::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مقالات متنوعة

 

 

التدين.. صورة أم مضمون؟!!

بقلم : د. عبد الله الخليوي  

 

رسخ في أذهاننا منذ زمن بعيد أن التدين يرتبط بالمظهر أكثر منه في المخبر، وأصبحت سمة غالبة في المجتمع أن الشكل يعطي انطباعاً أولياً عن فكر حامله، متناسين أو متغافلين عن عوامل أخرى تشكل في مجموعها الصفة أو السمة البارزة التي يتمتع بها ذلك الإنسان.

على سبيل المثال لا الحصر، من أسهل الأمور أن تطلق لحيتك وتقصر ثوبك فهذا يعطي ايحاء عند من يشاهدك بأنك إنسان متدين، لكن في المقابل هناك أمور لا يعلمها الناس عنك فهم يلمحونك تسير في طريق أو تتبضع من المتجر أو تستقل حافلة لكن لم يعرفوك عن كثب ولذا يصفونك لأول وهلة بأنك ملتزم أو متدين استناداً على المظهر الخارجي.

انكفأت الكثير من المفاهيم وغلبت العادات على العبادات في صورة مهترئة مشوهة فصار العرف الاجتماعي يلعب دوراً كبيراً وفاعلاً في رسم خارطة الأحكام ويضيق على أحكام الشرع ويخنقها في دهاليز العيب فلا ترى لها عوجاً ولا أمتاً.

إن نسيجنا الاجتماعي يقوم على ثقافة العيب، ولا عيب في نشر ثقافة العيب، فالحياء من الإيمان، لكن العيب في الفهم المبتور لنصوص الوحيين، الفهم القاصر في تفسير آيات الأحكام. الله جميل يحب الجمال، لماذا تستقر في قاع موروثنا الفكري والاجتماعي أمور نرفض أن نستدعيها من قاع العقل ونغربلها تحت مجهر الاحتكام إلى القرآن والسنة. إن شريعة الإسلام لم تأت إلا بالتيسير على الناس ورفع الحرج، لا التضييق عليهم، ولهذا فإن دين الإسلام هو دين الفطرة بامتياز لا رهبانية فيه ولا غلو ولا تطرف ولا تسيب أو انفلات.

إن ثقافة التدين التي استقرت في أفهام الكثير هي في الشكل لا المضمون. قد تجد الشعار ظاهراً يرفرف في أرجاء الزمان والمكان لكن حَمَلة (بفتح الميم واللام) الشعار أبعد ما يكونون عن هدي الإسلام وسماحته وطهارته. كثيراً ما نجد ممارسات تصادم تعاليم الإسلام في صورة ممجوجة تعطي انطباعاً سيئاً عن الدين والمتدينين. ولاشك أن الحق لا يعرف بتلك الممارسات الهابطة بل بمصادره من القرآن والسنة، والذي يرسخ في مخيلة الناس هي تلك التصرفات التي يربطونها في عقلهم الباطن بالتدين رغم انبثاقها من متظاهرين بالتدين، لكن الأفهام تختلف والصورة النمطية التي  سُقيت بماء العادات والموروث الاجتماعي لازالت تُفَنِّد التديُّن وتُصنِّف المتدينين طبقاً لظواهرهم مما يُحدث نفوراً غير مبرَّر من التدين وفقاً لقواعد السلوك الاجتماعي.

إن من يحمل شعار التدين في ظاهره  يتحمل مسؤولية أكبر في رسم صورة باهرة محببة للنفوس عن الإسلام فيعكس سماحة الإسلام وروحه وهديه للناس جميعاً على اختلاف عقائدهم ودياناتهم.

إن الإلتزام بالدين هو مخبر ومظهر، هو سلوك وتطبيق، هو قول وفعل، هو ممارسة صادقة لما استقر في الفؤاد من حب للدين. فعن أبي هريرة  رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم،   ولكن ينظر إلى قلوبكم)) – رواه مسلم.

إن التشنج الذي يظهر على البعض في رؤية أخطاء الآخرين وتضخيمها هو مخالف لمنهاج القرآن في معالجة الأخطاء، ومخالف لهدي الرسول عليه الصلاة والسلام في الدعوة بالتي هي أحسن. كلنا في هذه الأرض بشر تسري علينا أحكام البشر، فينا خليط من المشاعر والعواطف والعقل والاتزان في صورة اندماجية رائعة هي مزيج الطين والروح، وقد هدى الله الإنسان السبيل إما شاكراً وإما كفوراً، فمن غلبت روحه عواطفه نما وسما، ومن غلبت عواطفه روحه وعقله سقط وكبا لسنا بدعاً من الناس ولا نزايد على حُبِّ الإسلام أكثر من جيل الصحابة ومن تبعهم الذين كانوا أطهر قلوباً وأنقى سريرة وأتقى لله، ومع ذلك كانوا أحرص ما يكونون على اتباع نور الوحيين مهما كلفهم ذلك. أنا لا أشكِّك في محبة الكثير لهذا الدين، لكني أمارس نقداً موضوعياً لكثير من المفاهيم المغلوطة التي تقبع في  معارج عقولهم واجمة ساكنة لا تقبل الجدل ولا البعثرة وكأنها وحي قاطع عندهم فيه من الله برهان. إن التدين الحقيقي ينبع من ذات الإنسان، من صفاء نفسه وطهارة منبته ومراقبته لعلام الغيوب. إن المبالغة في فرض صورة محددة عن التدين بهذا التجريف المخل والإقصاء المتأزم هو حياد عن التدين الحقيقي الذي يتسع لمساحة الخطأ لأنه يؤمن بالمغفرة قال تعالى: ((إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء)).

إننا كبشر نخوض معتركاً صاخباً ونرتقي مرتقى صعباً في معارج الحياة، نجابه عدواً متربصاً كتب الله له الحياة إلى أن يرث الأرض ومن عليها. وما لم نتصف بالحكمة والموعظة الحسنة والعلم بمراد الله فإننا على دحض مزلة. إن الإسلام أتى ديناً شاملاً ودستوراً متكاملاً للناس جميعاً، لا واسطة فيه بين الخلق والخالق أعمال القلوب فيه هي الركيزة والأساس. إن الرسول عليه الصلاة والسلام أتى بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً بدد الله به ظلام الجهل وخزعبلات الجاهلية وأبطل به موروثاً اجتماعياً ضخماً حاد زماناً عن الطريق. لقد أولى الإسلام عناية كبيرة بالتدين الحقيقي المتمثل في أمور كثيرة: منها حسن الخلق وخوف الله واتباع أوامره واجتناب نواهيه والبكاء من خشيته سبحانه، ولهذا كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه. إن هذه الدنيا بعجرها وبجرها وملذاتها هي الامتحان الحقيقي لحقيقة التدين فمن يؤثر ما عند الله على ما عند الناس، ومن يمتنع عن مقارفة الحرام خوفا من الله، ومن يلزم طريق الاستقامة فقد مارس التدين الحقيقي.

إن اختزال الدين في الصلاة والصيام والمظهر أمر مخل ومضرّ بالدين. إن السلوك الإنساني السوي والمنضبط بضوابط الشرع هو وقود التدين. إن الفظاظة في الدعوة إلى الله وفي التعاطي مع الناس أمر تمجه الفطرة السليمة وهل الإسلام إلا دين الفطرة، قال تعالى: ((ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)) [آل عمران: 159]. ما أحوجنا أن ندعو غير المسلم بسلوكنا قبل قولنا، بتعاملنا قبل منشوراتنا، بأخلاقنا بسلوكنا ببشاشتنا بسماحتنا التي تتسع لأخطاء الناس وزلاتهم.

إن من يرفع الشعار حري به أن يكون أنموذجاً حياً يمشي على الأرض وشجرة باسقة يراها الناس فتسر عقولهم وقلوبهم، يستفيئون بظلها ويأكلون من ثمرها، لا أن يكون بركاناً يرميهم بحمم أفكاره المتشنجة وفهمه المغلوط لسماحة الإسلام.

إن من يرفع شعار الإسلام الظاهر ويخفق في التعامل الحسن مع والديه لا يحمل روح الإسلام، ومن يحمل شعار الإسلام الظاهر ويغش الناس في المعاملات لا يحمل روح الإسلام، ومن يكذب ومن يسرق ومن يكيد للناس وغيرهم كثير، كلها نماذج أفرزت ضديدها في محيطنا الاجتماعي فتولد الكره والبغض والنفرة  لكل ما يمت للدين بصلة، ونحت في الأذهان صورة قاتمة عن الدين وأهله. إن التدين يكون في صور ظاهرة وصور مستترة، وأكرر مرة أخرى بأن التدين يكون بطاعة الوالدين والإحسان إلى الزوجة وحسن معاملة الفقير والتعامل الحسن مع الناس والخلق الرفيع والصدق والأمانة  والوفاء بالعهد ومدّ يد العون للمحتاج والتبسم في وجه المسلم وإحسان الظن بالخلق والكرم والإيثار وصلة القريب والجار والصبر على طاعة الله وتحمل الهفوات وسد الثغرات والتغافل عن أخطاء الناس فيما لا يضر أو يقدح في الدين، وغيرها كثير.

والإيمان، كما قال إمام التابعين الحسن البصري رحمه الله:  ليس بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، فهل أعمالنا تصدق ما وقر في قلوبنا من إيمان. إن الخلق الحسن يقود المسلم للجنة بل إن المسلم ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم.. خياركم لنسائهم".

إن الممارسة الصحيحة لتعاليم الدين تنشئ مجتمعاً صالحاً مترابطاً وتكون محضناً صالحاً للجيل المسلم ينشأ فيرى الإسلام قولاً وعملاً.. يراه في تعامل والديه مع بعضهما ويراه في وفاء الجار وفي صدق المدرس وفي أمانة العامل وفي إيثار الصديق وفي تغاضي الأب وفي حب الخير لدى الناس. إن الإسلام لم يأت أحكاماً جوفاء تستقر في عقول العلماء أو في بطون الكتب، بل أتى نظاماً حياتياً يمارس في دنيا الواقع ويقدم أنموذجاً راقياً لحياة البشر، حياة لا تغفل الجانب الروحي ولا الجانب المادي. إن تقوى الله لا تُنال بالمظاهر، والأعمال لا تقبل من دون إخلاص النية لله سبحانه وتعالى، وتقوى الله تقود إلى الجنة، وعن أبي هريرة قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ فقال: "تقوى الله وحسن الخلق". سُئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: "الفم والفرج" رواه الترمذي وقال:حديث حسن صحيح.

ولا شك أن التقوى هي أصل التدين فالمتقي يحاذر في سيره إلى الله، يراقب حركاته وسكناته يهتدي بهدي الله ويتخلق بأخلاق القرآن، وقد أثنى الله على المتقين في كثير من الآيات في القرآن الكريم وحث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث. وقد لا يتقي الله من يمتطي حصان رغباته وخلواته فيبارز الله بالمعاصي ويبطن خلاف ما يراه عليه الناس.

 

المصدر: موقع لجينيات

 

 

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 3653

 تاريخ النشر: 23/06/2009

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1181

: - عدد زوار اليوم

7397459

: - عدد الزوار الكلي
[ 64 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan