُ مجلساً فيه القضاةُ وغيرُهم، فَجَرَتْ حكومةٌ (أي قضية فيها جزء من الدية) حَكَمَ فيها أحدُهم بقولِ زُفَر، فقلتُ له: ما هذهِ الحكومة؟ فقال: هذا حُكمُ الله. فقلتُ له: صار قولُ زفر هو حُكْمَ الله الذي حَكَمَ به وأَلْزَمَ به الأمة؟ قل: هذا حُكْمُ زُفر، ولا تقل: هذا حُكمُ الله. أو نحو هذا من الكلام ([4]).

    وهذا كلامٌ نفيسٌ أَنْفَسُ مِن الذهب، مؤيَّدٌ بالكتاب والسّنّة، فلا يَجوزُ لأحدٍ أنْ يدّعي بأنّ اجتهادَه أو اجتهادَ إمامِه هو حُكمُ الله، وإنما يقول: هذا حُكْمُ فلان, أو هذا مذهبُ فلان. أو هذا اجتهادُ فلان.

    أمّا قوله: (إلا لما يعلم أنّ الأمر فيه كذلك مما نَصَّ اللهُ ورسولُهُ على إباحتهِ أو تحريمهِ أو إيجابهِ أو كراهتهِ) فهو دقيق، فإنّ كلمة (نص) لا تقال إلا في الآيات والأحاديث التي لا تَقبل التأويلَ ولا تَخضع في مدلولها إلى الاجتهاد، كفرضية الصلاة وكتحريم الخمر. كما هو مقرر في أصول الفقه. في تعريف (النص).

    فلا يصحّ أنْ نفهمَ مِن كلام ابنِ القيّم: (إلا لما يعلم أنّ الأمر فيه كذلك مما نَصَّ اللهُ ورسولُهُ على إباحتهِ أو تحريمهِ أو إيجابهِ أو كراهتهِ) أنّ كلَّ دليل في المسألة يجب العمل بظاهره مِن دون فقهٍ، ولا يصح أنْ نحصرَه بمفهومٍ واحدٍ، ولا أنْ نُعْرِضَ عن بقيةِ الأدلةِ المعارِضة أو المخصِّصة أو الشارِحة، ولا أنْ نُنكر اجتهادَ الأئمة في الدليل!! هذا منهج خطأ يستخدمه بعضُ الناس، ، بحيثُ يتمسكون بدليلٍ ما، على حرمةِ مسألةٍ ما. ولا يُبالون بما يُعارِضُ هذا الدليلَ مِن أدلة أخرى، ولا يلتفتون إلى ما ينطوي عليه هذا الدليلُ مِن فقهٍ، ولا ما يَعتريه مِن احتمالاتٍ وتأويلاتٍ، فَوقَعَ هؤلاءِ القومُ بمشكلةٍ كبرى وهي أنّ فَهْمَهم للدليل قطعيٌّ لا يَقْبَلُ الجدلَ ولا الخطأ، وأنّ الدليلَ الذي بين أيديهم قطعيٌّ في دلالاتهِ لا يقبلُ التأويلَ ولا الفِقهَ المخالفَ ولا المعارَضةَ، وبناءً على هذا تراهم يُفسّقونَ، ويَتّهمون غيرهم بالبدعةِ بل وبالزندقة!! لأنّ هذا في اعتقادِهم حكمُ الله!!

   بل وزاد بعضُهم الطّينَ بلّة، فَجَعَلَ أقوالَ المشايخِ والعلماءِ الذين يعتقدُ هؤلاءِ إمامتَهم في الأرض، سواء كانوا قُدامى أو معاصرين، (جَعَلوا هذه الأقوال) لا تَقْبَلُ الجدَلَ ولا الخطأ، لأنها حُكْمُ الله، في نظرهم، فَنَتَجَ عن هذا الاعتقادِ الفاسدِ تَفْسيقُ المخالفين، لأنّ أقوالَ هؤلاءِ المشايخِ والعلماءِ واجتهاداتِهم وأفهامَهم: تُمثّلُ حُكْمَ الله !!!

    وكلُّ هذا الغلوِّ والجهلِ مُعارِضٌ للكتاب والسنة، وأقوالِ الأئمة الذين مِنهم الإمامانِ الفقيهانِ ابنُ تيمية وابنُ القيم، الذين يُقدّسُ بعضُ الناسِ أقوالَهما وكأنها هي حُكمُ الله، وفي الحقيقةِ ما هي إلا اجتهاداتٌ قابلةٌ للصوابِ والخطأ. وتقديسُ هؤلاء الناس لكلام ابنِ تيمية وابن القيم لا يرضيهما لأنهما شنعا على من ينسب الحكم الاجتهادي الفقهي إلى الله، كما تقدم.

    فلا يوصف بالضلال إلا من خالف أو أنكر حكماً صحيحاً صريحاً لا يحتمل أي وجه من أوجه التأويل المعتبرة، وهي نصوص واضحة معروفة، مثل فرضية الصلاة والصيام وغيرها، ومثل حرمة الخمر والربا والزنا وغيرها.

    نعم، إنّ جميع مسائل الفقه الاجتهادية تُنسب إلى الإسلام، وذلك مِن بابِ المجاز، لأنّ مصدرَها الكتابُ أو السنةُ، عن طِريق الفهم والاستنباطِ والقياس. فيجب الاحتكام إليها بشكل عام، لأنّ مصدرها مُحْكَمٌ صحيحٌ.

    هذا المعنى كان راسخاً في أذهان جميع علماءِ الأمّة وسلوكِهِم، بدءاً مِن الصحابة الكرام، وانتهاءً بعلماءِ عصرِنا الربانيين.

    ولَمّا فَهِمَ أهلُ الفقهِ هذه الحقيقةَ، أَدركوا أنّ التيسير سِمَةٌ مِن سِمات الشريعةِ الإسلامية، فأَفتوا بالمسائل الاجتهادية الْمُيَسِّرةِ على الناس. وهُم في ذلك يَنهلون مِن المنبع الصافي، فإنّ المتتبع للسنة النبوية، مِن أقوالٍ وأفعالٍ، وتقريراتٍ، وأحوالٍ وصفاتٍ: يجدُ أنّ منهج التيسير، مُقدَّمٌ على طريقةِ التشديد والتعسير، وقد لَخَّصت السيدةُ عائشةُ هذا بقولها: (ما خُيّر بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه)([5]).

 وقالت عائشة: كان رسول الله r: يحب ما خف على الناس ([6]).

وقال جابر بن عبد الله: كان رسول الله r رجلاً سهلاً، إذا هَوِيَتْ (عائشة) الشيءَ تابعها عليه ([7]).

    فهذه الأحاديث وغيرها الكثير: تؤيد منهج (التخفيف والتيسير والتسهيل على الناس) فالحكم الفقهي الاجتهادي المختلف فيه: مِن السُّنّةِ أَخْذُ جانب التيسير والتخفيف منه. ويجوز أخْذُ جانب التشديد منه، من غير إلزامِ الناس به، ولا إنكارٍ على مَن خالفه وأَخَذَ بمنهج التيسير.

    فَلِمَ إلزام الناس وإفتاؤهم بكل ما فيه تشديدٌ وتعسيرٌ وتضييقٌ؟ والنبيُّ r يخفف، وييسر، ويسهل، ويرخص، ويُوسِّع، بل ويدعو لمن يرفق بأمته، بأن يرفق الله به، ويدعو على من يشق على أمّته بأن يشق الله عليه ([8]).

    المتشددون يحبون ما عَسُرَ على الناس وشَدَّدَ عليهم في المسائل الاجتهادية الخلافية، فتراهم يتلذذون بالفتاوى الشديدة، ويُلْزِمون الناس كلَّهم بها، وبطريقة واحدة، ومذهبٍ واحد يغلب عليه التشديد والتعسير والتضييق، والتهويل والترعيب والترهيب، فأورث هذا نفورَ كثير من الناس مِن الدِّين، والنظرَ إليه نظرةَ رُعْبٍ،  ونظرةً عليها سمة اليأس ، وبأنه دِينُ التعسير والتزمّتِ والتشدد، فصار الدِّينُ في نظرِ هؤلاء ديناً مجرداً مِن العواطف، والمشاعر، والرومانسية، والحب والحنان. وكلُّ هذا منسوب إلى الإسلام خطأ، أو جهلاً، أو افتراءً أو كذباً.

    قال الإمام مالك بن أنس: ليس لِمُضَيِّقٍ مروءةٌ ([9]). أي: التضييق مِن الأفعال القبيحة المذمومة شرعاً وعقلاً وعرفاً. والتيسير من الأفعال الجميلة الممدوحة شرعاً وعقلاً وعرفاً.

    وقال الإمام أحمد بن حنبل: لا ينبغي للفقيه أَنْ يَحْمِلَ الناس على مذهبه، ولا يشدد عليهم.

    وقال الإمام سفيان الثوري: إنما العلم عندنا الرُّخَصُ في الفقه، فأما التشديد فكلُّ إنسانٍ يُحسنُهُ ([10]).

    والمعنى أنّ مِن السهلِ التشددَ بالمنع والتحريم في المسائل الخلافية، فكلُّ أحدٍ يستطيع إصدار حكم المنع على نفسه أو على غيره، لأنّ هذا لا يحتاج إلى جُهدٍ ولا تفكيرٍ ولا اجتهادٍ ولا استنباطٍ ولا جمعِ الروايات ولا الأدلة ولا النظر فيها ولا تَعَلُّمِ أصولِ الفقه ومعرفةِ مقاصد الشريعة وقواعدِها الكلية والجزئية. كلُّ هذا لا يحتاجه المتشددُ، سواء كان عن تورُّعٍ أم كان عن جهلٍ.

    أما التسهيل والتيسير والرخصة فهذا يحتاج إلى فقهٍ وفهمٍ وسعةٍ في معرفة الرواية، وإدراكٍ لأصولِ الشريعة ومقاصدِها، وفهمٍ للواقع، ودقةٍ في الاستنباط والاجتهاد، ومعرفةٍ لمذاهب الفقهاء مِن الصحابة والمجتهدين، مِن المتقدّمين والمتأخرين، وغير ذلك مما يحتاج إلى جُهْدٍ كبيرٍ، لِتكون النتيجةُ مثمرةً يستفيد منها المسلمون عامة وخاصة، فإنهم اعتقدوا أنّ الإسلام رضيه الله للناس منهجاً يغنيهم عن جميع القوانين والدساتير، والمناهج البشرية، لأنهم يعتقدون أنّه دِينٌ صالحٌ لكل زمان ومكان، وهذه الصلاحيةُ تتجلى بالاجتهاد والاستنباط، والتيسير والرُّخص الشرعية، ولا تتناسب الصلاحية مع مبدأ التعسير والتشديد، والجمود والانغلاق؛ لأن هذا يتناقض مع سعة الشريعة وسماحة الإسلام ومرونته. ومِن أخطر مساوئ الجمود أنه يسد باب الحلال ويفتح باب الحرام، ويدفع إلى تَرْكِ الشرعِ والاحتكامِ إليه، ويدفع إلى الإقبال على تحكيمِ النفوسِ والأهواءِ والعادات والأفكارِ الفاسدة.

    قال عُمير بن إسحاق: كان مَن أدركتُ مِن أصحاب رسول الله r أكثر ممن سبقني، فما رأيتُ قوماً أهونَ سيرة [ما رأيت قوماً أيسرَ سيرة] ولا أقلَّ تشديداً منهم ([11]).

    وهكذا كان الأئمة الربانيون، يُيَسِّرون على الناس، ويَلْتَمسون لهم المخارجَ الشرعيةَ، ويبحثون لهم عن التيسير، حتى صار ذلك علامةً مِن علامات أهلِ العِلْم والفهم، فعندما يَمْدَح الأئمةُ النقادُ عالماً يقولون فيه: (كان عالماً بالخلاف). (كان بصيراً بالخلاف)، وألّف العلماءُ كتباً كثيرة في مسائل الخلاف، كلُّ ذلك للتيسير على الناس، واِلْتماسِ المخارج لهم.

   قال شيخُ الحرم عمروُ بنُ عثمان المكي الزاهدُ (المتوفى سنة 301): ما رأيتُ أحداً من المتقدمين (وفي رواية: المتعبدين) في كثرة مَنْ لقيتُ منهم بمكة مِمّن هو مقيمٌ، ومِمّن قَدِمَ علينا في المواسم؛ ولا فيمن لقيتُ بالشام وسواحلها ورباطاتها والإسكندرية: أَشدَّ اجتهاداً ولا أدومَ على العبادة مِن الْمُزَنيِّ؛ ولا أشدَّ تعظيماً لله ولأمره [وللعلم وأهله] مِن الْمُزَنيِّ، ولقد كان ينصر أهلَ الذّمة مِن الظلم كما ينصر أهل الإسلام، وكان أَشدَّ الناس تضييقاً على نفسه في الورع، وأَوسَعَهُ في ذلك على الناس ([12]).

    قال الذهبي: الْمُزَنيّ الإمام العلامة فقيه الملّة عَلَمُ الزّهّاد. توفي 264 هـ.

  وكلُّ هذا، كثيرٌ مِن الْمُفْتين اليوم يُخالفونه، بِحُجّة الورع والتقوى، وما هو إلا تشددٌ وتنفيرٌ، فالشيخُ يتخيّر للناس مِن الفتاوى أشدَّها، وبخاصةٍ إذا كانت توافق مذهبَه، ويُشددُ على الناس في اتّباعها، ومِنهم مَنْ يجعلها حَقّاً لا تَقبل الخطأ، ويَرمي غيرَها بالباطل، ويُقرّر أنها لا تَحتمل الصواب !! ويَزيد الطِّين بلّةً عندما يُعْلِنُ هذا الْمُنْكِرُ والمتشددُ تشدّدَه ونكيرَه: عبر القنوات الفضائية، فَتُحْدِث فتاويه المتشددةُ الملزِمةُ المشاكلَ والبلبلةَ في صفوفِ المسلمين وأُسَرِهِم، مِن غير مراعاةٍ لاجتهاد المجتهدين، ولا لخلافِ الأئمةِ المعتبرين، الذين جَعَلَ اللهُ خلافَهم رحمةً للناس، فَحَوَّلَه المتشدّدون إلى نِقمةٍ فوقَ رؤوسِ الناس!!

    قال العلامة ابن نجيم: وفي معراج الدراية معزواً إلى فخر الأئمة: لو أفتى مفت بشيء من هذه الأقوال (الضعيفة) في موضع الضرورة طلباً للتيسير كان حسناً ([13]).

    قال الإمامُ المتقنُ المحقِّق الفقيهُ المحدِّثُ ابنُ الهمام الحنفي: لا يُفتي إلا المجتهد، وقد استقرَّ رأيُ الأصوليين على أنّ المفتي هو المجتهد، وأما غير المجتهدِ مِمّن يَحفَظُ أقوالَ المجتهد فليس بمفتٍ، والواجبُ عليه إذا سُئل أنْ يَذْكُرَ قولَ المجتهدِ؛ كأبي حنيفة على جهةِ الحكاية، فعُرِفَ أنّ ما يكون في زماننا مِن فتوى الموجودين ليس بفتوى، (توفي المؤلف 861 هـ). بل هو نَقْلُ كلامِ المفتي ليأخذَ بهِ المستفتي.

    ثم قال ابن الهمام: وعندي أنّه لا يَجب عليهِ حكايةُ كلّها، بل يكفيه أنْ يَحكي قولاً منها، فإنّ المقلّد، له أن يُقلِّد أيَّ مجتهدٍ شاء، فإذا ذَكَرَ أَحدَها فقلَّدَه حَصَلَ المقصود. نعم لا يَقْطَعُ عليه فيقول: جوابُ مسألتك كذا. بل يقول: قال أبو حنيفة: حُكْمُ هذا كذا. نعم لو حَكى الكُلَّ فالأخذُ بما يقع في قلبهِ أنه الأصوبُ أَولى. والعاميُّ لا عبرة بما يقع في قلبهِ مِن صوابِ الحكم وخطئهِ. وعلى هذا إذا استفتى فقيهين أعني مجتهدين فاختلفا عليه الأولى أن يأخذ بما يميل إليه قلبه منهما، والذي يظهر لي (والله أعلم ) أنه لو أَخَذَ بقولِ الذي لا يميل إليه قلبه جاز، لأنّ ميلَه وعدمَه سواء، والواجبُ عليه تقليدُ مجتهدٍ، سواء أصاب ذلك المجتهد أو أخطأ.

    ثم قال ابن الهمام: لا دليلَ على وجوبِ اتّباع المجتهد المعيّن بإلزامه نفسَه ذلك، قولاً أو نيةً شرعاً، بل الدليلُ اقتضى العمل بقول المجتهدِ فيما احتاج إليه؛ لقوله تعالى: (فَاسْألوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون) والسؤالُ إنما يتحقَّقُ عند طلبِ حُكْمِ الحادثة المعينة.

    وحينئذٍ إذا ثبَتَ عنده قولُ المجتهد وَجَبَ عليه عملُه به. والغالبُ أنّ مِثلَ هذهِ إلزاماتٌ مِنهم لِكفِّ الناسِ عن تتبع الرخص، وإلا أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد قوله أخف عليه.

    ثم عقّبَ ابنُ الهمام على هذه الإلزامات فقال: وأنا لا أدري ما يمنع هذا من النقل أو العقل، وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه مِن قول مجتهدٍ مُسوّغٍ له الاجتهاد، ما علمت من الشرع ذمه عليه وكان صلى الله عليه وسلم يُحبُّ ما خفّفَ عن أُمّته. والله سبحانه أعلم بالصواب ([14]).

     وهذا كلامُ إمامٍ مُحقّقٍ مُطّلعٍ، قَرَّرَ فيه أنّ تَتَبُّعَ الرُّخَصِ بغيةَ التّخفيفِ لا يُوجَدُ ما يَمنعُه مِن الشّرعِ ولا مِن العقل، بل جاء الشرعُ والعقلُ يؤيّدُ التخفيفَ ولو كان عن طريقِ تتبُّعِ الأسهلِ مِن المسائلِ الاجتهادية التي لا تَضُرُّ بأحدٍ، ولا تَمنعُ حقاً للناس. وقد حققت هذه المسألة في رسالة مستقلة يسر الله نشرها.

    وقال حافظ المغرب وفقيهه ابن عبد البر: ولا يَمتنع أحدٌ مِن أهل العلم مِن أنْ يُحرِّم ما قام له الدليل على تحريمه من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان غيرُه يخالفه في ذلك دليل استدل به ووجه من العلم ذهب إليه، وليس في شيء من هذا تكفير ولا خروج من الدين وإنما فيه الخطأ والصواب ([15]).

 تذكير مهم:

    تكررّتْ كلمةُ (التّشدّد، والمتشدّد) في كتبي ورسائلي ومقالاتي، وليس قصدي من التشدد هو اتباعَ مذهبٍ فقهيّ له دليلُه وحُجّته، وإنما قصدي مِن التشدد هو إلغاءُ المذهبِ الآخر، والإنكارِ على صاحبهِ أو مُتّبعيه، بمعنى آخر: التشددُ هو ممارسة الإرهاب الفكري والاستبداد الفكري، والاستعلاء الفكري.

    فمن استخدم القوة في نشرِ فكرهِ ومذهبهِ فهو إرهابيٌّ فكرياً. ومن استبدّ برأيه ولم يقبل رأي غيره المدعم بالدليل؛ بل صار ينكر على مخالفه: فهو مستبدٌّ فكرياً، ومَن نَشَرَ فِكرَه مع الغمز واللمز، والاحتقارِ لرأي غيره والتشنيع والإنكار عليه: فهو مُستعلٍ فكرياً. ويزداد الحال سوءاً في الأصناف الثلاثة إذا استخدموا جميعاً الإنكار على المخالف والتشنيع عليه.

    وهذا هو المقصود من قولي في كتبي كلها: (التشدد، المتشدد) إلى غير ذلك من الإطلاقات، فليس المراد من المتشدد الذي اقتنع برأيه وأفتى به أو نَشَرَه مِن دون إنكار ولا تشنيع ولا إلزام لغيره.

    وكل إنكاري في كتبي على المخالفين موجه إلى هؤلاء الناس: الإرهابيين فكرياً، والمستبدِّين فكرياً، والمستَعْلِين فكرياً، الذين ينكرون على مخالفهم ويشنعون عليهم. أي فالإنكار مني على من ينكر اتباع المذاهب الفقهية، والاجتهادات الفقهية، وليس إنكاري على من يتبع المذاهب الفقهية والاجتهادات الفقهية.

    فالذين يتبعون مذهب المخالف، ويعتقدون التحريم في مسألة ما، من غير إنكار ولا تشنيع على مخالفهم ولا إلزام لهم: فهؤلاء لا إنكار عليهم، وليسوا المقصودين من الحوار والنقاش، لأن كل مذهب له أدلته ومقلدوه، ولا إنكار على المخالف إذا التزم أدب الاختلاف، أما إذا أنكر وشنع فالإنكار عليه يكون على الإنكار وليس على اعتناق المذهب.

والله تعالى أعلم
 


([1]) رواه البخاري (71) ومسلم (3/1524).

([2]) حديث صحيح رواه أحمد (4/160 و218) وأبو خيثمة في العلم (52) والحاكم (3/681) والطبراني (5/264). وانظر سنن الترمذي (2653) وابن ماجه (4048).

 (1) رواه مسلم (1731) وابن حبان (11/43).

 (1)إعلام الموقعين لابن القيم (4/175-176). وما بين المعقوفتين منه في (1/39). وانظر فيه كلاماً نفيساً في (1/44).

([5]) رواه البخاري (3560) ومسلم (2327).

([6]) رواه أحمد (6/168) وابن راهويه (2/298).

([7]) رواه مسلم (1213).

([8]) انظر صحيح مسلم (1828).

([9]) رواه الخطيب في تاريخ بغداد (13/62).

([10]) قول أحمد ذكره ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/189). وقول سفيان رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (6/367) وابن طاهر في السماع (ص90).

([11]) سنن الدارمي (1/63) والطبقات الكبرى لابن سعد (7/220) وشعب الإيمان (2/20).

([12]) كتاب السماع لابن طاهر (ص 90) وسير أعلام النبلاء (12/494).

([13]) البحر الرائق (1/202). ونقله عنه العلامة ابن عابدين في مقدمة الحاشية (1/234، وذكره في باب الحيض، 2/262 ط الثقافة).

([14]) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام (7/256-258).

([15]) الاستذكار لابن عبد البر (8/26).

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 2763

 تاريخ النشر: 09/02/2008

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1650

: - عدد زوار اليوم

7405051

: - عدد الزوار الكلي
[ 66 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan