::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> كلمة المشرف

 

 

آداب النزهـات ...

بقلم : الشّيخ محمد خير الطرشان "المشرف العام"  

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللّهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا، ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

بعد الانتهاء من العام الدراسي والامتحانات، ومع اشتداد الحر في فصل الصيف، يبدأ وقت النزهات، فيطمح الإنسان إلى أن يفرّ من الحر؛ طلباً للهواء البارد والرطب، وقصداً للجو العليل، والنسمات اللطيفة، فيخرج متلمّساً أماكن الظل، والفيء، والهواء البارد مع أهله وأولاده، ويكون بذلك متنزّهاً عن بعض الهموم والشدائد التي تصيب الإنسان في حياته، لذلك كان لا بد من ضوابط لهذه النزهات، وهذا الاستجمام؛ حتى يكون في البداية والنهاية في طاعة الله سبحانه وتعالى.

^ المعنى اللغوي لكلمة التنزه:

إن كلمة التنزه في اللغة تعني: الترفُّع عن الشُّبَه. فعلى كل متنزه أن يترفع عن الوقوع في الشبهات، وألا يقع في المحرمات التي يفسد عليه نزهته.

^ النية عند الخروج للنزهة:

أول ما ينبغي أن تُعقد عليه النية، وأن يُصَحَّح فيه القصد أن يكون خروج الإنسان للنزهة بقصد طاعة الله سبحانه وتعالى. فسواء خرج لذلك يوماً، أو أياماً، أو بضع ساعات، لا بد أن ينوي بذلك التقوِّي على طاعة الله، وإدخال السرور على أهله وعياله، وأن يعود إلى بيته أكثر همةً ونشاطاً مما كان عليه فيما مضى، وقديماً ورد عن أهل الأدب قولهم: "ثلاثة تجلو عن القلب الحَزَن؛ الماء، والخضرة، والشكل الحسن". فالخضرة مع الماء، ومع الأهل والعيال لا شك في أنها تبعث في النفس السرور، والفرح، والبهجة.

والخروج إلى النزهات مطلب تحتاجه النفس؛ لأن النفس عادة ما تحتاج إلى الترويح، واللهو المباح لتدفع به الملل، والسآمة، وعناء الالتزامات، وضغوط الحياة، وهموم المعيشة... والأصل في ذلك الحِلُّ والإباحة، فالرحلات، والنزهات أمر جائز، إلا إذا اقترن بها فعل محظور، أو محرّم، أو إذا أشغلت الإنسان المسلم عن الواجبات، فأدت إلى ضياع الصلوات، والوقوع في المعاصي، فعند ذلك يكون القصد محرّماً.

^ فوائد النزهات:

ورد أن سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبدو إلى التِّلاع[1]، وكذلك كان أصحابه - صلى الله عليه وسلم - يخرجون إلى البادية بقصد تغيير الحال، وطلباً للنزهة وتغيير الأوضاع التي يكونون عليها، وكذلك ورد عن كثيرٌ من أهل العلم أنهم كانوا يخرجون إلى الضياع، والبساتين، والبادية؛ ترويحاً عن أنفسهم، ولا شك أن هذه النزهات لها فوائد كثيرة وعظيمة، من أهمها:

أ- ترويح النفس:

ترويح النفس، وإجمامها، وإزالة ما علق بها من آثار نتيجةَ الهموم والضغوطات اليومية.

ب- التعرف على البلدان وأخلاق الناس:

وكذلك من الفوائد أن الإنسان يتعرف على الأماكن والبلدان، ويكتشف أخلاق الناس، وطباعهم.

جـ- اكتساب مهارات جديدة وتقوية الروابط الأسرية:

يتكسب الإنسان في النزهة مهارات جديدة، وينمّي قدراته وقدرات أبنائه، ويقوّي أواصر الأخوّة، والمودة، والرحمة فيما بينه وبين عائلته وأسرته.

ء- تنمية الشخصية:

إن النزهات تعلّم الأولاد على قوة الشخصية، وحسن التصرف، والقدرة على اتخاذ القرار المناسب، والاعتماد على النفس، وعلى الخشونة أحياناً، فقد يتعرض الإنسان في نزهته إلى مواقف من الشدة تحتاج إلى قوة البدن، وقد يتعرض إلى حالات تَضطَّرُه إلى الصبر على العطش، أو الجوع، أو غير ذلك, علماً أنه قد خرج من بيته بقصد الترويح عن نفسه، لكن الله - سبحانه وتعالى - يقدّر على الإنسان مثل هذه الأمور؛ حتى يتدرب، ويتعوّد على مواجهة الشدائد والمشقات بصدر رحب، ونفس مُتقبِّلة لهذا الأمر.

هـ- التفكر في خلق الله تعالى:

إن أعظم ما يستفيده المسلم من النزهات هو التفكر في مخلوقات الله العجيبة، التفكر في الكون، والوقوف على مشاهد كونية يتجلى فيها كمال قدرة الله سبحانه وتعالى، وسَعة علمه، وإتقان صنعه، ويشعر فيها المؤمن بالخشوع، والإجلال، والخوف، والرهبة من الله - سبحانه وتعالى - وهو يتأمل شروق الشمس، أو غروبها، أو طلوع القمر، أو نزول المطر، أو شدة الرياح، أو يتأمل في الزهور والرياحين في وقت الربيع، أو في ظهور النبات، أو فيما حملته الأشجار من الفاكهة، أو الخضرة، أو النبات، أو غير ذلك... والله - سبحانه وتعالى - يقول:[]إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)[] سورة آل عمران. فالتفكر في مخلوقات الله تعالى، وفي آياته الكونية هو أحد أهم الأهداف التي ينبغي أن يضعها المسلم في حسبانه عندما يخرج في نزهة، سواء قصد البحر، أو الجبل، أو الوادي، أو البر، أو الصحراء، أو أي سفر أو نزهة من هذا النوع.

والناس يتفاوتون تفاوتاً كبيراً في قضاء أوقاتهم خلال هذه الإجازات الصيفية، فجُلُّهم يعقدون العزم على الترويح عن أنفسهم، والتوسِعة على عيالهم، والبحث عن متنزّهات مناسبة لهم، يجدون فيها متنفَّساً، يعبرون فيها عن فرحتهم، وسرورهم، وعن التئام شملهم، وشمل أسرتهم. حتى أن بعض الناس يجعل نزهته هذه سفراً إلى الأماكن المقدسة؛ لأداء العمرة، وزيارة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصلاة في الحرمين الشريفين، وتحصيل الأجر والثواب، والنفقة الحلال المباح التي جعلها الله - سبحانه وتعالى - نفقة مأجورة يُثيب عليها صاحبها، ويعوضها عليه. والإسلام يحضّ على الترويح عن النفس، لكن في حدود المباح، فالنبي - عليه الصلاة والسلام - وجّهنا إلى 1لك عندما قال: "إن لجسدك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حقّ حقه". فالجسد له حق على صاحبه أن يأخذ قسطاً من الراحة، أو الفسحة، أو النزهة فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، فلا حرج على المسلم أن يروّح عن نفسه وأهله دونما إسراف، أو تقتير، أو تفريط في طاعة الله تعالى، وتضييع لحقوقه وواجباته، أو وقوع في المعاصي، فليس الهدف من النزهة أن يقع الإنسان المسلم في معصية، إنما الهدف منها أن يتقوّى على طاعة الله، وأن يَشُدّ همته في سبيل الله، وأن يستعد من جديد كي يبدأ حياة جيدة، بهمة عالية، ونفس مطمئنة. فالمسلم عليه أن يستغل تلك الرحلة في التدبر، والتفكر، والتأمل في عجيب خلق الله سبحانه وتعالى، وبديع كائناته، وحسن صنعه، وإتقانه لهذه الصنعة التي خلقها ربنا سبحانه وتعالى.

^ آداب النزهات:

كل من يريد أن يخرج نزهة عليه أن يتدرب على آداب النزهات، والرحلات، والسفر؛ لكي يكون على بصيرة بأمر دينه، وحتى لا يوقع نفسه فيما حرم الله سبحانه وتعالى، فتنعكس عليه هذه الرحلة معاصيَ وذنوباً خطيرة بدلاً من أن يكون فيها ثواب وأجر من الله سبحانه وتعالى.

أ- النيّة في التقوّي على طاعة الله وإدخال السور على الأهل:

من أهم الآداب التي على المسلم أن يراعيها في رحلاته: أولاً وقبل كل شيء عليه أن يستحضر النية الخالصة الطيبة لتلك النزهة، وأن تكون النية هي التقوّي على طاعة الله، أو التوسِعة على العيال، وإدخال السرور عليهم، فالمعلوم أن النزهة في وقتنا الحاضر تختلف عما كانت عليه في أزمنة سبقت، فالآن كل شيء ميسّر، يمكن لمن أراد السفر، أو النزهة أن يركب السيارة، أو يسافر بالطائرة، أو ربما يركب الفُلك التي تمخُر عُباب البحر، ويذهب إلى أي اتجاه في العالم في زمن يسير، فمع توفُّر هذه الوسائل المريحة لا بد لمن أراد السفر، أو النزهة من أن يعتصم بالله سبحانه وتعالى، وأن يحتمي بجنابه، وأن يلتجئ إليه، ويتوجه إليه بالدعاء أن ييسر له سفره ونزهته، وأن يعاهد الله - تعالى - ألا يبارزه بالمعصية في تلك النزهة، وأن يحرص فيه على طاعة الله ومرضاته. وهذا الأمر ربما غفل عنه كثير من المتنزهين والمسافرين، فبعضهم يُعرِض عن مراقبة الله تعالى، وربما يُخَيَّل له أنه في بعد عن قبضة الله، أو بعد عن أنظار الناس الذين يرونه على حال من المعصية، ربما يُحرج إذا رأوه، أما إن كان في سفر أو نزهة بعيدة يكون بعيداً عن نظرهم، لكنه ليس بعيداً عن نظر الله سبحانه وتعالى، ومراقبته، فالله معنا حيثما كنا حيث قال:[]...وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ...[] سورة الحديد (4). لذلك نجد الذين ينوون نية سيئة بالسفر بقصد البحث عن الملذات، والشهوات بعيداً عن أعين الناس يُحرمون التوفيق، ويُصابون بالأكدار، والمنغصات، وضيق الصدر، والعذاب النفسي الذي يحرمهم الطمأنينة والسعادة، ويحوّل نزهتهم إلى منغصات، وكَدَر، ومشقة على النفس. أما المسلم الذي يتقي الله - تعالى - في سفره فإنه يذهب طاهراً، ويعود طاهراً، يذهب نقياً، ويعود نقياً كما ذهب؛ لأنه قصد بسفره التقوّي على طاعة الله تعالى، وإدخال السرور على أهله وعياله إن كان يصحبهم في ذلك السفر.

إذاً أول الآداب على الإطلاق أن يستحضر المتنَزه النية الخالصة، التي يكون فيها طاعة لله سبحانه وتعالى، وتحوّل السفر إلى أمر مباح يُؤجر عليه العبد، ويُثاب على ما ينفقه من مال في سبيل إسعاد أهله وعياله.

ب- اختيار المكان المناسب للجلوس:

على المتنزه أن يختار مكاناً للجلوس مع عائلته متمتعاً بالسفر، والحفاظ على النفس؛ حتى يأخذ الأهل والأولاد راحتهم دونما تشدد أو تساهل، فالبعد عن أعين الناس يفتح المجال للأسرة أن تتصرف بحرية، وأن تحافظ على عفتها وحشمتها دون أي إساءة إليها.

جـ- التعوذ من شر المكان الذي ينزل فيه:

من السنة عند نزول مكان ما واختياره أن يقول المسلم ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق". صحيح مسلم. فمَن قال هذا الدعاء فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل عنه، لا يضره شيء من هوامّ الأرض، أو السباع، أو الحشرات، أو أذى الناس، ونحو ذلك... وبهذا الدعاء يُحفظ - بإذن الله تعالى - من سائر أنواع الأذى.

ء- ألا يؤذي جيرانه في النزهة:

عندما ينزل الإنسان في مكان عليه ألا يؤذي المتنزهين أمثاله، فبعض الناس يؤذي إخوانه قي المتنزهات والأماكن العامة برفع صوت الغناء مثلاً، أو بقيادة السيارة بطريقة متهورة، أو بالتدخين وتلويث البيئة، وهذا الإيذاء يُعد نوعاً مما يسيء فيه الإنسان إلى الجار، فإذا كان يجلس في مكان، وله جوار في متنزهه فإنه يسيء إلى جواره، والأشد من ذلك أن بعض الشباب - هداهم الله تعالى - يتعرضون في المتنزهات إلى النساء المسلمات المحتشمات، فيسيئون إليهن، ويتصرفون تصرفات غير لائقة، لا تتناسب مع أخلاق المسلم، وثقافته، وتربيته التي ينبغي أن تحضّه على رعاية المسلمين، وحفظ حقوقهم، سواء كان ضمن البيت أو خارجه، وهكذا يضمن المسلم ألا يقع في إيذاء إخوانه. والله - سبحانه وتعالى - حذر من إيذاء المسلم للمسلمين والمسلمات، فقال سبحانه:[]وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا[] سورة الأحزاب (58). فأولئك الشباب الذين يتعرضون إلى النساء المسلمات بالأذى، والتحرّش، ونحو ذلك من أنواع الإيذاء، هم يرتكبون بذلك إثماً عظيماً، وبهتاناً كبيراً، وهذا نوع من الإيذاء الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "من آذى المسلمين في طرقهم[2] وجبت عليه لعنتهم". رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن. أي إنهم يستحقون اللعنة؛ لأنهم يسيئون للمسلمين، ويؤذونهم دون أن يفعلوا شيئاً في حقهم حتى ينالوا مننهم هذا الأذى.

النوع الآخر من أنواع الإيذاء أن بعض الناس يتساهلون في رمي المخلفات في الأماكن العامة؛ في الطرقات، أو في ظل الأشجار، أو في موارد المياه العذبة، أو في الحدائق العامة، وبعض الناس يرمون مخلفات بواقي الطعام، والأكياس الورقية والبلاستيكية، والأسوأ من ذلك أن بعض النساء ترمي حفائظ الأطفال في الحدائق، أو المتنَزهات، أو في الأنهار الجارية، لكنّ المسلم الذي يحرص أن يبدو دائماً بصورة القدوة، ملتزماً بشريعة الله سبحانه وتعالى، وسنن وآداب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا المسلم حريّ به أن يظهر بصورة الإنسان الواعي، الذي يحرص على المرافق العامة، فيصونها من الأذى، ويحرص على المتنزهات، فلا يؤذي مشاعر من يجلس بجواره، بل يغض بصره، ويحفظ سمعه، ولا يؤذي من حوله، ولا يترك هذه المخلفات في مكان مجلسه؛ حتى لا يسيء بذلك إلى البيئة النظيفة، وإلى الخضرة وجمال الطبيعة، وإلى المياه العذبة، والأنهار التي تجري بأمر من الله سبحانه وتعالى، فلْـيُراعِ الناس هذه الأمور المتكاملة التي يحفظ لنا طبيعتنا الخضراء الجميلة بعيدة عن التلوث، وعن الإساءة بكل أنواعها.

هـ- المحافظة على الصلاة في النزهة:

ثمة أمور مهمة يمكن أن يقع بها بعض الناس وهم لا يظنون أنها خطيرة، ومن أخطر هذه الأشياء أنهم يضيّعون الصلاة، فعندما يذهب الإنسان إلى النزهة، فلا يعني ذلك أن يترك الصلاة، والحمد لله أن بلادنا ممتلئة بالمساجد، فما بين المسجد والمسجد مسجد، وهذا ما نعرفه قديماً في دمشق وما حولها، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى. وأماكن السيران فيها مصليات، وفيها مُوَضّآت، فلماذا يقصر الناس في هذه الفرائض التي افترضها الله سبحانه وتعالى؟ بل إننا عندما نخرج في سيران أو نزهة، فإن أَولى الأولويات، وأوجب الواجبات أن نحرص على الصلاة في وقتها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سُئل عن أفضل الأعمال قال: "الصلاة على وقتها". متفق عليه. فإذا حرَص المتنزه على إقامة الصلاة في وقتها فهو في طاعة الله سبحانه وتعالى، وخاصة إذا كان هناك مصلى، وأدى صلاته بجماعة مع جماعة الناس المتنزهين فإنه بذلك يحرِص على نيل الأجر والثواب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته وحده خمساً وعشرين درجة، فإذا صلاها بأرض فلاةٍ، فأتم وضوءها، وركوعها، وسجودها بلغت صلاته خمسين درجة". رواه أبو داوود وابن حبان وهو حديث حسن. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يحثّ على صلاة الجماعة في المتنزهات، والأماكن العامة، والسفر؛ حتى ينال المسلم بذلك الأجر العظيم، بل الأفضل من ذلك أن يحرص على الأذان في الفلاة، أو في أماكن النزهة، فإذا حان وقت الأذان فلْيقمْ، وليؤذنْ، وليسمع الناس صوته، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ّ، ولا إنسٌ، ولا شيءٌ إلا شهد له يوم القيامة، وهذا حديث جاء في صحيح البخاري، عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "فإذا كنت في غنمك، أو باديتك، فأذنت للصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع المؤذنَ جن، ولا إنس، ولا شيء إلا شهد له يومَ القيامة". صحيح البخاري. فليحرص كل متنزه أن يؤذن في الفلاة، أو في المزرعة التي ذهب إليها، أو في المكان الذي يجلس فيه، فإن له بذلك الأجر العظيم، ويدرّب أولاده، وأهله على إقامة الصلاة في وقتها، وعلى الحرص على طاعة الله سبحانه وتعالى.

و- إقامة مجالس الأدب:

الشيء اللطيف في النزهات أن يحرص المتنزه على إقامة مجالس الأدب التي تُلقى فيها القصائد، والأشعار التي تشتمل على الحِكَم، والنصائح، وتُروى فيها القَصص، وتذكر فيها الأنساب، وأيام العرب التي تُحيي في النفوس أخلاق العرب، وشمائلهم، وهمتهم، وبطولاتهم، وهذا ما ينبغي أن يتدرب عليه الصغار في مجالس الكبار، فينبغي على الشباب الصغار عندما يجالسون في هذه النزهات آباءهم، أو أعمامهم، أو أصدقاء أبائهم، أو أجدادهم أن يحرصوا على السماع إلى حديث الشيوخ الكبار في السن الذين يتمتعون بالحكمة، وأن ينهلوا من حكمتهم، ويأخذوا من خبرتهم في الحياة، ومن تجاربهم، ومعرفتهم للأمور والتاريخ، ولكن للأسف أننا نجد بعض الكبار اليوم الذين يتنزهون يدفعون أولادهم الصغار إلى الألعاب الإلكترونية، ويقومون هم بلعب الورق والطاولة، أو تناول المفتّرات؛ كالتدخين، والأرغيلة، وغير ذلك؛ ليبعدوا أنفسهم عن هموم الأطفال، وأسئلتهم، وكل ما يتعلق بالحوار معهم، وهذه عادة سلبية، وهي من أشد الأمور سلبية في أماكن النزهات العامة التي يذهب إليها الناس.

ز- صحبة الصالحين:

لا بد من الحرص في هذه النزهات على رفقة أهل التقوى والصلاح، الذين يحرصون على إقامة حدود الله تعالى، ويعظّمون حرماته، فقد جاء في الحديث عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصاحبْ إلا مؤمناً، ولا يأكلْ طعامك إلا تقي". رواه الترمذي. فالمؤمن الذي تصحبه يقوّي همتك، ويزيدك قرباً إلى الله سبحانه وتعالى، ويهذب من سلوكك وأخلاقك، بل إنه أبعد مكن ذلك ربما يحث على أذكار الصباح والمساء، فتسمعه وهو يردد ذكر الله تعالى، وتسبيحه، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. الرجل الصالح إذا نزل المطر تسمعه يتجه إلى الله بالدعاء، إذا نزل منزلاً يتجه إلى الله بالدعاء، إذا ركب السيارة يتجه إلى الله بالدعاء، إذا صعد الجبل، إذا نزل الوادي، إذا هبّت الريح... هكذا يكون الصالحون ورفقتهم، وقد ورد عن سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: "من نزل منزلاً فقال: ((أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)) لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك". صحيح مسلم. حتى المكان الذي ننزل فيه؛ كالمطعم، والمتنزه الذي ندخل إليه، إذا دعونا بهذا الدعاء فإننا في طاعة الله سبحانه، وإن الله - تعالى - يصرف عنا السوء وأهله، ويبعدنا عن الوقوع في المنكرات، أو المحرّمات التي تُغضب الله سبحانه وتعالى.

ح- المحافظة على الوضوء:

والمحافظة على الصلاة تستدعي الحفاظ على الطهارة، والاستعداد للصلاة، فقد ورد عن سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فضل الحفاظ على الوضوء قوله: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط[3]". صحيح مسلم. فلو كنت في يوم شديد البرودة فحاولْ أن تسبغ الوضوء، وأن تتمّم أركانه، وسننه، وكل ما يتعلق به. وأمر الصلاة والحفاظ عليها، وعلى الطهارة والوضوء أمر مهم جداً يتبعه الحفاظ على طهارة المكان، ونظافته، فإذا انتهى الإنسان من مجلسه، فجمع القمامة، ثم وضعها في أماكنها المخصصة، ولم يتركها تفسد الأرض و الطبيعة، فإنه بذلك يكون ملتزماً بالآداب والسنن. أما أولئك الذين يلقون فضلاتهم، والأسوأ من ذلك الذين يتبولون في الأماكن العامة، أو في طريق الناس، أو في أماكن النزهات فإن ذلك نوع من الإثم الخطير، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "اتقوا اللاعنَين[4]. قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى[5] في طريق الناس أو في ظلهم". صحيح مسلم. إذاً علينا أن نحرص على نظافة البيئة، والحفاظ عليها، وصيانتها؛ فلا نُتلف الأشجار، ولا نقطع العشب، ولا نفسد المرعى الذي يرعى فيه الناس شياهَهم، ولا نقلع الشجر من أصولها، ولا نكسر الأغصان، ولا نقطف الورود، والأزهار، والرياحين التي يتمتع بها الناس في أماكن جلوسهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ضرر ولا ضرار". رواه مالك في الموطأ. هذه مسائل مهمة لا بد التنبه إليها في نزهاتنا ورحلاتنا.

ط- المحافظة على الستر والحشمة وعدم الاختلاط:

أمرٌ مهمٌّ ربما تساهل فيه الناس في السيران، ألا وهو الحفاظ على الستر، والعفاف، والحشمة عند المرأة المسلمة، فينبغي على كل من يذهب في نزهة أن تلتزم نساؤه بالستر، والعفاف، والحجاب الشرعي، وأن يكون مكانهم منعزلاً عن الاختلاط بالرجال؛ حتى تأخذ المرأة حقها وحريتها، وأن يحفظ الرجل بصره، ويغضه إن بدت له عورة، أو نظر إلى مكان ما فرأى فيه نساء، فعليه أن يلتزم بغض البصر، وعدم إطلاق الهوى لنفسه في مثل هذه النزهات.

فكل من يذهب في نزهة إذا التزم بالأدب الشرعي، فتعامل بالأدب، والاحترام، والرحمة، والإحسان، والحفاظ على البيئة، وكان مزاحه مزاحاً لطيفاً، وخفيفا، وهيناً، وليس فيه أذى، وكان كلامه كلاماً طيباً، وكان حديثُه حديثَ خيرٍ، ونُصْحٍ، وإرشاد، وكان ملتزماً بما أمر اللهُ، وإذا حان وقت الصلاة قام إليها، وحفظ نساءه أن تبدو عوراتهن، فإنه يُثاب بهذا العمل، وله أجر كبير إن شاء الله تعالى، خاصة إذا اجتنب الوقوع في المعاصي والذنوب، ولم يستمع إلى المعازف والموسيقى، ولم يشرب الدخان، ولم يتعاطَ المخدرات، ولم يسهر بلا حاجة إلى الفجر حتى يضيع الصلاة.

أمور كثيرة لا بد مراعاتها في هذه النزهات التي جعلها لنا سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نوعاً من الفسحة؛ لكي تزداد همتنا، ولكي نقبل على طاعة الله سبحانه وتعالى.

^ صورة من صور تنزه رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((ورد في الحديث عن سيدنا أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج ذات يوم في ساعة لا يخرج فيها عادة، خرج من بيته إلى المسجد، فأتاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما جاء بك يا أبا بكر؟ قال: يا رسول الله! خرجت ألقاك، وأنظر في وجهك، وأسلم عليك. وهذا يدل على شدة محبة سيدنا أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلم يلبث أن جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما جاء بك يا عمر؟ قال: الجوع يا رسول الله. فقال له سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مواسياً: وأنا وجدت بعض ذلك. وهذا نوع من المواساة لسيدنا عمر رضي الله عنه، والمعروف أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يمكث ثلاثة أيام يواصل الصيام، ولم يكن يشتكي الجوع، إنما أراد بهذه الكلمة أن يواسي سيدنا عمر، وخاصة أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يقول: "لست كأحدكم، أبيت عند ربي يطعمني، ويسقيني".

بعد أن اجتمع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيدنا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، انطلقوا إلى منزل "أبي الهيثم بن التيهان" - وهو رجل دخل في الإسلام، وحالف الأنصار، وكان رجلاً قد ترهّب في الجاهلية، وحرّم على نفسه الخمر، وكان ذا نخل، وشياه، وكانت له بساتين واسعة، وحدائق ونعم كثيرة، وكان يذهب كل يوم ليأتي بالماء العذب - فجاء النبي - عليه الصلاة والسلام - إلى منزله، فقالوا لامرأته: أين زوجك؟ قالت: انطلق يستعذب لنا الماء - وكان حول المدينة المنورة عيون من المياه تجري وتطيب، تبعد عن المدينة مسيرة ثلاثة أميال، والمعروف أن الميل يقدّر بحوالي (1.5) كيلو متراً تقريباً - وبينما هم في هذا الحوار إذ جاء ذلك الرجل - أبو الهيثم - يحمل معه قربة من الماء يَزعَبُها[6]، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضعها، ثم التزم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وعانقه، وقبّله، وجعل يقول له: رسول الله في بيتي؟! بأبي أنت وأمي يا رسول الله! من أكرم ضيافة من أبي الهيثم عندما قصده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته؟ ثم أخذ أبو الهيثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه إلى إحدى الحدائق التي يملكها، فبسط لهم بساطاً للجلوس على الأرض، ثم انطلق إلى نخلة، فجاء بقِنوٍ[7]، فوضعه أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: هلا تخيّرت لنا من رُطَبِه؟ - النخل فيه البُسْر: وهو الجافّ منه، وفيه الرُّطَب: وهو الطريّ منه، وفيه التمر، وغير ذلك... - فأراد النبي - عليه الصلاة والسلام - من أبي الهيثم أن يتخير له. فقال أبو الهيثم: إني أردت أن تتخيروا من رطبه، وبسره، وتمره. فأكل النبي صلى الله عليه وسلم، وأكل صاحباه معه، ثم شربوا من ذلك الماء العذب. وبعد الانتهاء من الطعام والشراب قال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده هذا من النعيم الذي تُسألون عنه يوم القيامة.))[8]

إذاً.. النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج في هذه النزهة اليسيرة، ثم ذكر الله تعالى، وذكّر من حوله بأن هذا النعيم سنُسأل عنه يوم القيامة. أي نعيم سيسألنا عنه الله سبحانه وتعالى يوم القيامة؟ نعيم المساكن؟ أم نعيم الحدائق؟ أم نعيم الأشجار؟ أم نعيم المزارع والبساتين وارفة الظلال؟ أم نعيم الماء البارد؟ أم نعيم الهواء العليل المبرّد في بيوتنا، أو في مساجدنا، أو في أسواقنا، أو في كل مكان... إذا نحن في نعم عظيمة أنعم الله - تعالى - بها علينا، فلْنحافظ على هذه النعم بشكرها، ولْنسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يلهمنا شكر نعمائه، وأن يُديم علينا نعمه ظاهرة وباطنة، فقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: "من أصبح آمناً في سِرْبه، مُعافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا". رواه الترمذي.

^ دعاء:

اللهم إنا نسألك الشكر على نعمائك، ونسألك اللهم أن تديم علينا هذه النعم، وأن تلهمنا شكرها، وأن تجعلها دائمة غير منقطعة. إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

 



[1] يبدو إلى التلاع: أي يخرج إلى البادية.

[2] في طرقهم: أي في أماكن سيرهم، أو جلوسهم، أو نزهاتهم.

[3] فذلكم الرباط: كررها أكثر من مرة في روايات أخرى.

[4] اللاعنين: المقصود باللاعنين: الأمران الجالبان للعن، وذلك أن من فعلهما شُتم ولعن.

[5] يتخلى: يتبوّل ويقضي حاجته.

[6] يَزعَبُها: أي يدفعها أمامه؛ لأنه ملأها ماءً عذباً.

[7] قِنو: القِنْوُ غصنٌ من غصون النخلة.

[8] هذا الحديث مأخوذ بتصرف من سنن الترمذي.

 التعليقات: 2

 مرات القراءة: 4271

 تاريخ النشر: 09/07/2009

2009-07-14

عبد الرحمن

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته جزاكم الله خيرا على اختيار هذا الموضوع في هذا الوقت المناسب

 
2009-07-13

روعة

جزاك الله كل خير فضيلة الشيخ عن هذا موضوع القيم والجديد ونفعنا الله من علمك

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 885

: - عدد زوار اليوم

7396275

: - عدد الزوار الكلي
[ 40 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan