::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مقالات متنوعة

 

 

الفراغ الروحي(6): اليأس من صلاح الأحوال..

بقلم : أ. عبد الله عبد المؤمن  

 

لا زلنا نحوم حول المظاهر الواقعية للفراغ الروحي بعد حصول السلب الباطني لإنسان العصر الذي اكتسحته المادية والنزعات المصلحية إبان تغييبه للمرجعية القيمية مما أفضى إلى أزمة أخلاقية فُقد معها الجمال والأمان ومقاصد الإيمان. ونقف اليوم عند مظهر آخر من مظاهر الفراغ الروحي بعد أن استقرينا وجوده وانتشاره بكثافة على مستويات عدة وعند شرائح مختلفة لم يسلم منها العالم ولا الأمي ولا المبتدئ بله المنتهي وكان أن نجم عن قلة اليقين وضعف الوازع وهوان التوكل:

اليأس من صلاح الأحوال

وقد يبدو للبعض أنه داء عابر وبلاء غابر لكنه مما ترسخ لدى الكثير من الناس وصار علماً ودليلاً على فراغ أرواح هؤلاء إذ كلما ألمت بهم الملمات أو البلايا إلا واستسلموا وتشبتوا بخيار اليأس والسأم من صلاح الأحوال، وهذا ما زاد استفحالاً في وقتنا المعاصر حين بلغت المدنيّة أوجها وسارت التكنولوجيا أشواطاً وشرُفت الآلة وهيأت سرعة وكثافة الإنتاج فتقاصرت الهمم وضعُف اليقين وأخلد الإنسان إلى إنكار الصلاح وهجران الأمل.

ولما ارتبط مقصد الوجود عند الإنسان بأولوية المادة وطغيانها على أطوار عمره المحدود، وضمان المستقبل الآمن والعيشة الهنية والزحف وراء تلقين الأبناء ما ينفعهم في مواجهة عوادي الزمن دون الاهتمام بالتربية والتسليك الإيماني القويم، والاستماتة في جمع أكبر قدر ممكن من الثروات والممتلكات، وأيقن هذا وذاك أن لا عيش إلا عيش الدنيا وأنها المرتع الخصب والحيوان لو كانوا يعلمون، فوقع استبدال المقصد الأسمى الذي خلق الإنسان من أجله بمقصد تافه وهدف تائه وغلب حب الدنيا وكراهية الموت وتربّع الخذلان والهوان على النفوس فكان كلما عرض للمرء بلاء أو داء أو حاجة أو مخمصة إلا وأحس باليأس ينخر كيانه لأنه أسلم القياد للوسائل كالمال والجاه والترف والبذخ وحب الشهرة وترك المقاصد كالتوكل على الله عز وجل والذكر والدعاء والعمل والإخلاص والعبادة ككل.

وهذا ما نلمسه في يأس ثلة من الناس ومن جملتهم أهل العلم الذين كافحوا واجتهدوا وضحوا بالنفيس والغالي قصد بناء فكرهم ودفع أذى وعار الجهل عنهم لكنهم لما اصطدموا بواقع البطالة والعطالة توقفوا عن العطاء وانتكست أعلام فكرهم ويئسوا من صلاح الأحوال وارتبط عندهم طلب العلم بالمادة والمستقبل والعمل فغاب عنهم ضعف اليقين في الله تعالى وأصبح شغلهم الشاغل التسكع والبكاء على الأطلال وذم الساعة التي تعلموا فيها وأخضعوا أنفسهم لأزكى المهمات، وهذا لا أعتبره ذماً ولا قدحاً في حقهم ولكنا أردنا هذه الفئة بالذات قوية بعلمها ثابتة على معارفها خصوصاً إن أيقنت أن طلب العلم مقرون بالإخلاص ومحفوف بالتوفيق مصداقاً لقوله تعالى: ((اقرأ باسم ربك))، فلم تك أبداً المعرفة مرتبطة باسم سوق الشغل والمتاجرة والمرابحة بقدر ما ارتبطت بصلاح العاجل والآجل، وهو أي طلب العلم يسهل الله عز وجل به طريقا إلى الجنة كما جاء في الحديث : "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله به طريقاً إلى الجنة" فإذا كان ذلك ممراً إلى الفوز والفلاح في الآخرة فما بالك بما سيفتح به الله عليك في الدنيا من فيض الرزق وتشريف الخلق وصلاح الحال والمآل.

إذن فراغ الروح هنا ليس إلا من صدق التوكل على الله تعالى والذي بغيابه تصير الحياة ظلمة وسواداً ويكفهر الأمل في وجه صاحبه حتى يصير كلما رأى شيئاً إلا وحكم عليه بالهلاك والدمار لسأم حاله وقد جاء في الحديث ما معناه أنه "من قال هلك الناس أهلكه الله وأخزاه" أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

فالإيمان بالله يبعث الأمل وينزه الإنسان عن التعلق بالأوهام والسأم من نفسه وأهله ومجتمعه. وهذه لعمري أسباب وجيهة في تعاطي الإنسان للمسكرات والمخدرات والآفات التي لا تعد ولا تحصى، حتى ذلك السم الأبيض القاتل الذي اكتسح ديارنا وبدأ ينخر في جسم أبنائنا فتجد الفتى في عمر الزهور بجمال كالقمر ليلة البدر ومع ذلك أقدم على تشويه صورته وتقبيح جماله حتى يصير بعدم النوم والراحة والانشغال بالإدمان أشبه ما يكون بشبح تخشاه قبل الوصول إليه، وهذا كثير في شبابنا دون أن ننكره وحتى في شاباتنا وهو معارض ومخالف لما اقتضته الشريعة من صون الفطرة السليمة وجمال الذات والصفات والظاهر والباطن، أين ذلك من قول الله عز وجل: ((لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)) وقول الحبيب عليه الصلاة والسلام: " إن الله جميل يحب الجمال".

فلن يخلو واقع المؤمن أبداً من أمل تنكسر عنده الحواجز الصماء مصحوب بهمة عالية ويقين تام دونه اليأس والسأم والقنوط، ولعلك تدري أن أرجى آية في كتاب الله تعالى: ((قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله)) وهذا في حق المذنب العاصي الذي خالف أمر الله وتعدَّى حدوده فكيف بمن استمسك بالعروة الوثقى وتمسَّك بالطاعة والموافقة، فلن يصيبه إلا ما كتب الله له في حياة ملؤها التوفيق والنجاح والسؤدد والفلاح لا في العمل ولا الزواج ولا القراءة ولا الإنتاج ليتبين أن ما دون ذلك من يأس وضجر وقنوط مردّه إلى فراغ الأرواح من عمارتها وجمالها، وأختم بمثال حي من واقع السلف الصالح رضي الله عنهم والذين آثروا عمارة الباطن على التعلق بالحياة والشهوات فضمن الله عز وجل لهم نعمة الحياة الهنية في الدنيا والآخرة، قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ((تاقت نفسي إلى الزواج من فاطمة بنت عبد الملك خليفة المسلمين فتزوجتها، وتاقت نفسي إلى إمارة المدينة فنلتها، وتاقت نفسي إلى الخلافة فبلغتها، وتاقت نفسي إلى الجنة فأرجو الله أن يُدخلنيها)) هذا نموذج صادق لعلو الهمة والأمل في الله تعالى وما دونه فليس من خلق أهل الإيمان.

 

                                  

 

 

 التعليقات: 1

 مرات القراءة: 4702

 تاريخ النشر: 30/07/2009

2010-01-05

اسماء

اريد معرفة العلاقة بين القلق و الفراغ الروحي

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 91

: - عدد زوار اليوم

7449571

: - عدد الزوار الكلي
[ 38 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan