::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> كلمة المشرف

 

 

آفات اللسان ...

بقلم : الشّيخ محمد خير الطرشان "المشرف العام"  

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللّهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

حديثنا سنخصّه لآفات اللسان التي يقع فيها الإنسان في حياته اليومية.

مما يُنسب إلى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قوله:

 إذا شئتَ أن تحيا سليماً من الأذى       وحظُّك مـوفورٌ وعِرضُـك صَيِّنُ

لسانَك لا تذكرْ به عـورةَ امرئٍ        فكُلُّكَ عـوراتٌ وللنـاسِ ألسنُ

إذا أراد الإنسان أن يعيش سليماً من الأذى، بعيداً عن الأخطاء، فعليه أن يتجنب ذكر عورات الناس، أو أن يقع في أعراضهم، أو أن يخوض في أحاديثهم؛ حتى يظل لسانه نقياً وطاهراً من عورات الناس وأخبارهم.

_ الكذب آفة خطيرة من آفات اللسان: 

الكذب صفةٌ ذميمةٌ وخطيرةٌ، وقد نهى عنه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيّن لنا أن الرجل لا يزال يكذب حتى يُكتب عند الله كذّابا، وما أبشع أن يُوصف الإنسان بأنه كذّاب.

^ مِن أنواع الكذب:

أ- البهتان:

من أشد أنواع الكذب على الإطلاق: ما سُمّي في الحديث الشريف بالبهتان, والبهتان هو: الافتراء والقذف بالباطل, ويقال في اللغة: بَهتَ الرجلَ فهو بهّات، إذا نَسَبَ إليه ما لم يقلْهُ أو يفعلْهُ. والبهتان من أخطر المعاصي، وأعظم الذنوب وأقبحها. والنبي - صلى الله عليه وسلم - حذّر منه تحذيراً شديداً، ووصفه بأنه أشدّ أنواع الكذب على الإطلاق, فقال:"وإن لم يكن في أخيك فقد بهتَّه[1]". صحيح مسلم. ومن أشدّ أنواع البهتان ما يُعرف اليوم في زماننا بشهادة الزور، وشهادة الزور: أن يشهد الإنسان بما لم يرَ، وبما لم يُعاين, وربما كان أمراً باطلاً في الأصل، وليس له حقيقة، فيدّعي الإنسان حقيقته، ويحلف اليمين الكاذبة على ذلك, والله - سبحانه وتعالى - أمرنا أن نجتنب قول الزور وشهادة الزور حين قال:[]...فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ[] سورة الحـج (30). علينا أن نبتعد عن كل خصلة تؤدي بنا إلى شهادة الزور أو قول الزور، وهو نوع من البهتان الشديد، ومما ننسبه إلى الناس وليس بحقيقة ولا واقع. أخرج الإمام البخاري، والإمام مسلم عن سيدنا أبي بكرَة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَلا أُنَبِّئُكمْ بِأكْبَرِ الْكَبائِرِ؟"[2] قُلنا: بلَى يا رسولَ اللَّه: قال:"الإِشْراكُ بِاللَّهِ، وعُقُوقُ الْوالِديْن" وكان مُتَّكِئاً فَجلَسَ، فقال:"أَلا وقوْلُ الزُّورِ وشهادُة الزُّورِ". فَما زَال يكَرِّرُهَا حتَّى قُلنَا: ليْتهُ سكتْ. متفق عليه. حينما يكرر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المعنى ثلاث مرّات، فهو دليلٌ على خطره، ودليلٌ على كونه أمراً عظيماً ينبغي أن نتنبّه إليه بشكلٍ جيّد. وإنّ جلوسه بعد أن كان متكئاً يدلّ على أنّ الأمر الذي يتحدث به النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرٌ خطير. إذاً..  الواجب علينا إذا دُعينا إلى الشهادة ألا نشهد إلا بالحق, بما نعلم وبما رأينا وعايَنّا، بما رأيناه رأي العين، واضحاً جليّاً مثل الشمس, عندها اشهد، وإلا فاسكت ولا تتكلم, ومن دُعي إلى شهادةٍ فعليه أن يُلبي إذا كان يعلم أن شهادته ستنقذ إنساناً من مظلمةٍ، أو ستدفعُ عنه ظلماً, أما أن يدّعي ما لم يرَ، أو أن يدّعي ما لم يسمع؛ فهذه تنزل تحت شهادة الزور، وقول الزور. فالواجب على المسلم إذاً أن يصون لسانه، وأن يحفظه من الكذب، وشهادة الزور، وكل كلام لا يليق ولا يحق له أن يخوض فيه، هذا نوع خطير حذّرنا منه النبي - صلى الله عليه وسلم - من آفات اللسان وأخطاره.

ب- اللغط في الكلام أثناء البيع:

هناك نوع آخر حذّرنا منه نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو اللغط في الكلام أثناء البيع والشراء, أي أن نحاول ترويج السلعة و البضائع بما ليس من الحقيقة, فربما أدى هذا الأمر إلى أن نحلف الأيمان، أو أن نصف هذه السلعة بصفات ليست كما هي في الحقيقة, وهذا الشيء يعدّ باباً من أبواب الكذب. جاء في الحديث عن سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يُثني على التاجر الصادق، التاجر الذي يُعطي البضاعة للناس وللزبائن على حقيقتها، فلا يغش، ولا يكذب، ولا يحتال، ولا يحتكر، ولا يُخرج البضائع الكاسدة ليُشعرَ الناس بأنها البضاعة الرائجة، وأنها البضاعة التي ليس هناك مثلها في السوق. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم:"التاجر الصدوق الأمين مع النبيين، والصدّيقين، والشهداء". رواه الترمذي. هذه منزلة التاجر الذي يَصْدُق الزبائن، فيتعامل معهم بكل أمانة، ويتكلم الحقيقة والواقع إذا عَرض بضائعه للبيع. وفي المقابل، حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من التاجر الكذوب، ومن التاجر السيئ، ومن التاجر الذي يغش الناس، ولا يعكس لهم حقيقة البضائع التي يعرضها لهم. يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن التجّار هم الفجار". قالوا: يا رسول الله: أوليس قد أحل الله البيع؟ قال:"بلى. ولكنهم يحدّثون فيكذبون، ويحلفون ويأثمون" مسند أحمد. إذاً.. جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - تقييداً لمعنى كلمة الفجور, حينما وصف بعض التجار بأنهم فجار, وضع لهذا الوصف ضوابطَ, هذه الضوابط تتمثل بأنّ بعضهم يحلف، فيأثم باليمين الذي يحلفه, أي لا يكون يمينه صادقاً، ويحدّث، فيكذب في حديثه, وما سوى ذلك، فهناك تجار صادقون, وتجار يخشَون الله سبحانه وتعالى, وتجار يحفظون الحقوق, حقوقَ الله، وحقوق العباد، فيُؤَدّون هذه الحقوق كما أمرهم ربنا سبحانه وتعالى, أما البعض، الذين أشار إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفجور؛ فهم الذين لا يتخلّقون بأخلاق التجار, وأهمها: الصدق في البيع والشراء, لا يحلفون بالله تعالى كذباً, وأصلاً لا يُطلب من التاجر أن يحلف على بضاعته, الآن.. بعض الناس يدخلون إلى الأسواق، ويساومون على سلعة من السلع، ويحاولون شراءها مطمئنين إليها، وإلى حقيقتها، وإلى مصدرها، وإلى صفتها، فإذا بك ترى وتسمع التاجر يبادر إلى الحلف واليمين، فيقول: والله العظيم هذه البضاعة كذا، ومصدرها كذا! مَن طلب منك الحلف بالله سبحانه وتعالى؟! ولماذا تُقحِمُ اسم الله الأعظم؟! وهذه الصفات الجليلة والعظيمة في قضية بيع وشراء لا قيمة لها في الحياة الدنيا؟ إذاً.. فعلينا أن نُنزّه ألسنتنا عن الحلف بالله سبحانه وتعالى، ولا نحلف إلا عند الضرورة، ولا نحلف إلا إذا طُلب منا اليمين أمام القضاء، أو أمام مجلس تحكيم، أو في قضيةٍ يُراد منها إحقاق الحق، وإبطال الباطل, وفي قضايا البيع والشراء أيضاً، علينا أن ننزّه ألسنتنا عن الحلف الكاذب، وعن الأيمان التي لا تُطلب منا, وعن الحديث الذي لا نَصدُق فيه. بعض الناس يقول: إن لم نحلف فلن تُباع البضاعة. لا!! عليك أن تصبر، وتتكلم بصدق، وتصف بضاعتك بكل مصداقية، وإن الله - سبحانه وتعالى - قد تكفل لعباده بأرزاقهم، الرزق يطلبك كما يطلبك الأجل, وليس هناك شيءٌ يلاحق الإنسان إلا الرزق والأجل, فإذا فرغْت من رزقك، فإنه يتبعك ويلحقك حتى تدركه, ولو في أي بقعةٍ من بقاع الأرض.

^ المواقف التي يُباح فيها الكذب:

ربما يأتي بعض الناس، ويسأل سؤالاً: ألا يوجد هناك ظروفٌ، وأحوالٌ، وأوضاعٌ تُبيح للإنسان أن يكذب؟ والجواب: نعم. هناك درجات أخفّ من الكذب؛ كالتورية مثلاً أو التعريض, إنّ التعريض في الكلام، وصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنّ في المعاريض مندوحةً عن الكذب، أي سَعةً عن الكذب. والتعريض: هو إرادة غير الظاهر المتبادل من الكلام, أي إذا تكلمتَ كلاماً ظاهرياً، فإنك تقصد به معنىً خفياً، فهذا الأمر مباحٌ بقصد أن تؤلّف بين قلبين، أو أن تصلح بين زوجين، أو أن تقرّب بين شريكين اختصما. فهذا التعريض، وهذه التورية مباحةٌ، ولا تعدّ من الكذب إذا كانت بقصد الإصلاح. هذه الأشياء أيها الإخوة القرّاء ذكرها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورخّص في اللجوء إلى الكذب في أحوال ثلاثة، هذه الأحوال أحصاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمور محددة ومبيَّنة، هي:

أ- الكذب في مجال الحرب:

ففي الحروب يضطر الإنسان إلى أن يذكر عكس الحقيقة، وأن يخذّل عن قومه، فلو أن مقاتلاً من المقاتلين المسلمين وقع في الأسْر بين يدي المشركين، فقالوا له كم عدد القوات التي جئت بها، فينبغي أن يهوّل الأمر، ويعظّمه, فإذا كان عدد القوات ألفاً يقول لهم: جئنا بقوةٍ عددها عشرة آلافٍ من الجند, فإذا قالوا له: وما معكم من السلاح، فقال: معنا كذا وكذا وكذا, فهذا مما يجوز فيه الكذب، بنيّة أنْ تُضعف العدو، وترفع من شأن المقاتلين المسلمين؛ حتى تقع المهابة في نفس الأعداء. جاء في الحديث عن رجلٍ يُقال له سُويد بن حنظلة - رضي الله عنه - قال: خرجنا نريد النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدوٌ له، فقال من أخذه: من أنت؟ ألست وائل بن حجر؟ قال: لا, لست وائل بن حجر, فقال خصمه الذين أمسكوا به: احلفوا بالله أنه ليس بوائل نتركْه, فتحرّج القوم من أن يحلفوا يميناً أنه ليس وائل بن حجر, فيقول سُويد بن حنظلة: فحلفت أنا على أنه أخي, قلت لهم: والله هذا الذي معكم هو أخي, فتركوه, فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته أن القوم تحرّجوا أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي, فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"صدَقت, المسلم أخو المسلم". فهنا سُويد بن حنظلة أراد أن يورّي في قوله بأنه أخوه، بمعنى أنه أخوه في الله، وأخوه في الإسلام، وليس أخاه في النسب, فأقرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فِعلَه، وجعل كلامه كلاماً دقيقاً في مثل هذه الأمور، في الحرب وفي المعركة؛ لأن القاعدة تقول:"الحرب خدعة", ولا يصحّ أن نترك هذا الإنسان يقع أسيراً بين يدي الأعداء. إذاً.. هذا جانبٌ يُرخّص فيه للكذب، والتعريض، والتورية.

ب_ إصلاح ذات البَيْن:

فلو لم تستطع أن تُميل قلب الخصمين إلا بالتعريض، أو بالتورية، أو بالكذب، فإنه يباح لك أن تلجأ إلى طريقة تُميل فيها قلب الخصمين، لو افترضنا أن زوجين اختصما، وكل واحد منهما يتكلم على الآخر بعيوبه، فدخل بينهما حَكَمٌ مُصلحٌ، أراد أن يُصلح ذات بينهما، فجاء إلى الزوج فقال له: إن زوجتك تذكر عنك كلاماً طيباً، وتقول: ما شاء الله! أبو فلان رجلٌ كريمٌ، وسخيٌ، وعنده شهامةٌ، وغيرةٌ، ومروءةٌ، إلا أن مشكلته كذا وكذا. فهذا الثناء الذي قاله الحكم والمصلح على لسان الزوجة، يستميل قلب الزوج. ثم ذهب إلى الزوجة، وقال لها: إن زوجك أثنى عليك، وقال: إنك عفيفةٌ، وطاهرةٌ، وصاحبةُ سرٍّ عظيمٍ، وتصونين البيت، وتحفظين الأولاد، وتربّينهم تربيةً صالحةً، إلا أن المشكلة عندك كذا وكذا ، فهو بذلك يصغّر المشكلة، ويعظّم الصفات الحسنة، فيستميل قلب الزوجة أيضاً نحو زوجها. فإذا مالت القلوب خفّت المشكلة، واستطعنا بذلك أن نقرّب وجهات النظر فيما بين الزوجين. الأمر نفسه بين الشريكين: إذا كان هناك شريكان مختصمان، قد اختلفا في قضيةٍ ماليةٍ، أو غير ذلك... فباستطاعة الحكم أن يُصلح بينهما، فينسب إلى أحدهما كلاماً طيباً بحق الآخر، فيه ثناء ومدح, أيضاً يمكن أن يكون فيه نوعٌ من الاعتراف بالخطأ، كأنْ يقول: والله شريكك فلان يقرّ لك بخطئه، و يعترف بأنك خير منه. ثم يذهب إلى الآخر، ويقول له مثل هذا الكلام، فيميل قلب كل منهما إلى الآخر، وبذلك يكون قد أصلح ذاتَ بينِهما، وهو أمرٌ محمود و ممدوح. يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"ليس الكذّاب الذي يُصلح بين الناس، ويقول خيراً، أو يُنمي خيراً" شرح النووي على صحيح مسلم. إذاً.. ينبغي أن ندقق بهذا الحديث جيداً, فهو محصور في هذا الجانب، جانب إصلاح ذات البين, أما أن يأخذ الناس هذا الحديث على أنه قاعدةٌ دائمةٌ، فيبادرون إلى الكذب بحجة أن هناك أموراً يُباح فيها الكذب, فلا! علينا أن نتقيد بهذه القيود، وننضبط بهذه الضوابط، التي حددها لنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

جـ- حديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها:

فإن كان بينهما شيء من الخصام، أو خلاف الرأي، فقال الزوج كلمة فيها تورية وتعريض، لكي يستلطف قلبها و يستميله، وهي أيضاً فعلت مثل ذلك، بقصد أن تلتئم حياتهما الأسرية، بما لا يؤدي إلى مفسدة، أو يؤدي إلى ضرر، فالأمر مباح إن شاء الله تعالى، وليس فيه أيّ إثم.

^ أمثلة عن الكذب المُباح (المَعاريض):

أ- التّخلص من لقاء شخص غير مرغوب:

من المعاريض ما ورد ذكره أن إبراهيم النخعيّ رحمه الله تعالى، وكان رجلاً عابداً، زاهداً، ومتفرّغاً لعبادة الله سبحانه وتعالى، خطّ في داره خطاً - أي جعل حاجزاً - وسمى هذا الحاجز مسجداً يسجد فيه، ويصلي بشكلٍ دائمٍ، فإذا جاءه من لا يريد دخوله عليه، ولا يرغب بلقائه، قال للجارية: قولي له إنه في المسجد، وعَنَى به مسجد البيت، فيظن ذلك الرجل أنه في المسجد الجامع، فيغادر بيته. فهذا نوعٌ من التعريض المباح, والتورية المباحة, حتى يخرج الإنسان به عن لقاء شخصٍ لا يرغب بلقائه, وربما أدى اللقاء بينهما إلى مفسدةٍ، أو إلى إساءةٍ في واقع الحال.

ب- إدخال السرور على قلب الناس، والتخلص من المواقف الحرجة:

كذلك تُباح التورية إذا كانت بقصد إدخال السرور على قلوب الناس, وبقصد التخلص من المواقف المحرجة، دون أن يكون في ذلك إضرار للشخص الآخر, فهذا من الضوابط التي ينبغي أن نتنبّه إليها, التورية والتعريض ينبغي ألا يكون فيه إيقاع ضررٍ في الآخر, أو نوعٌ من التغرير، أو الخداع للآخرين.

^ دلائل من السنة النبوية الشريفة على التورية المُباحة:

أ- إن الجنة لا يدخلها عجوز:

مما كان يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من التورية المباحة لتطييب قلوب الآخرين، وإدخال السرور على قلوبهم, ما أخرجه الإمام الترمذي عن الحسن البصري رضي الله عنه قال: أتت عجوزٌ النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله, ادعُ الله أن يُدخلني الجنة, فقال:"إن الجنة لا يدخلها عجوز". فولّت تلك المرأة وهي تبكي, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز". إن الله تعالى قال:[]إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء(35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا(36) عُرُبًا أَتْرَابًا(37)[] سورة الواقعة. أي إن أهل الجنة في الجنة, ونساء الجنة في الجنة, لا يكنّ عجائز، إنما يكنّ في سنّ الشباب، وفي سنّ الصبا, فالنبي - عليه الصلاة والسلام - أراد أن يُمازح تلك المرأة العجوز، ويُدخل السرور على قلبها، هذه توريةٌ، وهذا تعريضٌ، لكن فيه خيرٌ، وفيه إدخال سرورٍ على قلب الناس. إذاً.. هذا النوع من التورية مباحٌ، ومسموحٌ به.

ب- إني حاملُك على ولد الناقة:

ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أنس بن مالك، أن رجلاً استحمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:"إني حاملك على ولد الناقة". فقال يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم:"وهل تلد الإبل إلا النوق؟". سنن الترمذي. هذه أيضاً ممازحة من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

جـ- أهو الذي في عينه بياض؟

من شمائل نبينا - عليه الصلاة والسلام - أنه يمزح، ولا يقول إلا حقاً. جاءت إليه امرأة فقالت: يا رسول الله إن زوجي يدعوك, فقال:"أهو الذي بعينه بياض؟" فقالت: ما بعينه بياض! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما من أحد إلا في عينه بياض". فبياض العين هو البياض الذي يحيط بحدقة العين, كل إنسان في عينيه بياض، والنبي - عليه الصلاة والسلام - أراد ممازحة تلك المرأة، وإدخال السرور على قلبها, وهذا يعدّ من المباحات إذا كان بهذا القصد.

^ حكم المبالغة في الكلام:

بعض الناس اعتاد المبالغة في الكلام, وبعض الناس يَتّهمون المُبالِغَ بالكذب, كأنْ يقول الرجل مثلاً: والله أتيت إليك أكثر من ألف مرة, وهو في الحقيقة لم يزُرْه إلا مرة، أو مرتين، أو ثلاث مرات، فلم يجده, ذهب إلى بيته، أو إلى دكانه، أو مكتبه مرة، أو ثنتين، أو ثلاثاً، فلم يجده, فقال له: لِمَ لمْ تزرني؟ فقال: والله جئتك أكثر من ألف مرة. فهذه المبالغة تعد نوعاً من التكرار, فهذا لا يجوز أن نتّهمه بالكذب, لأنه أراد بذلك المبالغة فقط, حيث يكون قد جاءه، وكرر الزيارات مرة، وثنتين، وثلاثاً، وأربعاً، فأراد أن يعبّر له عن كثرة الزيارات، فقال: جئتك مئة مرة، أي إنني جئتك أكثر من مرة، فهذا نوعٌ من المبالغة، ولا يجوز أن نسميه كذباً. والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما ذكر رجلاً يقال له أبو جَهْم, كان رجلاً يضرب امرأته كثيراً، وكان عنيفاً، وشديداً، وقاسياً, قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حقه:"وأما أبو جَهْم, فلا يضع عصاه عن عاتقه". فمن يسمع هذا الكلام يظن أنه دائماً يضرب زوجته, يضربها في كل يوم, وفي كل ليلة. النبي - عليه الصلاة والسلام - أراد من هذا الكلام أن يدلّل على كثرة حدوث هذا الشيء منه, وليس على الدوام, فهو قصدَ المبالغة في هذا الكلام. أما إن كان لم يأته إلا مرة واحدة، وقال له: والله أنا جئتك ألف مرة, فهذا يعد نوعاً من أنواع الكذب.

_ اللّعْن من أخطر آفات اللسان:

^ تعريف اللعن:

أيها القراء الأعزاء: من أشد أنواع خطأ اللسان، وزلاّت اللسان، ما يقع فيه كثيرٌ من الناس باستخدامهم لكلمة اللعن, فيقولون: لَعَنَ اللهُ فلاناً! هذه كلمةٌ خطيرةٌ، وثقيلةٌ في ميزان المسلم يوم القيامة. كلمة اللعن هي كلمة الطرد والإبعاد, يعني حينما نقول: لعن الله فلاناً: أي أبعده من رحمة الله, أو هو مطرودٌ من رحمة الله سبحانه وتعالى.  واللعّانون لا يكونون شُفعاء يوم القيامة.

^ أدلّة من السنّة تُحرّم اللعن:

 أيها الإخوة الكرام: ورد في كلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المؤمن أنه لا يكون لعّاناً، وذلك عندما قال:"ليس المؤمن بطَعّان، ولا لعّان". هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم. وفي حديثٍ:"لا ينبغي لصدّيقٍ أن يكون لعّاناً". صحيح مسلم. كما ورد ذلك في حديثٍ صحيحٍ عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلَعْنُ المسلم حرامٌ بالإجماع, لا يجوز لعن المسلم,كما لا يجوز لعن الحيوان ولا الجماد, ولا لعن الريح, ولا اللعن بكل وصفٍ من الأوصاف التي يستخدمها الناس في مصطلحاتهم، وفي عباراتهم اليومية.

^ ما الصفات التي يجوز لعنها؟

لا يجوز اللعن إلا لِما ثبت عما لعنه اللهُ سبحانه وتعالى, أو ما لعنه سيدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد ثبت عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه لعنَ من ذَبح لغير الله, هذا وصفٌ عامٌ, ملعونٌ من ذبح لغير الله, فإذا لعنّا من ذَبح لغير الله، ولم نُسَمِّهِ باسمه، ولم نَخُصُّه، فهذا أمرٌ سبقنا إليه النبي عليه الصلاة والسلام. وكذلك آكل الربا، ومُوكِله، وكاتبه، وشاهدَيه, والنامصة، والمتنمّصة، والواشمة، والمستوشمة, والواصلة، والمستوصلة, ومانعُ الصدقة, و امرأة زوجها عليها ساخط, والراشي، والمرتشي, وعاصر الخمر، ومعتصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وواهبها، وآكل ثمنها. هذا كله ثبت لعنه من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن لا يصحّ لنا أن نلعن الأشخاص، وإنما نلعن هذه الصفات فقط, وصفة اللعن لا ينبغي أن يتّصف بها الناس فيما بينهم, بل عليهم أن يتحرّزوا من ذكرها، ومن تكرارها وتردادها على الألسنة.

^ مَن لعن شيئاً ليس له بأهل، رجعت اللعنة إليه:

جاء في التحذير من اللعن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثٍ رواه الإمام أبو داوود، عن سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه:"إنّ العبد إذا لعن شيئاً، صعدت اللعنة إلى السماء، فتُغلق أبواب السماء دونها, ثم تهبط إلى الأرض، فتُغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً، فإذا لم تجد مساغاً[3]، رجعت إلى الذي لُعن، وإلا رجعت إلى قائلها". سنن أبي داود. ومن هنا نُدرك خطر اللعن، وتكراره على الألسنة. إذاً.. من لعن شيئاً ليس له بأهل، رجعت اللعنة عليه. فعلينا أن نكفّ ألسنتنا عن اللعن ما استطعنا, وأن نحذر من ترداد كلمة اللعن في حياتنا بشكل عام, فاللعن خطير أيها الإخوة, ويبعد الإنسان عن رحمة الله سبحانه وتعالى. مما يُروى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في سفرٍ، فسمع امرأةً تلعن ناقتها, فأمر بها - الناقة - فسُيِّبت, وقال عليه الصلاة والسلام: "لا يَصحبنا ملعون", كيف وقد أنزلتِ عليها اللعنة (أي طردتِها من رحمة الله)، ثم تريدين أن تصحبنا, أمر بها فسيبت وأطلق سراحها, وقال: لا يصحبنا ملعون, أي طُردَت من الركب. يقول راوي الحديث: فلقد كنا نراها تطلب أن تلحق بالركب، والناس يطردونها, وتركناها منقطعةً، فكانت عقوبة صاحبتها أن بَعُدَ عنها خيرها, وهو ركوب تلك الناقة, فحالَتْ اللعنة عليها؛ لأن اللعنة معناها البعد, إذاً.. حلت اللعنة على صاحبتها، فأُبعدت عن ناقتها، ولم تتمكن من ركوبها. فاللعن إذاً أمرٌ خطيرٌ، ومسألةٌ لا يجوز في حال من الأحوال أن يعتادها الناس.

^ حكم سُباب المسلم، وقتاله، وتكفيره في الإسلام:

وكذلك أيها الإخوة الكرام: بدرجةٍ قريبةٍ من اللعن: سُباب المسلم, وقتاله, وتكفيره, والواجب أن يصون المسلم لسانه من البذاءة، والسب، والشتم، والقذف، واللعن، وكل ما يؤدي إلى هذا البهتان الخطير. الله سبحانه وتعالى يقول:[]وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا[] سورة الأحزاب (58). وقعوا في إثمٍ خطيرٍ وكبيرٍ، واقترفوا البهتان العظيم. النبي - صلى الله عليه وسلم - حذّرنا من السُباب لقوله:"سُباب المسلم فسوق, وقتاله كفر" متفق عليه. فلا يصح في حالٍ من الأحوال أن يسبَّ المسلم أخاه المسلم, ولا أن يقاتلَه، أو يرفعَ السلاح في وجهه، أو يُشهِرَ السيف في وجهه, ولا أن يسيء إليه في أي حالٍ من الأحوال. وعن عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من الكبائر شتم الرجل والديه. قالوا: يا رسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم, يسبُّ أبا الرجل، فيسبَّ أباه, ويسبُّ أمه فيسبَّ أمه". صحيح مسلم . فحينما يسب رجلٌ أبا رجلٍ من الناس، فإن هذه السُبة والشتيمة تعود على أبيه, تلحقه بأذى, وكذلك حينما يشتم أمَّ الأخر، فكأنما يشتم أمه, فلا يصح إذاً أن نسبّ أحداً من المسلمين، ولا أن نشتمه, كما لا يصح أن نناديَه باسمٍ لا يليق، أو أن نَنْبِزَهُ بلقبٍ يكرهه, أو أن ندعوه بغير ما يُدعى به بين الناس, وهذه عادةٌ قبيحةٌ اعتادها بعض الناس, بأنهم يطلقون ألقاباً ذميمةً، وصفاتٍ سلبيةً على بعض الناس، فلا يصح أن ننادي إنساناً، فنقول: يا فاسق، أو يا كافر، أو يا كلب، أو يا حمار، أو يا زنديق، أو غير ذلك من الكلمات التي يحرّم علينا أن ننادي بعضنا بها, أو أن ننابز بالألقاب من ليسوا بتلك الصفات. يقول الإمام إبراهيم النخعيّ رحمه الله تعالى:"إذا قال الرجل للرجل: يا حمار، أو يا خنزير, قيل له يوم القيامة: أرأيتني خُلقتُ حماراً؟ أو أرأيتني خُلقتُ خنزيراً؟". إذاً.. يُحاسب يوم القيامة على هذه الكلمة. هذا إنسانٌ كرّمه الله سبحانه وتعالى، وأقسم به، وخلقه في أحسن صورةٍ، وجعله في أحسن تقويم, فكيف نصفه بصفات البهائم، وصفات غير الآدميّ؛ مما لا يليق في حالٍ من الأحوال؟ أما قضية التكفير، فهذه مسألةٌ خطيرةٌ كل الخطورة, ولجأ بعض الناس إلى التساهل بها, فإن أخطأ الإنسان في لفظٍ، أو كلمةٍ، أو وصفٍ، أو حالٍ من الأحوال, يبادر هؤلاء إلى وصفه بالكفر، وإلى نعته بهذه الصفة التي تُخرجه عن ملة الإسلام, ومن كفّر مسلماً لإسلامه فهو كافر, ومن كفّر مسلماً باء بها أحدهما. إذا كان مسلم يشهد أن لا اله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم نعتناه، ووصفناه بالكفر، فلا شك أن هذه الكلمة سيبوء بها أحد الموصوفين بها.فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يُطّهر ألسنتنا من هذه الصفات الذميمة، والأخلاق السيئة التي حذّرنا منها النبي صلى الله عليه وسلم.

أيها الإخوة: زلاّت اللسان خطيرة على الإنسان، في الدنيا وفي الآخرة، وإنها مما يُلقي الإنسان في النار على وجهه، أو على منخريه، يكبه في نار جهنم كما أخبرنا بذلك سيدنا معاذ بن جبل في الحديث الطويل:"وهل يُكب الناسَ في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم؟". رواه الترمذي.

^ دعاء:

اللهم طهّر ألسنتنا واحفظها من كل سوء، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعلنا من الذاكرين. اللهم اجعلنا من المصلين على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, من القارئين لكتاب الله، والعاملين بسنة سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

حلقة من برنامج "نور على نور"

أذيعت بتاريخ 8/4/1429هـ - 14/4/2008 م

والشكر والثناء لمن قام بتنضيد الكلمة

وتنسيقها و تهيئتها للنشر

 



1. بهتَّه: قذفتَه إلى خصلةٍ خبيثةٍ، وسيّئةٍ لم يفعلها، ولم يتّصف بها.

2. قالها ثلاثاً.

3. لم تجد مساغاً:  أي لم تجد طريقها الذي أُرسلت إليه.

 التعليقات: 2

 مرات القراءة: 4582

 تاريخ النشر: 03/04/2009

2009-04-05

مريم

جزاك الله عنا خير الجزاء..

 
2009-04-05

علا صبَّاغ

جزاك الله خيراً على عرض الكلمة في هذه الصفحة مكتوبةً لإيصالها إلى أكبر عدد ممكن من الناس..

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1506

: - عدد زوار اليوم

7404475

: - عدد الزوار الكلي
[ 62 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan