::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> قطوف لغوية

 

 

من إلهام الربيع

بقلم : ليث عمر عمر  

(( وتلك الأيام نداولها بين الناس )) فلا الصيف يبقى بحره القائض وأرضه الملتهبة , ولا الشتاء مستمر ببرده القارس والأرض الموحلة , ولكن بينهما فصل يجمع بين اعتدال الحرارة وبين رطوبة الأرض وغطائها الجميل ؛ إنه الربيع : الذي يحمل في أيامه معاني البهجة والسرور لكلٍ من البشر والطيور , يجد فيه الناس الأنس والصفاء مما قد أوحشهم وعكّر وجوههم في الشتاء , إذ قد مرّ عليهم ذلك الفصل وقد حرموا فيه من رؤية الشمس التي حجبتها عنهم غيوم السماء , كما يمنع الحجاب رؤية مفاتن الحسناء , وتكاثف الضباب الذي يحجب الأشياء عن رؤيتها , كما يتكاثف الباطل ويحجب الحقيقة عن طالبها وقد ملّ الناس من جلوس البيوت واشتاقوا الخروج إلى الفلاة , وطال حبس الطيور في أوكارها الضيقة وحنت إلى التحليق في أرجاء الفضاء , فيأتي فصل الربيع فيطلق الكل من أسرهم ويُدخل السرور إلى نفوسهم , وكأنه جزاءٌ لهم على طول صبرهم في حبسهم , فراحت الطيور تحلق في عالمها الفسيح وهي ترتل أعذب الألحان وها هي الشمس في كبد السماء ساطعة لا يحجبها غيم , والأرض واضحة معالمها لا يمنع ضباب من تسريح الفكر والنظر في أرجائها وقد لبست أبهى حللها الخضراء , والسماء من فوقها شدة الصفاء , وكأنه سباق بينهما بالألوان , فأما السماء فقد أبدت بديع زراقها , والأرض قد عرضت نضارة خضارها , وتدخل عنصر ثالث في السباق وهو الشمس بشدة صفارها عندئذ احتار الحكم أي تلك الألوان أجمل ؟! , ويخرج الناس فرحين مبتهجين بذلك المنظر البهي , فالشاعر وجد في ذلك المشهد الرائع ما يدعوه لأن يطلق للشعر أعنته وينظم درر الكلام  وأخذ العاشق الولهان ينظر إلى الزهرة ويحاكيها وكأنه ينظر ويحاكي الفاتنة , وكيف لا ؟ وقد لعب غصنها الرفيع دور نحولة خصرها , وفي حمرة لونها حمرة وجناتها , وفي رقة أوراقها رقة شفاهها , وفي طيب عبقها طيب قربها وعرقها ! .

    خرجت من منـزلي في ذات يوم من هذه الأيام ذوات الطقس الهادئ هدوء نفس المطمئن والجو الصافي النقي , صفاء جلسة العشاق , ونقاء سريرة الأطفال , وقد هبت نسمة خفيفة خفة الروح في الجسد فمرت على الرياض والبساتين فتراقصت أزهارها باختلاف ألوانها كما يتراقص الجواري أمام سيده باختلاف لون ثيابهن ! , وكان هناك بركة من الماء قد علتها الشمس فمرت تلك النسمة فتماوجت فغدت تبدو للعين وكأنها لألئ ومجوهرات قد نثرت ,  وكان أمام البركة المتلألئة والبساتين النضرة شجرة فمرت بها تلك النسمة فداعبت أغصانها , وكأنها تصفق لذلك المشهد الرائع بحفيف أوراقها , وأخذت أمعن الطرف في الأرض الممتدة أمامي ومن خلفي , وعن يميني وعن شمالي ومن تحتي , وإذا بها خضراء على مد البصر بما في ذلك الوادي والجبل , وكأن عالم البر اطلع على عالم البحر فوجد فيه بحراً اسمه : البحر الأسود , ومتوسط اسمه : البحر الأبيض , وثالث اسمه : البحر الأحمر , فأراد أن ينفرد بنوع من الأبحر هو من النبات لا من الماء اسمه : البحر الأخضر , وهو حي لا كما هناك بحراً ميتاً , وسألت نفسي وقتها : ما معنى الربيع ؟ هل هو درس يكرر للإنسانية في كل عام مرة بأن لا يغتروا بريعان الشباب ونضارة الوجه وقوة القوام ؟ , فإنه سيؤول بعد فترة إلى الشيخوخة وتجعد الوجه وضعف البنيان , كحال هذه الزهور , فإن مصيرها الذبول بعد النضارة , واصفرار الكلأ بعدما كان أخضراً غضاً طرياً , وعطش الأرض وقد كانت قبل أشهر مروية ! أم أن الأرض أرادت أن تحكي بنباتها قصة الناس وتعبر عن حقيقتهم إذ أصل النبات والإنسان منها , فهي أمهم الأولى منها خرجوا وإليها يعودوا لذلك تشابهوا في الصفات ؟ فكم تجد في هذا الفصل أو في غيره زهرة لينة الملمس سهلة المأخذ , فإذ ما دنوت منها وأخذتها لتشمها وإذا بك تلقيها وتنفر منها أيما نفور إذ لا رائحة زكية فيها , ولعمري ما فائدة الزهر من غير أريج ؟ شأن كثير من الناس يعجبك منظر الواحد منهم من بعيد وشكله , ولكنك ما إن تخالطه أو تحادثه وإذا بك تعرض عنه الإعراض كله وتنفر منه إذ لا أخلاق فاضلة يتمتع بها ولا علم شريف يحفظه ! , وليت شعري ما فائدة الجمال إن لم يتوج بهذين التاجين ؟

ليس الجمال بمئزرٍ      فاعلم وإن رُديت بُرداً

إن الجمال مناقبٌ         ومآثر أورثن مجداً

 

     ثم تلوح لك من بعيد وردة فائقة النضارة وقد سُحرت بجمالها فتقول في نفسك : هذه هي الزهرة التي أبحث عنها لتزكي بشذاها أنفي , غير أنك ما إن تقترب منها وتطلع على حقيقتها حتى ترجع بالخيبة وتتيقن من نفسك سوء الاختيار إذ أنها شوك تبدو من بعيد وكأنها وردٌ ذو عطر فواح , شأن كثير من المتبرجات , فإنها تظهر مفاتنها للشباب وتحسن مظهرها الخارجي , فإذا رآها شاب يظن أنها هي الزوجة التي يبحث عنها وفتاة أحلامه , ولكن الحقيقة غير هذا , إنها فتاة ينفر عنها كل ذو خلق ودين لأنها لا تتمتع بهاتين الصفتين الفاضلتين .

    ثم إذا ما نظرت إلى البابونج هذا الزهر ذو الرأس الأصفر ومن حوله أوراق بيضاء وكأنه قرص الشمس وقد التفت حوله هالة من الديم , وأخذت تتمعن في حقيقته وتتفكر بحاله , فإنك ستجد من أمره العجب العجاب , إذ أنه عندما يكون أخضراً فهو ذو منظر رائع ورائحة زكية , وإذا ما جف فإن رائحته تبقى بعض الشيء ويصنع منه شراب طيب , مثل أهل العلم والفضل , فإنهم في حال حياتهم كأنهم في بقاع الأرض أزهار , أضف إلى ذلك سيرتهم الطيبة العطرة , وبعد وفاتهم يبقى فضلهم مستمراً بين الناس متمثلاً فيما يتركونه ورائهم من كتب علمية مفيدة تروي العقول , وما الموت إلا لأجسادهم ليس إلا , وهكذا فليكون النبات وإلا فلا , فلتعتبر سائر النباتات . ثم قف ملياً أمام حقول القمح وتفكر فيها فإنك ستجدها عندما تكون في أول ظهورها فإتها تكون ذات لون أخضر جميل , وإذا ما أصبح فيها سنبل وامتلأت تلك السنابل قمحاً فإنها تحني رأسها وتبقى الفارغة رافعة رأسها , وكذلكم وصف الذين يعكفون على دراسة العلم وتحصيله , فإن الواحد منهم كلما ازداد علماً ازداد تواضعاً , بخلاف صاحب العلم القليل أو الجاهل فإنه يبقى متكبراً دوماً , ورحم الله الشاعر إذ قال :

ملء السنابل تنحني كرماً           والفارغات رؤوسهن شوامخُ

    فلنعتبر من هذه الدروس وغيرها , فإيانا أن يمر بنا هذا الفصل الجميل دون أن نستفيد من درسه, أضف إلى ذلك أن نتذكر عظمة صنع الله ونقف أمام بديع خلقه دون عقل منا ، وصدق الله القائل :

) وما يذكر إلا أولو الألباب ( .

 

 

 

 التعليقات: 1

 مرات القراءة: 2765

 تاريخ النشر: 28/04/2009

2009-04-30

دعاء الأصفياء

السّلام عليكم* ما أروعها من كلمات ومعان! مزيج من التّفكّر والتّدبّر والأسلوب المبدع، أعاننا الله على تمثّل النّباتات الحييّة المعطاءة المتواضعة، لا المتعجرفة الفارغة الخادعة. جزاكم الله خيراً*

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1421

: - عدد زوار اليوم

7398423

: - عدد الزوار الكلي
[ 56 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan