::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مقالات متنوعة

 

 

الفراغ الروحي(5): من مظاهره أيضاً..

بقلم : الأستاذ عبد الله عبد المؤمن  

 

لا بأس بالعلل بعد النهل أو الاستراحة بعد الملل خصوصاً وأننا قد أخذنا من موضوع الفراغ الروحي بحظ وافر أتت حلقاته تباعاً وأبانت عن علل ومظاهر نحسبها شتى ومرجعها واحد، لنستأنف في جزئنا الخامس هذا الحديث عن مظاهر أخرى للفراغ الروحي ولنتوقف عند المظهر الثاني والثالث بعد حديثنا عن العنف في الحلقة الرابعة، وليعلم أهل الإيمان أن الله عز وجل قد شرفهم بما فيه خلاصهم ومعدن سعادتهم في الدارين فلا عليهم أن يدروا أن فراغ أرواحهم مصدر كل بليّة ورزيّة، ونقف عند مظهرين واقعيين:

 

 أولاً: تأزم الأخلاق:

ولا أظن أنني في واد والواقع في واد آخر، بل كل المظاهر المتناولة حاولت انتشالها من واقعنا المعيش بعد غياب التشخيص السليم لهذه الأدواء واضطراب الأفهام لنستيقن أن جوهر الحياة الآمنة هو الإيمان، فإذا استوى على سوقه واكتمل نضجه وزان بنيانه أنتج مفهوما قيمياً: ذاك عين التكريم الذي تفضل الله به على بني آدم فشّرف به المؤمن وكساه حلة قدسية، حُرمته عند الله أعظم من حرمة الكعبة ومن كل شيء سواها، فراسته لا تخطئ ونوره لا ينطفئ، ومواقفه لا تجتزئ، وهكذا أراده الله عز وجل كريماً معافى ذا عزة وأنفة، عزة بالله والإيمان به دونها الكبرياء والاستكبار والجحود والاجترار، يحسب إن أصبح معافى البدن آمن الروح كأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ((ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين))

  تجتمع هذه السمات فتُكون ما ينعت بالقيم بعد ريها وسقيها من مشارب السلوك والأخلاق، ومصطلح القيم إن كان حديثا في شكله فليس بجديد المحتوى بل هو الوصف الإيماني الملازم لأهله النابع من مصادر التشريع قولاً وعملاً وصفةً وسلوكاً... وهو حقاً تشريف النفس الإنسانية والتنزّه بها عن التمسح بالأذيال المتعجرفة والتذلل لذوي القيم المزيفة لارتوائها من معين الإيمان واليقين الخالص الذي لا تشوبه شائبة ولا كدر.

 هذي القيم الجمالية في تكوين الإنسان والتي قد يطرأ عليها تحول في بعض الأحيان فتفقد عنصر الجمال وتصير أقرب إلى التيه والضلال وهو الموسوم عندنا بالتأزم الأخلاقي، فروح المؤمن لا تتجمل ولا تتطيب إلا إذا كان مستوي الخلق حسَـنَه، هذا هو الميزان والمقياس في كمال الإيمان وعمارة الأرواح كما جاء في الحديث النبوي: "ما من شيء أثقل على الظهر بعد تقوى الله من حسن الخلق".

    وهذا التأزم الأخلاقي يعد مظهراً من مظاهر الخواء الروحي ينتج وجوده عن مصادر منها: 

تغييب المصدرية والمرجعية بالدرجة الأولى: حيث أن سلوك الناس في الواقع لا يُحتكم فيه إلى مصادر القيم ومظان التشريع وإنما يحتكم فيه إلى ما تمليه وسائل الحضارة الزائفة و(موضة) السلوك فما عُدّ في قاموسها حسناً فهو حسن وما عُدّ قبيحاً فهو قبيح.

  والدليل على ذلك من الواقع هو انتهاك المعاني القيمية وإقصاؤها حيث أصبح الرجل الشريف ـ المتصف بالصدق والأمانة والوفاء بالعهد والتورع من الحرام والخبيث والرشوة والتعامل بالربا ـ غريباً في أطواره شاذاً في تصرفاته، لأن المصادر التي يحتكم إليها في توجيه السلوك والرقابة عليه قد تُركت ظهرياً وأصبح الواقع خصماً وحكماً فهو الموجه الوحيد للسلوك فمادام الصدق لا ينفع والأمانة لا تفيد فلا بأس بالتنازل عنهما.

  وحتى لو خرجنا إلى الشارع لوجدنا أن العرف المتداول في مدح الناس والثناء عليهم يختلف اختلافاً كبيراً عما أملته مصادر القيم، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أوصانا بقوله الشريف: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا زال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً.. الحديث" فإنا نلحظ أن الوصف المتداول في مدح الأشخاص الآن "الذكي" و "الواقعي" و"الشجاع" و"الشاطر" ولو كان الشخص كذاباً أو خائناً أو مقامراً، المهم أن له مهارات يعرف كيف يجمع الثروات ويجني الهبات، له مكانة اجتماعية وحضور قوي، وقد صدق النبي عليه الصلاة والسلام: "يأتي على الناس زمان يصدق الكاذب ويكذب الصادق ويخون الأمين ويؤتمن الخائن وتنطق فيه الرويبضة. قيل: ما الرويبضة يا رسول الله، قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة". وهكذا أصبحت المعاني معكوسة والقيم منكوسة. وقد جاء في الحديث: "يأتي على الناس زمان يخير فيه الرجل بين العجز والفجور فمن أدركه فليختر العجز على الفجور" أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

   ومعنى ذلك: أن لأهل القيم المزيفة إذا فسد الزمان بالتغير أو التطور مكانة مرموقة تكتسب إما بسيولتهم المادية أو مكانتهم السياسية أو بنيتهم القوية أو علاقتهم النسبية أو السببية فيملكون زمام الأمور ويوجهون المجتمع على شاكلتهم ومرادهم وتبقى مصادر القيم مُغيّبة لا يوليها الواحد منا اهتماماً لأن المقياس قد صار هو المادة والعلاقات القائمة على توازن المصالح وتبادل المنافع، فإذا خير بين أن يكون مع هؤلاء يأكل من فتاتهم وينام على أسرّتهم ويعيش من هباتهم فكأنما خيّر بين العجز والفجور، وبين الغربة والشهرة، وكذلك لو دعي إلى أماكن الشبهات ومجالسة المومسات وشرب المسكرات لوضع بين مطراق التقدمية وسندان الرجعية، وهكذا وهكذا... ولكن لو رجع القهقرى وائتم بما يمليه عليه مصدر الهدى وما سنه خير الورى لأيقن أن الورع أفضل وأنْ طوبى للغرباء.

    وقد أسهم كذلك في التأزم الأخلاقي بعض إخواننا ممن اقتاتوا من فكر الغرب وتغيرت عليهم المعالم والأحوال بعد رجوعهم إلى مواطنهم وأعرافهم وأصالتهم فصارت حياتهم مشطرة بين نمط أصيل لا يعرف إلا في المناسبات والأعياد وبين سلوك معاصر طغى على طبيعة كلامهم وأعراف أفراحهم وتجمعاتهم فأضحوا في نسق مخضرم لا يستطيعون الثبات على وضع معين ولا على منهج الآباء والأجداد، مما جعل معايير القيم عندهم مختلة فقد يظن أن الدخول على الأهل بدون تسليم أمر عادي وأن الأكل بالشمال هو الفطرة وأن تقبيل نساء الأسرة من المحارم وغيرهم هو عين الصواب وأن الاختلاط فيما بينهم هو الفعل المستطاب، فوقع انشقاق هدد نواة المجتمع بالانفصام القيمي ـ إن صح التعبير ـ، حين أتوا بكيفيات مستحدثة وأنزلوها على واقع مصادره تأبى ذلكم السلوك، ومع ذلك وقع انسجام في المجتمع لما كثر العدد وصار لأهله المَدَد، ولكنه بعد البحث والتنقيب أيقنّا أنه صار لهم يد في تأزّم الأخلاق في المجتمع خصوصاً عند من يعتبرهم الأسوة الحسنة والقدوة العليا مع انتشار الأمية الدينية وتغييب النظر في المصادر القدسية..

   فحين نقول بربط هذا المظهر بالفراغ الروحي فذاك عين اليقين لأنه ما آل الحال إليه يكشف أن هنالك فراغاً حقيقياً أسس بنيانه على إقصاء الأخلاق والسلوك والعلاقات العامة عن فلك الدين واستبدالها بمواثيق الحريات الفردية والنداءات المصلحية والصراع حاصل والعاقبة للتقوى.

 

ثانيا: انتشار الجرائم:

   وذا الأمر من ذاك فيما أظن، فما دام الفراغ الروحي قد أنتج مظهرية تأزم القيم والأخلاق فإن السلوك الناتج حينذاك عنه وعن اعوجاج الفطرة سيكون سلوكاً شاذاً لا قيمة له في المجتمع وسيعكس الصورة السلبية لسلوك المؤمن الحق المكتمل الإيمان والمرفق بالإحسان.

  فيطفو انتشار الجرائم على السطح والغريب أن هنالك ما يسمى بالمبالغة في الجريمة على قدر فراغ الأرواح وغياب الوازع لأنه إذا كنا نعرف فيما سبق أنه من الجرائم المعروفة القتل مثلا أو السرقة أو النصب،  فإنه قد تجتمع هذه الجرائم في صورة واحدة وقد لا تفرق بين القاصر وغيره وبين الكامل البنية وصاحب العاهة وقد تكون بكيفية ووسائل لا تخطر على البال شراسة ووقاحة، بل قد يصحب القتل الاغتصاب ويصحب السرقة القتل وقد تجتمع الصفات كلها في الجاني الواحد حين يغيب الخوف من الله تعالى ويضعف الوازع الديني.

  وخير برهان على أن انتشار الجريمة مظهرية واقعية للفراغ الروحي هو اشتراك جملة من الناس في تداولها دونهم الموصوفون في فقه القانون بالمجرمين، بل حتى الأستاذ المربي في بعض الأحيان قد يحمله ضعف الوازع على انتهاك الحرمات وهذا ما تتداوله الصحف يومياً من اغتصاب أستاذ لقاصرات أو تحرشه بهن...وحتى رجل القانون نفسه..  وحتى أهل الفكر والثقافة وجميع طبقات المجتمع مما يجعل السبب جوهرياً وهو ما ذكرت ليس إلا، مع التفاوت بطبيعة الحال بين جريمة وجريمة وهي في حد ذاتها عموماً مخالفة للفطرة و شذوذ عن الطبيعة والشرع وقوانين الحياة.

   فهذه بعض مظاهر الفراغ الروحي يتصل فيها انتشار الجريمة بتأزم الأخلاق ويشخص فيها الداء بغياب الوازع وفراغ الأرواح، وسنعرض إن شاء الله تعالى في الحلقة الموالية لمظاهر أخرى فترقبوها بحول الله:

    ــ اليأس من صلاح الأحوال.

    ــ الأوهام

    ــ التوتر

    ــ القلق والاكتئاب.

والله الموفق.

 

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 4018

 تاريخ النشر: 16/07/2009

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1146

: - عدد زوار اليوم

7451697

: - عدد الزوار الكلي
[ 63 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan