::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> محاضرات وندوات

 

 

قيمة الوقت وأهميته عند السلف الصالح

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان (المشرف العام)  

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللّهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

^ ضرورة اغتنام الوقت:

 حديثنا عن قيمة الوقت في حياة المسلم، و أهمية وضرورة اغتنام الأوقات فيما ينفع من الدين والدنيا.

أ- القسم بالعصر وأهمية الزمن:

نقف قليلاً عند قول الله سبحانه وتعالى:[]وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)[] سورة العصر. هذه السورة من السور القصار، لكنها من حيث المعاني والفوائد فإنها حوت الفوائد الكثيرة والمعاني العظيمة، يكفي هذه السورة شرفاً أن الله - تعالى - أقسم فيها بالعصر، والعصر كلمة لها أكثر من معنى: هناك من المفسرين من قال: "إن كلمة العصر تعني الدهر". ومن المفسرين من قال: "إنها تعني صلاة العصر". وأياً كان المعنى الأول أو المعنى الثاني فإنها ذات قيمة عظيمة، فأما صلاة العصر فالله - تعالى - حضّ على المحافظة عليها فقال:[]حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ[] سورة البقرة (238). هناك تركيز على صلاة العصر، وأن لها الفضيلة والتميز بين الصلوات، والسبب أن بعض الناس كانوا يهملون أداءها في هذا الوقت؛ إما مشغولون بالتجارة، أو بالعمل، أو بالنوم، أو بشيء آخر، فلذلك جاء الحضّ على أدائها في وقتها، وعدم تضييعها. وأما المعنى الثاني (قسم الله - سبحانه وتعالى - بالعصر)، فهذا قسم عظيم يلفت الله - تعالى - أنظارنا فيه إلى أهمية الزمن في حياة الإنسان بشكل عام، وقد تكرر قسم الله - سبحانه وتعالى - بالأزمنة في القرآن الكريم، فنجد أنه أقسم بالليل، والنهار، والفجر، والصبح، والضحى، وكلها أوقفات نفيسة وعظيمة، ومباركة، وعلى المسلم أن يغتنمها ويستفيد منها فيما يقرب إلى الله سبحانه وتعالى.

ب- النهي عن سب الدهر دليل أهمية الوقت:

هنا نبين مسألة مهمة تتعلق بمفهوم الدهر: كثير من الناس يقعون في أزمة، أو ضيق، أو شدة، فإذا بهم يلعنون هذا الزمان، أو يشتمون الدهر، يسبّون هذه الأيام التي يعيشون فيها، أو ربما يجتمع إنسان مع آخر،  فيسيء إليه، ويزعجه، فيلعن الزمان والأيام التي جمعته به. هذا اللعن لا يجوز، وهذه الشتيمة والسُّبّة يُحاسَب عليها الإنسان، فقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن سيدنا أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبّوا الدهر، فإن الله هو الدهر". صحيح مسلم. أي إن الله - تعالى - هو الذي خلق الأيام، الدهر صنعة الله، الأيام صنعة الله، الليل، النهار، الأزمنة التي يأتي بعضها خلف بعض كلها صنعة الله تعالى.

جـ- الغفلة عن النعم من تضييع الأوقات:

هي نِعم، والله - تعالى - يمتنّ علينا بأن خلق لنا الليل والنهار، وسخرهما لنا كما قال:[]وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[] سورة النحل (12). الليل آية، النهار آية، كيف ينبلج الصبح من الليل؟ وكيف يأتي الليل بعد النهار؟ كيف تشرق الشمس من موضعها، فلا يختلّ نظامها، ولا ثانية واحدة؟ وكيف تغرب في وقتها المحدد؟ كيف يبزغ القمر ويضيء في الليل؟ كيف تسير الكواكب، والنجوم، والأفلاك؟ كل ما هو في السماء من صنع الله سبحانه وتعالى، سخره الله للإنسان، فهل يعقل الإنسان قيمة هذه النعمة؟ هل يقدّر الإنسان قيمة هذه المخلوقات العجيبة التي جعلها الله - سبحانه وتعالى - مسخّرة لأجله؟ فالعقلاء هم الذين يدركون قيمة هذه النعم، ويسعون لشكر المنعم سبحانه وتعالى. وقد تكرّم الله - تعالى - علينا، فمنَحَنا الصحة، وأعطانا العافية، ومنحنا القدرة على التصرف في أوقاتنا كلها، وجعل لنا الليل والنهار عبرة لمن أراد أن يتّعظ ويعتبر. قال الله تعالى:[]يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ[] سورة النور (44). أي يأتي الليل عقب النهار، ويأتي النهار عقب الليل بشكل متقلب، ودائر، ولا يتخلف أبداً. هل سمعتم أن يوماً من الأيام جاء فيه الليل سرمداً؟ أو أن النهار كان دائماً؟ أبداً. الليل له أوقات، والنهار له أوقات، الشمس لها موعد للإشراق، ولها موعد للغروب لا يختل هذا النظام أبداً في هذه المجموعة التي خلقها الله سبحانه وتعالى، وسخرها لخدمة الإنسان. إذاً.. نعمٌ إلهية جليلة، وهبَنا الله - تعالى - إياها، لكنّ كثيراً من الناس غفلوا عنها، وتاهوا فيها، ومن هنا نقرأ قراءة صحيحة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس؛ الصحة والفراغ". صحيح البخاري. أي إن كثيراً من الناس قد تاهوا عن هذه النعمة العظيمة التي تتعلق بنعمة العافية، والصحة، والقوة في البدن، ونعمة الفراغ، فضيعوا فراغهم فيما لا ينفع لا من دين ولا من دنيا، ولم يستثمروا أيامهم، وأوقاتهم في العمل الصالح. فالمؤمن العاقل هو الذي يشكر الله - تعالى - على نعمة الوقت، وكمال أسلفنا الوقت حياة كما أن الماء هو الحياة، وهو أثمن من الذهب، والفضة، والألماس، والجواهر الكريمة؛ لأن هذه الجواهر والمعادن كلها أشياء حسية ومادية، لكن الوقت أمر معنوي عظيم، من فرّط به وضيعه فقد ضيع جزءاً كبيراً من حياته كما قال الأمام الحسن البصري رحمه الله تعالى: "يا ابن آدم! إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب بعضك أنم يذهب كلك". شبّه الإنسان بأنه مجموعة من الأيام، فكلما ذهب يوم من هذه الأيام اقترب الإنسان خطوة إلى القبر، كما قال الشاعر:

إنّـا لَنـفرحُ بالأيـامِ نَقطعُـها        وكلُّ يومٍ مضى نقصٌ  من الأجلِ

بعض الناس يُسرّون أنه بعد عشرة أيام سيكون عندهم مفاجأة مثلاً، أو سيكونون على موعد مع مسألة ذات شأن، فربما يقضون هذه الأيام العشرة في النوم، أو بضياع الوقت واستهلاكه بغير فائدة، حتى يصلوا إلى الموعد الذي حُدِّد لهم بعد عشرة أيام، ينسون أن هذه الأيام العشرة التي انقضت من حياتهم إنما قادتهم وقربتهم إلى القبر خطوات، وينسون أنها أيام مهمة من أعمارهم، عليهم ألا يضيعوها، وألا يفرّطوا بها.

ء- بيان قيمة الوقت من خلال حديث للنبي صلى الله عليه وسلم:

النبي - صلى الله عليه وسلم - حثّنا على استثمار الوقت، وبين لنا قيمة الوقت في حديث صحيح لو أننا وقفنا عنده وقفة تأمل، وتدبر، وتفكر لخرجنا من ذلك بنتيجة عظيمة. فعن سيدنا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع؛ عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به". سنن الترمذي. هذه أشياء أربعة تحمّل الإنسان مسؤولية عظيمة، تذكّره بقيمة الوقت والزمن. وهناك صفة مقابل الزوال هي الرسوخ والثبات، سيثبت الإنسان في الموقف أمام الله - تعالى - ليُسأل عن هذه الأشياء كلها التي فرّط فيها في عمره، وماله، ووقته، وصحته، وشبابه... لماذا فرّطتَ في هذه النعم التي أنعم الله بلها عليك، ولم تؤدِّ شكرها لله سبحانه وتعالى؟ فالإنسان سُيسأل عن هذا الوقت الذي يقتله، ويضيّعه فيما لا ينفع، لا في شؤون الدين، ولا في شؤون الدنيا، ولو عدنا إلى سنن الترمذي - رحمه الله تعالى - سنجد أن هذا الحديث جاء ضمن كتاب اسمه (صفة القيامة) باب (في القيامة، في شأن الحساب والقصاص). أي إن الله - تعالى - سيوقفنا؛ ليقتص منا، ويحاسبنا، ويعاتبنا على كل صغيرة وكبيرة فعلناها في حياتنا، وقدمناها لآخرتنا، فإن كان عملنا صالحاً فلا شك أنه سيثيبنا، وإن كان عملنا سيئاً - لا قدّر الله - فإنه سيحاسبنا، وسيقتص منا على ما فرّطنا في جنب الله تبارك وتعالى.

والشاعر حينما قال:

دقّـاتُ قلبِ  المـرءِ قائـلةٌ لهُ       إنَّ الحيـاةَ دقـائـقٌ  وثَـوانِ

فاغنَمْ لنفسكَ قبلَ موتِكَ ذِكرَها       فالذَّكـرُ للإنسـانِ عمرٌ ثـانِ

فكأنما تذكر قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع". سنن الترمذي. فيا أيها الإنسان! دقات قلبك تقول لك: إن الحياة عبارة عن مجموعة من الثواني والدقائق، فاغتنمها لنفسك قبل أن يأتي يوم الموت؛ لأنك إن تركت وراءك علماً نافعاً، أو عملاً صالحاً، فإنك تُذكَر به بعد وفاتك، ويخلّدك مدى الحياة.

^ عمر الإنسان يقاس بعمله لا بالأيام والسنين:

هناك كثير من الناس يتصورون أن عمر الإنسان إنما يُقاس بالأيام والسنين. لا! الأعمار لا تُقاس بالسنين، فالسِّنون تقيّد وتحدد كم عاش فلان من الأيام والسنوات، تقيَّد حياته بالأيام، والشهور، والدقائق، والثواني، لكن حينما يموت ويُدفن يبقى ذكره إن كان قدّم لأمته، ولوطنه، ولمجتمعه خدمات تُذكر، أذكر - على سبيل المثال - أن الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد ذكر معلقة شعرية واحدة لا يزال يُذكر فيها إلى وقتنا هذا، وتُدَرَّس معلقته في الجامعات العربية والأوربية على أنها نموذج من الشعر الجاهلي العظيم، ومات طرفة بن العبد وله من العمر ستة وعشرون عاماً. الآن كثير من شبابنا عمره ست وعشرون سنة وما حصل على الشهادة الثانوية، ولم يترك لنفسه أي شيء يُذكر به، وتراه هائماً، ضائعاً، مشتّتاً، لا يعرف ماذا يريد، لم يحدد هدفه في الحياة، ليس له مهنة، أو عمل، أو إنتاج، فبماذا نذكُره بعد وفاته؟ ثم إن كثيراً من الناس الذين يضيّعون أوقاتهم فيما لا ينفع، في المقاهي، وأماكن التنزّهات، وفي قوارع الطريق، هؤلاء يموتون وتُمحى آثارهم، ينسى ذكرهم بعد موتهم بأيام، ربما لا يذكرهم إلا أهلهم إن كانوا أبراراً أو مخلصين، أما إن كانوا أشقياء فإن الناس يتحاشون ذكرهم، حتى بعد وفاتهم لا يذكرونهم بخير، ولا يريدون أن يذكروهم حتى بالشر؛ لأنهم لم يخدموا أمتهم، لم يقدموا شيئاً لوطنهم، حتى أسرهم ما كانوا فيها أناساً صالحين، إنما أساؤوا لمن حولهم، فمات ذكرهم بموتهم. أما السلف الصالح - رحمهم الله تعالى، ورضي عنهم - فإذا ذكرتهم ذكرت معهم العلم، والمعرفة، والفقه، والدين، والتقوى، والصلاح، والاستقامة... ونحن إلى يومنا هذا نتغنّى بسِيَر السلف الصالح رضي الله عنهم، ونذكر من تراجمهم ما يرفع هممنا، وما يجعلنا نستثمر أوقاتنا في العمل الصالح، وفيما ينفعنا.

يقول الشاعر تأكيداً لهذه المعاني:

والوقتُ أنْفسُ ما عُنيتَ بحفظِهِ       وأراه أسهلَ مـا عليكَ يضيعُ

أهم شيء أن تُعنى بحفظ الوقت، لكن كثيراً من الناس تراهم يستثمرون مسألة الوقت، فإذا بهم يضيعونها فيما لا ينفع.

^ أقوال في أهمية الوقت:

يقول الإمام ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى: "ما فات من عمرك لا عوض له، وما حصل لك منه لا قيمة له". الشيء الذي مضى من حياة الإنسان لنم يُعوّض بشيء أبداً. لا تستطيع أن تسترجع الماضي، أو أن تستعيد منه ثانية واحدة، ما مضى فات، والمُؤمَّل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها أي استثمرها، واندفع بها فيما ينفعك من أمور الدين والدنيا.

أيضاً للإمام ابن عطاء الله السكندري - رحمه الله تعالى - مقولة رائعة في هذا الشأن: "ربّ عمرٍ اتسعت آماده، وقلّت أمداده، وربّ عمر قليلة آماده، كثيرة أمداده. من بورك له في عمره أدرك في يسير من الزمن من مِنن الله - تعالى - ما لا يدخل تحت دوائر العبارة، لا تلحقه الإشارة". ما معنى هذا الكلام؟ إن كثيراً من الناس طالت أعمارهم، واتسعت أزمنتهم، وقلّت فوائدهم، فلم يحصلوا على شيء حتى اشتغلوا بالبطالة والتقصير، ومضت تلك الأيام وكأنها أضغاث أحلام، أو طيف منام. وكثير من الناس - في المقابل - قل الزمن الذي عاشوه، لكن فوائدهم عظيمة ومباركة، فأدركوا من فوائد العلم، والمعارف، والأسرار، والأنوار في زمن قيلي ما لم يدركه غيرهم في الزمن الكثير، وكذلك كان السلف الصالح في كل أحوالهم يغتنمون أوقاتهم، ويستثمرونها فيما ينفع، ويتسابقون إلى الخيرات، ويبادرون كل لحظات أعمالهم فيما ينفع من شؤون الدين والدنيا.

سيدنا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه؛ نقص فيه أجلي، ولم يزدد فيه عمري". هذا اليوم يمضي وتغرب شمسه، فإن لم يقدم فيه الإنسان عملاً صالحاً فإنه يوم خسارة.

وقال أهل العلم: "من لم يكن في زيادة فهو في نقصان". أي من لم يأتِ عليه اليوم يزداد فيه من العلم فإنه عليه خسارة وندامة، وليس له فيه من الخير شيء.

هذا أيضاً معنى كلام سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما". الليل والنهار ماضيان، مستمران، لن ينتظرا أحداً، فاعمل يهما بالخير، فإن لم تستثمرهما فإنهما يسبقانك إلى حيث أجلك ونهاية عمرك. إذاً فالسلف الصالح - رضي الله عنهم - كانوا يدركون قيمة الوقت، ويستثمرونه في العمل الصالح.

كما ورد عن سيدنا الحسن البصري إمام التابعين رضي الله عنه: "أدركتُ أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم". وهذا في زمن الحسن البصري، أي من القرون الثلاثة الأولى التي هي قرون الخيرية، وقال فيها نبينا عليه الصلاة والسلام: "خير الناس قرني، ثم الذي يلونهم، ثم الذي يلونهم، ثم يفشو الكذب". سنن الترمذي. أي بعد القرون الأولى يبدأ الفساد، وينتشر الفساد أول ما ينتشر بكثرة الكذب، والكذب مفسد للحياة الاجتماعية، ومُبعد للإنسان عن تقوى الله سبحانه وتعالى.

^ نماذج من اغتنام السلف الصالح للوقت:

لقد كان السلف الصالح - رضي الله عنهم - يحرصون على أوقاتهم، ولا يضيّعون منها شيئاً.

أ- الخليل بن أحمد الفراهيدي:

وهو أحد أذكياء العالم - على الإطلاق - في زمانه. هذا الرجل ألف كتاب "العين"؛ وهو معجم وقاموس في اللغة العربية، ووضع علم العَروض؛ وعلم العروض هو موازين للشعر العربي، فيه قواعد تضبط ميزان الشعر العربي.

يقول الإمام الخليل بن أحمد الفراهيدي: "أثقل الساعات علي ساعة آكل فيها". لأنه سيضيع وقته في الأكل، ونحن اليوم نجد الساعات التي نأكل فيها هي ألذّ وأمتع الساعات علينا؛ لأننا لا نهتم بالعلم والمعرفة كما نهتم بطعمنا. فكثير من الناس الآن الوجبة الواحدة عندهم تأخذ من اهتمامهم حيّزاً كبيراً من الوقت، بينما الفراهيدي كان يجد أن وقت الطعام وقت ثقيل على نفسه.

بعض العلماء كان يقول: "لا أجد الوقت لآكل، كانت أختي تلقّمني الطعام وأنا أشتغل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم".

ب- الإمام أبو يوسف (قاضي القضاة):

الإمام أبو يوسف يعقوب، قاضي القضاة، وأحد كبار تلامذة الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه. هذا الإمام الجليل كان شديد الملازمة والمتابعة لشيخه أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ولقد لازَمه أكثر من سبعة عشر عاماً، ما فاتته صلاة الفجر معه أبداً، ولا فارَقه، لا في يوم عيد الفطر، ولا في يوم عيد الأضحى إلا من مرض أو سفر، لم يترك شيئاً أبداً. وروى محمد بن قدامى أنه سمع أبا يوسف يقول: "مات ابن لي، فلم أحضر جهازه، ولا دفنه، ولا تكفينه، وتركت الأمر إلى جيراني وأقربائي؛ مخافة أن يفوتني من أبي حنيفة شيء لا تذهب حسرته عني". لقد خشي وخاف أن تضيع عليه مسألة من مائل العلم التي يعلّمها أبو حنيفة رضي الله عنه، وقد عُرِف عن الإمام أبي حنيفة قوة الحجة والدليل، حتى أنه ورد في ترجمته أنه لو أراد أن يثبت لك أن هذه السارية من ذهب لَفَعل.

رضي الله عن السلف الصالح وأرضاهم، وبارك لنا في حياة علمائنا.

جـ- الثلاثة الذين حرصوا على العلم:

يُروى عن ثلاثة من أهل العلم أنهم كانوا أكثر الناس حرصاً على أوقاتهم، الخطيب البغدادي يروي هذا الكلام في كتابه "تقييد العلم" عن أبي العباس المبرِّد يقول: "ما رأيت أحرص على العلم من ثلاثة؛ الجاحظ[1]، والفتح بن خاقان[2]، وإسماعيل بن إسحق القاضي[3]. أما الجاحظ فإنه كان إذا وقع بيده كتاب يقرؤه من أوله إلى آخره[4]. وأما الفتح بن خاقان فإنه كان يحمل الكتاب في كمه، فإذا قام من بين يدي المتوكل للوضوء، أو لقضاء حاجة فإنه يخرج الكتاب من كمه فيقرأ فيه إلى أن يبلغ الموضَّأ، فيعيد وضعه، فلما يعود يخرج الكتاب من كمه فيقرأ ويستفيد من هذه اللحظات والدقائق القصيرة[5]. وأما إسماعيل بن إسحق القاضي فإنه ما دخل عليه أحد قط إلى وجد في يده كتاباً ينظر فيه، يحقّق في المسائل والفتاوى، ويحررها، ويكتبها، ويقيدها".

ء- محمد بن أحمد البيروني:

جاء في كتاب "معجم الأدباء" لياقوت الحموي في ترجمة الإمام الفلكي الرياضي، والمؤرخ الأديب الذي جمع أشتات العلوم، (محمد بن أحمد البيروني): دخل الإمام الولوالجي - وهو أحد الفقهاء في زمانه - على البيروني، وقد كان يجود بنفسه، وحشرجت روحه في صدره، وكان قد بلغ من العمر ثمانية وسبعين عاماً، فلما رآه البيروني (أي الولوالجي) دخل عليه قال له: "قلت لي يوماً حساب الجدّات الفاسدة[6]، ولم آخذ منك تتمة المسألة". فقال له الفقيه الولوالجي: "الآن؟!". فقال: "نعم. والله لأن أودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة خير لي من أن أخلّيها وأنا جاهل بها". مسألة واحدة لم يفرّط بها! تعلّمها وهو ينازع، وروحه حشرجت في صدره، قال الإمام الولوالجي: "فأعدت عليه المسألة، وذاكرتها معه، وحفظها، فلما خرجت من عنده وأنا في الطرق إذا بي أسمع الصراخ، وقد فاضت روحه إلى بارئها". لاحظوا كيف استثمر وقته حتى في أثاء نزع الروح لم يفرّط في هذا الوقت، بل استثمره في تعلّم المسائل والعلوم. إذاً السلف الصالح - رحمهم الله - كانوا يستثمرون كل الأوقات فيما ينفعهم، ويقربهم إلى الله سبحانه وتعالى.

هـ- الإمام جمال الدين القاسمي:

عاش الإمام جمال الدين القاسمي خمسين سنة، وألف في هذه السنوات ما يزيد على خمسين مؤلَّفاً، فلو قلنا إنه بدأ التأليف من أول يوم في عمره، يكون قد كتب في كل سنة كتاباً، والمعروف أن الإنسان لا يبدأ الكتابة من أول سنة في عمره. فالإمام جمال الدين القاسمي - رحمه الله تعالى - كانت حياته زاخرة وعامرة بالعلم، والتعليم، والكتابة، والتأليف، وشُهر عنه أنه كان يقول: "ليت الوقت يُباع فأشتريه".

و- الإمام النووي:

 وقد عاش خمسة وأربعين عاماً، وترك مئات المؤلفات، والمجلدات، والمذكرات، وكلها من التصانيف المهمة، ولو حُسِبتْ أيام عمره على صفحات كتبه لزادت صفحات الكتب على أيام سنيّه وعمره كثيراً وكثيراً، وكل ذلك دليل على البركة في أوقاتهم، وعلى حرصهم على هذه الأوقات.

إذاً.. هذا نموذج من حياة سلفنا الصالح رضي الله عنهم وأعلى الله قدرهم، ورفع شأنهم، وخلّد ذكرهم؛ لأنهم كانوا يحرِصون على أوقاتهم، يستثمرونها في النافع من أمور الدين والدنيا.

^ دعاء:

نسأل الله - سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يستثمر الأوقات، ويغتنمها فيما ينفع من أمور الدين والدنيا. إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



[1] عمرو بن بحر، وهو إمام من أئمة اللغة، والأدب، والبيان.

 

[2] وهو الأديب، والشاعر، وأحد الأذكياء من أبناء الملوك، وكان وزيراً عند الخليفة العباسي المتوكل، وأخاً له ملازماً لا يتركه أبداً.

 

[3] وهو فقيه مالكي بغدادي، وكان حريصاً على العلم كحرص الاثنين السابقين.

 

[4] وجاء في ترجمته أنه كان يستأجر دكاكين الورّاقين، ويبيت فيها للنظر في الكتب، والقراءة، والمطالعة.

 

[5] كذلك كان المتوكل إذا جلس معه الفتح بن خاقان يستغرق مجلسه وقتاً طويلاًن فإذا قام المتوكل من وضوء، أو طعام أو حاجة؛ بادر الفتح بن خاقان إلى إخراج الكتاب من كمه، فيقرأ في هذه اللحظات التي يغيب فيها المتوكل عن مجلسه الذي كان مجلس علم، وفيه، وقضاء، وفُتيا.

 

[6] وهي مسألة في علم الفرائض والمواريث، تتعلق بتوريث الجدات، وتسمى الجدة لأم الجدة الفاسدة، فالجد نوعان في عُرف علماء الفرائض والمواريث؛ جد صحيح، وجد فاسد، فإذا كان الجد لجهة الأب فهو جد صحيح، وإذا كان لجهة الأم فهو جد فاسد.

 

 التعليقات: 1

 مرات القراءة: 7980

 تاريخ النشر: 14/08/2009

2009-09-14

إبراهيم

نشكركم على هذه المحاضرة القيمة وحبذا لو أنكم ذكرتم مكان المحاضرة وتاريخها وشكراً

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 674

: - عدد زوار اليوم

7447125

: - عدد الزوار الكلي
[ 48 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan