::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> دراسات وأبحاث

 

 

دراسة موجزة في بيان حال القطعة المنسوبة لمصنَّف عبد الرزاق الصنعاني

بقلم : عمر بن الشيخ موفق النشوقاتي  

دراسة موجزة في بيان حال القطعة المنسوبة لمصنَّف عبد الرزاق الصنعاني التي صدرت بعنوان
الجزء المفقود من الجزء الأول من المصنف
أعدَّها: عمر بن موفق النشوقاتي
وهي في مطلبين

الأول
: في نقد هذه القطعة المنسوبة للمصنف
الثاني
: في بيان حال حديث أولية  النور المحمدي

الذي تشتمل عليه هذه القطعة
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد: فإن كتاب المصنف للإمام الحافظ عبد الرزاق بن همام الصنعاني، المتوفى سنة (211 هـ) من أمهات كتب السنة المطهرة، التي جمعت الأحاديث والآثار الواردة في أبواب الأحكام، وقد صدر هذا الكتاب سنة 1390 هـ، محققاً تحقيقاً علمياً في المجلس العلمي بالهند، حققه العلامة المحدث الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي رحمه الله تعالى.

وقد بين المحقق في مقدمته (ص: 3) أن في النسخة التي اعتمدها نقصاً بسيطاً في أول الكتاب وفي وسطه، وأن المخطوط يبدأ بباب غسل الذراعين من أبواب الوضوء.

من هنا استغل بعض الناس هذا النقص، وادعى أن الحديث المنسوب إلى عبد الرزاق: (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر) لابد أن يكون موجوداً في هذا النقص، لأنه لم يعثر عليه في المطبوع من المصنف، بحجة أن العلامة القسطلاني قد عزاه إلى عبد الرزاق في المواهب اللدنية (1/71).

فقام هذا المشار إليه بتلفيق هذا الجزء المفقود، أودع فيه هذا الحديث ومجموعة أحاديث وآثار أخرى جمعها من هنا وهناك، وأضاف إليها بعض صيغ الدعوات والصلوات على النبي صلى الله عليه وسلم، وركّب لها أسانيد إلى بعض السلف، ثم كلف من ينسخ له هذا الجزء مع بقية المجلد الأول والثاني من المصنف، مدعياً أن النسخة كتبت في بغداد المحروسة سنة (933 هـ).

ثم أرسلت النسخة إلى من تبنى طباعتها، وطبع الجزء المفقود في دبي بعنوان: "الجزء المفقود من الجزء الأول من المصنف للحافظ الكبير عبد الرزاق بن همام الصنعاني" بتحقيق: د. عيسى بن عبد الله بن محمد بن مانع الحميري، وتقديم: د. محمود سعيد ممدوح المصري.

وقبل أن أسرد الأدلة والشواهد على وضع هذه القطعة من المصنف أنوه إلى أنه قد سبقني إلى نقدها وبيان حالها الأخ الشيخ محمد زياد بن عمر التكلة، فكتب في ذلك مقالاً مطولاً، ونشره في موقع "ملتقى أهل الحديث" في الانترنت، وسرد فيه الأدلة الكافية الواضحة على افتراء هذا الجزء، إلا أنه أطال فيه النفس وشدد في العبارة، فاستأذنته في تهذيب مقالته والزيادة عليها بما يتيسر فأذن مشكوراً.

وأبين هنا أن المطلب الأول ملخصٌ في معظمه من كلام الأخ المذكور، وأما المطلب الثاني فهو من إعدادي، سائلاً المولى عز وجل أن يكتب النفع به، آمين.
المطلب الأول:
الأدلة العلمية المبينة لافتراء هذا الجزء
وهنا نتكلم في نقاط هامة:

أولاً:
النسخة المعتمدة في إخراج هذا الجزء مكتوبة بخط هندي يشبه خط المطبوعات الحجرية، وفيه اصطلاحات الخط الهندي، كما يتضح من الصورة التي نشرها ابن مانع في مقدمة تحقيقه للجزء، والناسخ ادعى أن النسخة كتبت في بغداد المحروسة سنة (933 هـ)، والخبراء يعلمون أن طريقة الكتابة هندية، وليست طريقة البغداديين، ولا هي من خطوط ذلك القرن.
من أمثلة ذلك كتابة كلمة (الطاؤس) و(الملئكة) في السطرين الخامس والحادي عشر من النموذج الأول، وكتابة الحاء والغين المقطوعتين في (نجيح) و(الفراغ) في السطرين الأول والسابع من النموذج الثاني.
وقد أرفقت ها هنا صورة عن هذين النموذجين لت
تضح صحة ذلك.
ثانياً:
ليس في النسخة التي اعتمدها الناشر أية سماعات كما بين ذلك في مقدمة الجزء (ص: 14)، وليس في المخطوطة إسناد النسخة أيضاً، كما هو المفترض في مخطوط كهذا، ومن المعلوم لدى أهل الحديث والمشتغلين بتحقيق كتبه أنه لا يثبت المخطوط عن مؤلفه ولا يصح الاعتماد عليه إلا إذا كان مسموعاً مصححاً مقابلاً، وخصوصاً في الكتب الحديثية التي تروي الأحاديث بأسانيدها، وهذا ما تفتقده النسخة التي اعتمدها الناشر.
ثالثاً:
المخطوط يبدأ بباب تخليق نور محمد صلى الله عليه وسلم، مع العلم أن مصنف عبد الرزاق ليس كتاباً في الشمائل حتى يبدأ بمثل هذا العنوان، وإنما هو كتاب في أحاديث الأحكام، وقد ذكر ابن خير الإشبيلي في فهرسته (ص: 129) ما يفيد أن المصنَّف يبدأ بكتاب الطهارة، فهل كان هذا الباب المدعى مفقوداً أيضاً عند ابن خير الإشبيلي في القرن السادس ثم عثر عليه الآن؟.
رابعاً:
أول حديث أورده في الباب حديث طويل ركيك الألفاظ والمعاني، أُثبت نصه من الكتاب ليطلع القارئ عليه ويحكم عليه من تلقاء نفسه، فقد قال الحافظ ابن الجوزي في كتابه "الموضوعات" (1/103): (الحديث المنكر يقشعر له جلد طالب العلم وقلبه في الغالب)، ثم روى بسنده عن الربيع بين خثيم قال: "إن للحديث ضوءاً كضوء النهار تعرفه، وظلمة كظلمة الليل تنكره".

فانظر أيها القارئ الفطن إلى هذا النص:
باب في تخليق نور محمد صلى الله عليه وسلم

((
عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن السائب بن يزيد قال: إن الله تعالى خلق شجرة ولها أربعة أغصان، فسماها شجرة اليقين، ثم خلق نور محمد صلى الله عليه وسلم في حجاب من درة بيضاء مثله كمثل الطاووس، ووضعه على تلك الشجرة فسبح عليها مقدار سبعين ألف سنة، ثم خلق مرآة الحياء ووضعها باستقباله، فلما نظر الطاووس فيها رأى صورته أحسن صورة وأزين هيئة، فاستحى من الله فسجد خمس مرات، فصارت علينا تلك السجدات فرضاً مؤقتاً، فأمر الله تعالى بخمس صلوات على النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، والله تعالى نظر إلى ذلك النور فعرق حياء من الله تعالى، فمن عرق رأسه خلق الملائكة، ومن عرق وجهه خلق العرش والكرسي واللوح والقلم والشمس والقمر والحجاب والكواكب وماكان في السماء، ومن عرق صدره خلق الأنبياء والرسل والعلماء والشهداء والصالحين، ومن عرق حاجبيه خلق أمة من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، ومن عرق أذنيه خلق أرواح اليهود والنصارى والمجوس وما أشبه ذلك، ومن عرق رجليه خلق الأرض من المشرق وما فيها، ثم أمر الله نور محمد صلى الله عليه وسلم انظر إلى أمامك فنظر نور محمد صلى الله عليه وسلم فرأى من أمامه نوراً وعن ورائه نوراً، وعن يمينه نوراً وعن يساره نوراً، وهو أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، ثم سبح سبعين ألف سنة، ثم خلق نور الأنبياء من نور محمد صلى الله عليه وسلم، ثم نظر إلى ذلك النور فخلق أرواحهم فقالوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم خلق قنديلاً من العقيق الأحمر يرى ظاهره من باطنه، ثم خلق صورة محمد صلى الله عليه وسلم كصورته في الدنيا، ثم وضع في هذه القنديل قيامه كقيامه في الصلاة، ثم طافت الأرواح حول نور محمد صلى الله عليه وسلم فسبحوا وهللوا مقدار مئة ألف سنة، ثم أمر لينظروا إليها كلهم فينظرون إليها كلهم فمنهم من رأى رأسه فصار خليفة وسلطاناً بين الخلائق، ومنهم رأى وجهه فصار أميراً عادلاً، ومنهم من رأى عينيه فصار حافظاً لكلام الله تعالى، ومنهم من رأى حاجبيه فصار مقبلاً، ومنهم من رأى خديه فصار محسناً وعاقلاً، ومنهم من رأى أنفه فصار حكيماً وطبيباً وعطاراً، ومنهم من رأى شفتيه فصار أحسن الوجه ووزيراً، ومنهم من رأى فمه فصار صائماً، ومنهم من رأى سنه فصار أحسن الوجه من الرجال والنساء، ومنهم من رأى لسانه فصار رسولاً بين السلاطين، ومنهم من رأى حلقه فصار واعظاً ومؤذناً وناصحاً، ومنهم من رأى لحيته فصار مجاهداً في سبيل الله، ومنهم من رأى عنقه فصار تاجراً، ومنهم من رأى عضديه فصار رماحاً وسيافاً، ومنهم من رأى عضده اليمنى فصار حجاماً، ومنهم من رأى عضده اليسرى فصار جلاداً وجاهداً، ومنهم من رأى كفه اليمنى فصار صرافاً وطرازاً، ومنهم من رأى كفه اليسرى فصار كيالاً، ومنهم من رأى يديه فصار سخياً وكياساً، ومنهم من رأى ظهر كفه اليمنى فصار صباغاً، ومنهم من رأى ظهر كفه اليسرى فصار حاطباً، ومنهم من رأى أنامله فصار كاتباً، ومنهم من رأى ظهور أصابعه اليمنى فصار خياطاً، ومنهم من رأى ظهور أصابعه اليسرى فصار حداداً، ومنهم من رأى صدره فصار عالماً وشكوراً ومجتهداً، ومنهم من رأى ظهره فصار متواضعاً ومضيعاً بأمر الشرع، ومنهم من رأى جبينه فصار غازياً، ومنهم من رأى بطنه فصار قانعاً وزاهداً، ومنهم من رأى ركبتيه فصار ساجداً وراكعاً، ومنهم من رأى رجليه فصار صياداً، ومنهم من رأى تحت قدميه فصار ماشياً، ومنهم من رأى ظله فصار مغنياً، وصاحب الطنبور، ومنهم من لم ينظر إليه فصار مدعياً بربوبية كالفراعنة وغيرها من الكفار، ومنهم من نظر إليه ولم يره فصار يهودياً ونصرانياً وغيرهم من الكفار)).
فانظر إلى هذا المتن العجيب الصارخ بوضعه وافترائه، فلو ثبت أن عبد الرزاق افتتح مصنفه بمثل هذا الحديث بهذا الإسناد الذهبي المشرق، فمن الذي وضع الحديث من رجال هذا الإسناد: عبد الرزاق، أم شيخه معمر بن راشد، أم الإمام الزهري، أم السائب بن يزيد؟
حاشاهم ثم حاشاهم، فمن ينزه هؤلاء عن مثل ذلك يعلم بالضرورة أن عبد الرزاق بريء من هذا الجزء المفترى.

خامساً:
تلقف واضع الجزء مجموعة من صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، التي ذكرها الجزولي في كتابه "دلائل الخيرات" ووضع لها إسناداً إلى بعض السلف، وها هي بأرقامها في الجزء ومواضعها من دلائل الخيرات.
ـ ففي الرقم 10 من الجزء: "كان البراء يكثر من قول: (اللهم صل على محمد وعلى آله بحر أنوارك ومعدن أسرارك).
وهي في دلائل الخيرات، حزب يوم الثلاثاء (ص: 76) وحزب يوم الأربعاء (ص: 99).
ـ وفي رقم 11: عن الحسن قال: (من يكثر من قول: اللهم صل
ِّ على من تفتقت من نوره الأزهار، زاد ماء وجهه).
و
هي في دلائل الخيرات، حزب يوم الثلاثاء (ص: 90).
ـ وفي رقم 12 : عن مالك أنه كان يقول دائماً: (اللهم صلِّ على سيدنا محمد السابق للخلق نوره).
وهي في دلائل الخيرات، حزب يوم الأربعاء (ص: 103).
ـ وفي رقم 13 : عن سليمان بن يسار قال: علمني أبو قلابة أن أقول بعد كل صلاة سبع مرات: (اللهم صل على أفضل من طاب منه النجار وسما به
الفخار واستنارت بنور جبينه الأقمار، وتضاءلت عند جود يمينه الغمائم والبحار).
وهي في دلائل الخيرات، حزب يوم الأحد (ص: 213).
 

ـ وفي رقم 14: عن ابن جريج قال: قال لي زياد: لا تنسَ أن تقول بالغدوة والآصال: (اللهم صل على من منه انشقت الأنهار وانفلقت الأنوار، وفيه ارتقت الحقائق وتنزلت علوم آدم).

وهي في دلائل الخيرات، الهامش، الصلاة المشيشية (ص: 259).

ـ وفي رقم 16 : عن سالم قال: علمني سعيد بن أبي سعيد أن أقول دوماً: (اللهم صلّ على كاشف الغمة ومجلي الظلمة ومولي النعمة ومولي الرحمة).

وهي في دلائل الخيرات، حزب يوم الثلاثاء (ص: 83).

فهذه ستة نصوص سرقها واضع الجزء من دلائل الخيرات وركب لها أسانيد إلى بعض السلف، مع العلم أن هذه الصيغ السجعية في الأذكار والصلوات ليست من تعبيرات السلف، بل يعلم الناظر بالبداهة أنها من أوراد الصوفية المتأخرين.

سادساً: ولما احتاج واضع الجزء إلى أحاديث في الطهارة يرمم بها الكتاب ليبدو منسجماً مع بداية المصنف المطبوع، استعان بمصنف ابن أبي شيبة المماثل لمصنف عبد الرزاق في موضوعه.

ففي (ص: 80) من الجزء المفقود: "باب في التسمية في الوضوء" وهو العنوان نفسه في مصنف ابن أبي شيبة (1/2) أخذ منه حديثين بحروفهما، وهما رقم (20 و 21) وتلاعب في الأسانيد.

وفي (ص83) باب إذا فرغ من الوضوء وهو العنوان ذاته في مصنف ابن أبي شيبة (1/3) بعد العنوان السابق، أخذ منه ثلاثة أحاديث بحروفها، وهي ذوات الأرقام (22 و 23 و 24) وبدل في أسانيدها.

ثم ترك بابين من مصنف ابن أبي شيبة حتى وصل إلى باب "في الوضوء كم هو مرة" فلم تعجبه صياغة العنوان، فبدله وكتب عنواناً جديداً فقال: (ص: 85) باب في كيفية الوضوء.

أورد في هذا الباب الحديث رقم (25) وهو مأخوذ بحروفه من ابن أبي شيبة (1/8) مع تلاعب في إسناده.

ثم أخذ الحديث الذي يليه مباشرة بحروفه أيضاً، وبدل في سنده طبعاً.

ثم ترك باب تخليل الأصابع من ابن أبي شيبة وتجاوزه إلى باب تخليل اللحية في الوضوء، وباب غسل اللحية في الوضوء، فسرق العنوانين ونقل تحتهما الأحاديث من رقم 27 إلى رقم 32 بحروفها وتلاعب في الأسانيد.

ثم وصل إلى "باب مسح الرأس كم هو مرة" فسماه "باب في مسح الرأس في الوضوء، وأخذ الأحاديث من (33 ـ 35) من مصنف ابن أبي شيبة (1/15) بحروفها وبدل في أسانيدها.

ثم وصل إلى باب "في مسح الرأس كيف هو" فبدله بقوله: "باب في كيفية المسح" وأخذ الحديثين رقم (36 و 37).

وهكذا فعل في باب "من كان يمسح ظاهر أذنيه وباطنهما" فقد سماه "باب في مسح الأذنين"، أخذ من ابن أبي شيبة (1/18) الحديثين رقم (38 و 39).

ومن العجائب أنه قال في الحديث (38): عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، قال: رأيت أنساً توضأ فجعل يمسح ظاهر أذنيه وباطنهما، فنظرت إليه فقال: إن ابن مسعود كان يأمر بذلك.

هكذا ساقه في هذا الجزء المفترى من طريق الزهري، بينما هو في مصنف ابن أبي شيبة (1/18): عن حميد قال: رأيت أنساً .... فذكره بحروفه، فهل رأى كل من الزهري وحميد هذا المشهد بعينه، ثم حدث كل منهما به بالكلمات والحروف ذاتها، وهو حكاية فعل وليس رواية نص؟.

سابعاً: في الجزء تراكيب وألفاظ أعجمية، وتعبيرات متأخرة، وسجعات لم تكن معروفة في القرون الأولى.

ـ فمن ذلك: في الحديث رقم (1) ذُكر في متنه عددٌ من المهن كالصراف والطراز والكيال والصباغ والخياط والحداد والصياد وصاحب الطنبور.

فينظر ، هل كانت هذه المهن معروفة عند السلف بهذه الأسماء؟

ـ وفي رقم 7: كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً وأنورهم لوناً.

ـ وفي رقم 9: كان صلى الله عليه وسلم أحلى  الناس.

ـ وفي رقم 10: اللهم صل على سيدنا محمد بحر أنوارك ومعدن أسرارك.

ـ وفي رقم 13: اللهم صل على أفضل من طاب منه النجار وسما به الفخار، واستنارت بنور جبينه الأقمار وتضاءلت عند جود يمينه الغمائم والبحار.

ـ وفي رقم 14: اللهم صل على من منه انشقت الأنهار وانفلقت الأنوار.

ولا عجب، فهذه الصيغ مأخوذة من دلائل الخيرات كما تقدم.

ـ وفي رقم 15: عن ابن عون: علمني شيخي أن أقول ليل نهار: اللهم صلِّ على من خلقت من نوره كل شيء.

فمعلوم بالبداهة أن هذه التعبيرات لم تكن شائعة في الصدر الأول، فوجودها في آثار منسوبة للسلف يدل على بطلان هذه النسبة.

ثامناً: أما الأسانيد التي ركبها واضع الجزء فتدل على بعده عن هذا الفن كل البعد، فركب الكثير من أسانيد الجزء من طريق مالك والزهري ومعمر وأمثالهم من أئمة الحديث في القرون الأولى، ومن شأن هؤلاء وأمثالهم أن يُجمع حديثهم ويَتَسابق طلبة الحديث إلى حفظها وتدوينها وروايتها، وتنتشر بعد ذلك وتشتهر عند المخرجين، ولأجل هذا فإن الحفاظ يحكمون بالوضع على الحديث إذا كان متنه منكراً وتفرد به راو واحد عن إمام هذا شأنه، بخلاف التفرد عن  عامة الرواة.

من هنا فإنه لا يعقل أن يتفرد عبد الرزاق بهذه المتون الغريبة المروية بهذه الأسانيد الذهبية عن أئمة كبار كمالك والزهري، ثم لا يُعثر عليها من غير طريقه عند غيره من المخرجين.

وأبرز مثال على ذلك الحديث الأول في هذا الجزء المفترى فإنه رواه من طريق معمر عن الزهري عن السائب بن يزيد بذاك المتن الطويل المنكر الذي سقته لك آنفاً، فلو ثبت أن عبد الرزاق رواه هكذا لكذبه الحفاظ ورموا بحديثه كله.

وقد وقع واضع الجزء في أخطاء كثيرة لعدم معرفته بهذا الفن، ولست أطيل في نقد الأسانيد التي ذكرها إنما أورد على ذلك بعض الأمثلة:

ـ ففي الحديث رقم (2)  قال: عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني البراء.

وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ولد سنة ثمانين، كما في سير أعلام النبلاء (6/334) وتوفي البراء بن عازب سنة اثنتين وسبعين كما في الإصابة (1/147) فكيف يقول ابن جريج: أخبرني البراء؟

صحيحٌ أن ابن جريج كان مدلساً، لكن المدلس إنما يدلس بلفظ عن، فإذا قال: حدثنا، ولم يسمع فقد كذب، فهل كان ابن جريج الحافظ الثقة كذاباً؟

ـ وفي الحديث رقم (28) قال: عبد الرزاق، قال: أخبرني الزهري.

ومعروف بالبداهة أن عبد الرزاق لم يدرك الزهري، فقد ولد عبد الرزاق سنة (126) هـ، كما في سير أعلام النبلاء (9/565) وتوفي الزهري سنة (124) هـ كما في السير أيضاً (5/349) فكيف يصرح بالسماع منه ولم يدركه أصلاً؟ وهل كان عبد الرزاق الإمام الحافظ يكذب أيضاً بمثل هذا؟

ـ والحديث رقم (22) سرقه الواضع من مصنف ابن أبي شيبة (1/3) وركب له سنداً من عنده، وفاته أن عبد الرزاق رواه في مصنفه الحقيقي (1/186) لكن بسند آخر غير السند الذي ركبه واضع الجزء، فلو كان لدى الواضع معرفة بالحديث أو علم بأصول التزوير لنقل الحديث من المصنف ذاته بسنده ومتنه.

فهذه أدلة واضحة ناطقة عند ذوي النظر في علم الحديث أن هذا الجزء مركب مفتري, وأن عبد الرزاق الصنعاني بريء منه.

ونصل الآن إلى الحديث الذي وضع الجزء كله من أجله «أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر».
المطلب الثاني:

في بيان حال حديث النور المحمدي

لا شك أن نور سيدنا محمد r ساطع على الأمة بما جاءنا به من الهداية من ربه سبحانه وتعالى, قال عز وجل: «قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين» ولسنا في صدد تقرير ذلك فهو أوضح من أن يُستدلّ له, ولكنا نقول: إن محبتنا للنبي r وتعظيمنا له لا يحتاج إلى الموضوعات والمناكير ذات المعاني الباطلة المخالفة للكتاب والسنة, فالأدلة الصحيحة المتكاثرة في الكتاب والسنة تغنينا عن مثل ذلك, وقدر النبي r لا ينقص إذا تصدينا لهذه الموضوعات بالبيان والتحذير.

من هنا نقول: إن حديث أولية النور المحمدي هو مما وضعه الغلاة من جهلة المتصوفة المتأخرين, فلم يذكره أهل الحديث المتقدمون ولا الصوفية المتقدمون في كتبهم, ولم يُعرف هذا المتن إلا في القرن السابع وما بعده.

وقبل أن أخوض في أدلة هذا الكلام أورد نص الحديث كاملاً كما ورد في الجزء المفترى لأن من تذوق الألفاظ النبوية وذاق حلاوتها يعلم بالضرورة أنه لا يمكن أن يصدر مثل هذا الحديث عن سيد الخلق عليه الصلاة والسلام, وإنما أورده هنا كاملاً لأن الكثيرين ممن يروونه ويدافعون عنه لا يحفظون منه إلا قطعة من أوله هي: «أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر», والتي قد لا يستنكرها السامع قبل التدبر والبحث.

«عبد الرزاق عن معمر عن ابن المنكدر عن جابر قال: سألت رسول الله r عن أول شيء خلقه الله تعالى؟ فقال: هو نور نبيك يا جابر خلقه الله, ثم خلق فيه كل خير, وخلق بعده كل شيء, وحين خلقه أقامه قدامه من مقام القرب اثني عشر ألف سنة, ثم جعله أربعة أقسام فخلق العرش /والكرسي من قسم، وحملة العرش وخزنة الكرسي من قسم, وأقام القسم الرابع في مقام الحب اثني عشر ألف, ثم جعله أربعة أقسام فخلق القلم من قسم, واللوح من قسم, والجنة من قسم, ثم أقام القسم الرابع في مقام الخوف اثني عشر ألف سنة جعله أربعة أجزاء فخلق الملائكة من جزء, والشمس من جزء, والقمر والكواكب من جزء, وأقام الجزء الرابع في مقام الرجاء اثني عشر ألف سنة, ثم جعله أربعة أجزاء فخلق العقل من جزء والعلم والحكمة والعصمة والتوفيق من جزء وأقام الجزء الرابع في مقام الحياء اثني عشر ألف سنة ثم نظر الله عز وجل إليه فترشح النور عرقاً فقطر منه مائة ألف وعشرون ألف وأربعة آلاف قطرة من نور, فخلق الله من كل قطرة روح نبي, أو روح رسول ثم تنفست أرواح الأنبياء فخلق الله من أنفاسهم الأولياء والشهداء والسعداء والمطيعين إلى يوم القيامة, فالعرش والكرسي من نوري والكروبيون من نوري والروحانيون والملائكة من نوري والجنة وما فيها من النعيم من نوري, وملائكة السموات السبع من نوري, والشمس والقمر والكواكب من نوري, والعقل والتوفيق من نوري, وأرواح الرسل والأنبياء من نوري, والشهداء والسعداء والصالحون من نتاج نوري, ثم خلق الله اثني عشر ألف حجاب فأقام الله نوري وهو الجزء الرابع, في كل حجاب ألف سنة, وهي مقامات العبودية والسكينة والصبر والصدق واليقين, فغمس الله ذلك النور في كل حجاب ألف سنة فلما أخرج الله النور من الحجب ركبه الله في الأرض فكان يضيء منها ما بين المشرق والمغرب كالسراج في الليل المظلم, ثم خلق الله آدم من الأرض فركب فيه النور في جبينه, ثم انتقل منه إلى شيث, وكان ينتقل من طاهر إلى طيب, ومن طيب إلى طاهر, إلى أن أوصله الله صلب عبد الله ابن عبد المطلب, ومنه إلى رحم أمي آمنه بنت وهب, ثم أخرجني إلى الدنيا فجعلني سيد المرسلين وخاتم النبيين ورحمة للعالمين وقائد الغر المحجلين، وهكذا كان بدء خلق نبيك يا جابر».

فهذا هو متن الحديث الذي يدافع عند المدافعون, ومن المعلوم أن أول من عزاه إلى عبد الرزاق ـ خطأً ـ  هو العلامة القسطلاني في المواهب اللدنية (1/71) ولكن الخلاف بين السياقين واضح بيّن, فهذا سياق القسطلاني فيما يلي فقارن بينهما.

قال القسطلاني:

«روى عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصـاري قال: قلـت يا رسول الله, بأبي أنت وأمي, أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء. قال: يا جابر, إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره, فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله تعالى, ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم, ولا جنة ولا نار, ولا ملك ولا سماء, ولا أرض ولا شمس ولا قمر, ولا جني ولا إنسي, فلما أراد الله تعالى أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء, فخلق من الجزء الأول القلم, ومن الثاني اللوح, ومن الثالث العرش. ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء, فخلق من الجزء الأول حملة العرش, ومن الثاني الكرسي, ومن الثالث باقي الملائكة, ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء, فخلق من الأول السماوات, ومن الثاني الأرضين, ومن الثالث الجنة والنار, ثم قسم الرابع أربعة أجزاء, فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين, ومن الثاني نور قلوبهم ـ وهي المعرفة بالله ـ ومن الثالث نور أنسهم, وهو التوحيد, لا إله إلا الله محمد رسول الله.. الحديث».

يتبين لنا بعد المقارنة بين اللفظين أنه لا بد من الاعتراف بأحد أمرين:

1ـ فإن سلمنا جدلاً بثبوت هذا الجزء عن عبد الرزاق, فقد أخطأ القسطلاني في المواهب اللدنية في عزو روايته إليه, فبين السياقين اختلاف كبير.

2ـ وإن سلمنا أن القسطلاني لم يخطئ في عزوه إلى عبد الرزاق، فقد تبين زيف هذا الجزء واختلاقه, فالقسطلاني كما سبق هو أول من عزاه إلى عبد الرزاق, وجميع من جاء بعده ممن ذكر الحديث اعتمد عليه, كالعجلوني في أربعينه (ص 31ـ32), ولو تنبه واضع الجزء إلى هذا لنقل الحديث من المواهب, ولكنه غفل عن ذلك ونقله من كتب الشيخ محيي الدين بن عربي الذي أورده في كتابه تلقيح الأذهان.

الكلام على حديث النور من حيث الإسناد:

كل من ذكر حديث النور هذا من المتأخرين ذكره بلا إسناد, بل إن الإمام السيوطي ـ وهو المعروف بسعة إطلاعه ـ قال في الحاوي للفتاوي (1/325) في الفتاوى القرآنية, سورة المدثر لما سئل عن هذا الحديث قال: «ليس له إسناد يعتمد عليه».

والسيوطي يعرف مصنف عبد الرزاق جيداً, بل قد خرج منه في كتبه مئات المرات  ولا سيما في جامعية الكبير والصغير, فهل خفي عليه سنده المذكور في أوائل هذا الجزء المفترى من المصنف؟ أم كانت نسخة السيوطي من المصنف ناقصة أيضاً من أولها؟

ثم إن الإسناد الذي ركبه واضع هذا الجزء من المصنف إسناد مسلسل بالأئمة: عبد الرزاق عن معمر عن ابن المنكدر عن جابر, والمتن ركيك منكر كما يتضح من قراءته لكل من شم رائحة الحديث وذاق طعمه, وأنا أسأل: فمن الذي وضع الحديث إذاً من هؤلاء؟ عبد الرزاق أم معمر أم ابن المنكدر أم جابر؟

كلا والله، بل الحديث موضوع, وعبد الرزاق ومن فوقه ما سمعوا به.

وفيما يلي أسوق أقوال العلماء الذين تكلموا في حكمه وجزموا بوضعه, ويلاحَظ أنهم جميعاً من المتأخرين, بل غالبهم من العلماء المعاصرين, وذلك لأن الحديث لم يُعرف عند المتقدمين أصلاً, لأنه إنما وُضع في القرون المتأخرة.

1ـ الإمام السيوطي, وقد تقدم كلامه.

2ـ جمال الدين القاسمي, فقد حكم عليه النكارة, وذلك في كتابه «الفضل المبين على عقد الجوهر الثمين (ص343) لكنه قلّد القسطلانيَّ والعجلونيَّ في عزوه إلى عبد الرزاق.

3ـ أحمد ابن الصديق الغماري, حكم عليه بالوضع في مقدمة كتابه «المغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصغير» (ص4) وفي در الغمام الرقيق (ص99) الذي جمعه من كلامه تلميذه عبد الله التليدي, وعلَّق الأخير بقوله «هو موضوع باتفاق أهل الحديث وإن أجمع على إيراده أصحاب المواليد».

4ـ عبد الله ابن الصديق الغماري, ألف في بيان وضعه رسالة سمَّاها: «مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر» قال فيها (ص28):

«وعزوه إلى رواية عبد الرزاق خطأ لأنه لا يوجد في مصنفه ولا جامعه ولا تفسيره, وهو حديث موضوع جزماً, وفيه اصطلاحات المتصوفة, وبعض الشناقطة المعاصرين ركب له إسناداً فذكر أن عبد الرزاق رواه من طريق ابن المنكدر عن جابر, وهذا كذب يأثم عليه, وبالجملة فالحديث موضوع لا أصل له في شيء من كتب السنة» ا هـ.

5ـ عبد الفتاح أبو غدة, ذكر لي تلميذه الأستاذ محمد الرشيد أنه سمعه يحكم على هذا الحديث بالوضع, وينتقد العجلونيَّ لذكره الحديث في أربعينه.

6ـ محمد عبد السلام خضر في كتابه: «السنن والمبتدعات» (ص 93).

7ـ محمد أحمد بن عبد القادر الشنقيطي المدني في رسالة خاصة سمَّاها «تنبيه الحذاق على بطلان ما شاع بين الأنام من حديث النور المنسوب لمصنف عبد الرزاق».

8ـ عبد العزيز بن باز في تقديمه لرسالة الشنقيطي المذكورة.

9ـ محمد ناصر الدين الألباني في السلسلة الصحيحة (1/257 ـ 258 و 820).

10ـ عبد الله الهرري الحبشي في الدليل القويم (ص 180) كما في هامش مرشد الحائر (29) .

فهؤلاء عشرة من علماء الحديث ـ على اختلاف مشاربهم ـ حكموا بوضعه, فماذا بقي للمتمسكين بروايته؟

لا شك أنهم يحتجون بحجج قد تنطلي على غير أهل الحديث لذا رأيت أن أذكر هنا بعض حججهم وأجيب منها.

1 ـ فيحتجون بأن عدداً من العلماء الموثوقين ذكروه في كتبهم, كالقسطلاني في المواهب اللدنية (1/71), وتبعه العجلوني في أربعينه (ص31ـ 32) وفي كشف الخفاء (1/265_266).

وقد أجاب العلامة اللكنوي عن مثل هذه التساؤلات، فقال في كتابه "عمدة الرعاية" كما في هامش الأجوبة الفاضلة (ص33 ـ 34):

فإن قال قائل: نقْلُ من نقلَ هذه الروايات لجلالة قدرهم ونباهة ذكرهم كاف للاستناد عليه, قلنا: كلا, لا يقبل حديثٌ من غير إسناد ولو نقله معتمدٌ, لاسيما إذا لم يكن الناقل من نقاد الأحاديث, وجلالة قدره لا تستوجب قبول كل ما نقل, ألا ترى إلى صاحب «إحياء علوم الدين» مع جلالة قدره أورد في كتابه أحاديث لا أصل لها, فلم يعتبر بها, كما يظهر من مطالعة تخريجه للعراقي, ولا أقول إنهم نقلوا ذلك مع علمهم بكذب ذلك, بل وقع لهم الاغترار بقول غيرهم, فإنهم لم يسندوها إلى أحد من المحدثين الناقدين, والعبرة في هذا الباب لهم لا لغيرهم» اهـ ملخصاً.

فهذه قاعدة عامة جليلة ينبغي مراعاتها, فالحديث لا يقبل إلا بالإسناد الذي يقبله نقاد الحديث دون غيرهم, فكل علم يؤخذ من أهله.

أما عزو القسطلاني الحديث الذي نحن بصدده إلى عبد الرزاق فهو خطأ, فهذا مصنف عبد الرزاق بين أيدينا, فليخرجوا لنا الحديث منه إن استطاعوا, وقد تبين فيما سبق تزوير هذه القطعة التي اشتملت على هذا الحديث بالأدلة القاطعة.

على أن القسطلاني ـ أول من عزا الحديث إلى عبد الرزاق ـ إنما قال: ((وروى عبد الرزاق))، ولم يقل: الصنعاني، ولم يقل: في المصنف، وإنما فهم الناس أنه الصنعاني باعتبار أن ذلك هو المتبادر إلى الذهن، والاحتمال قائم في أن يكون أراد غيره.

كما أنه من المحتمل أن يكون القسطلاني وجده في بعض كتب المتأخرين مسنداً من طريق عبد الرزاق، وتكون العلة في السند الموصل إليه، أي يكون واضع الحديث متأخراً عن عبد الرزاق، وأسنده من طريقه زوراً وبهتاناً، فلما وقف عليه القسطلاني نقلـه في المواهب على التسليم والمتابعـة، دون تحقيـق أو مراجعة، كما هو شأن كثيرٍ من المتأخرين، وهذا منهم توسع غير مرضي في التساهل عند رواية أحاديث الفضائل، فالحفاظ إنما أجازوا في الفضائـل روايـة ما لم يشتد ضعفه، لا الموضوعات والواهيات وما لا أصل له.

أما احتمال وجود الحديث في بعض نسخ المصنف التي اطلع عليها القسطلاني ولم تصلنا، فهو احتمال مردود، ودعوى لا دليل عليها، لأنه لو وجد في بعض نسخ المصنف، لاطّلع عليه الناس قبل القسطلاني، ولنقلوا الحديث منه استشهاداً به أو استنكاراً له، أما أن يُدَّخرَ هذا الحديث سبعة قرون ولا يعزوه أحد من الحفاظ إلى عبد الرزاق منذ وفاته إلى عصر القسطلاني فهذا ما لا يمكن تصوره.

وأما العجلوني, فهو مقلد للقسطلاني في عزوه إلى عبد الرزاق بدون مراجعة له في مظانه, وما بني على الخطأ فهو خطأ, وقد نص هو في أربعينه (ص32) فقال بعد سياقه للحديث: «كذا في المواهب اللدنية من غير ذكر سند الحديث ومن غير تتمة».

وأما في كشف الخفاء, فقد عزاه إلى عبد الرزاق أيضاً تبعاً للقسطلاني, ولم يتكلم في حكمه قط, وإنما اشتغل بمشكلات متنه, مع العلم أن كشف الخفاء إنما ألف لتخريج الأحاديث المشتهرة على الألسنة وبيان حكمها من صحة أو حسن أو ضعف أو وضع, فسكوته عن حكم الحديث يدل على عدم وجود حجة لديه في إثباته.

فلماذا نتمسك بخطأ القسطلاني وسكوت العجلوني ونترك كل ما سبق ويأتي في بيان بطلان الحديث من النقول الصريحة والحجج الواضحة؟

2ـ ويحتجون بأن الحديث قد صح عند بعض الصوفية بطريق الكشف فلا ينبغي إنكاره.

وجوابه أن الحكم على الحديث إنما يؤخذ من أهله, والكشف ليس حجة شرعية بالإجماع, ولا هو من مصادر الحكم على الحديث وتمييز صحيحه من سقيمه, وهذا الإمام الشعراني أحد كبار الصوفية المعتبرين يقول:

«دوروا مع الشرع كيف كان لامع الكشف فإنه قد يخطئ».

نقله عنه ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب (8/374) في ترجمة الشعراني.

ولست أطيل في مناقشة ذلك, إنما أحيل إلى ما كتبه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة حول المسألة في تعليقه على كتاب المصنوع في معرفة الحديث الموضوع للملا علي القاري (ص215ـ 218 و 273).

ويكفي أن نقول: إنه لو فتح هذا الباب لاختلط الحابل بالنابل, ولصُححت الكثير من الموضوعات والواهيات بالكشف, ولتوسعت دائرة الظنون والأوهام ودخل إلى الدين الحنيف ما ليس منه.

وأيضاً لو جوّزنا العمل بالتصحيح الكشفي، لهدمنا أصلاً من أصول الدين، ألا وهو الإسناد الذي قام به الدين، أخرج مسلم في مقدمة صحيحه (1/15) عن عبد الله بن المبارك قال: ((الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء)).

ولا يرد على هذا أنه إنما يؤخذ من المكاشفين الثقات دون سواهم؛ لأنه ما من مدَّعٍ لمثل هذه المقامات إلا وتجد أمةً من أتباعه يثقون به ويستسلمون لكلامه وأحكامه.

ولست في هذا منكراً لأصل الكشف, فلا شك أن المؤمن الصالح ينظر بنور الله, قال تعالى في الحديث القدسي: «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به».

ولكن الحرص على حفظ حديث رسول الله r من الدخائل أغلى من ذلك كله.

أخرج مسلم في مقدمة صحيحه (1/13) عن مجاهد قال: جاء بُشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله r قال رسول الله r, فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه, فقال يا ابن عباس, مالي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله r ولا تسمع! فقال ابن عباس:

 «إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله r, ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا, فلما ركب الناس الصعب والذَّلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف».
الكلام على الحديث من جهة المتن:

ذكر الحفاظ أن من علامات الحديث الموضوع ركاكة اللفظ والمعنى والطول المفرط في الحديث.

قال ابن الصلاح في مقدمته (ص99) : «وقد يفهمون الوضع من قرينة حال الراوي أو المروي, فقد وضعت أحاديث طويلة يشهد بوضعها ركاكة ألفاظها ومعانيها».

فإذا اجتمعت ركة اللفظ والمعنى كان ذلك دليلاً على وضع الحديث, وهذا مما لم يختلف فيه الحفاظ, وإنما منعوا ذلك في ركة اللفظ وحدها, لاحتمال أن يكون الراوي قد روى الحديث بالمعنى فبدل اللفظ الفصيح بلفظه الركيك.

من هنا نقول: إن حديث أولية النور المحمدي هو مما اجتمع فيه الأمران, فهو دليل على وضعه, وبيان ذلك فيما يلي:

1ـ أما ركة الألفاظ, فقد ورد في نص الحديث ألفاظ واصطلاحات صوفية متأخرة لم تكن مستعملة عند السلف, فلا يصدر مثلها عن رسول الله r كمقام القرب, ومقام الحب, ونتاج النور, وغيرها من الألفاظ, هذا في سياق الجزء المفترى من المصنَّف, أما سياق القسطلاني في المواهب (1/71) فوردت فيه ألفاظ: نور أبصار المؤمنين, ونور قلوبهم, ونور أنسهم.

فهذه الألفاظ كلها اصطلاحات متأخرة ليست من ألفاظ النبوة, ولا من الكلمات التي يستعملها السلف, فوجودها في حديث ينسب إلى النبي r علامة واضحة على وضعه, لاسيما وقد اجتمعت معها ركة المعاني.

ومقصودي هنا الناحية التاريخية لاستعمال هذه الألفاظ, وليس المقصود الحكم عليها بحد ذاتها.

2ـ وأما من حيث المعنى فالحديث مخالف للنصوص الصحيحة:

أخرج البخاري رقم (7418) في كتاب التوحيد, باب رقم (22) عن عمران بن حصين أن وفداً من اليمن سألوا رسول الله r فقالوا: «جئناك لنتفقه في الدين, ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان, فقال r: «كان الله ولم يكن شيء قبله, وكان عرشه على الماء, ثم خلق السماوات والأرض, وكتب في الذكر كل شيء».

فهذا الحديث صريح في أن أول المخلوقات الماء والعرش, والسائل هنا يسأل النبي r عن أول هذا الأمر ما كان؟ فلم يذكر له النبي r النور المحمدي ولا أن الكائنات خلقت منه.

قال ابن حجر في فتح الباري (6/347ـ 348) : «أشار بقوله: «وكان عرشه على الماء» إلى أن الماء والعرش كانا مبدأ هذا العالم لكونهما خلقا قبل السماوات والأرض, ولم يكن تحت العرش إذ ذاك إلا الماء, .. وأما ما رواه أحمد والترمذي وصححه من حديث عبادة بن الصامت مرفوعاً: «أول ما خلق الله القلم ثم قال: اكتب, فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة» فيجمع بينه وبين ما قبله بأن أولية القلم بالنسبة إلى ما عدا الماء والعرش, أو بالنسبة إلى ما منه صدر من الكتابة, أي أنه قيل له اكتب أولَ ما خُلق, وأما حديث أول ما خلق الله العقل فليس له طريق ثبت» 1هـ ملخصاً.وللمناسبة, فإن ابن حجر لو عرف حديث النور في مصنف عبد الرزاق لأتى به ها هنا للتوفيق بينه وبين ما ذكر أو لبيان حاله.
3ـ وفي حديث النور أيضاً مخالفة للآية الكريمة, قال الله سبحانه وتعالى: «قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين و
تجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين, وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين, ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لهـا وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين, فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها, وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً, ذلك تقدير العزيز العليم» (فصلت9ـ11).

يخالف حديث النور هذه الآية في أمرين:

الأول: في سياق القسطلاني «.. ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من الأول السماوات ومن الثاني الأرضين».

وهذا مخالف للآية الكريمة التي تصرح بأن الأرض خلقت قبل السماوات.

والثاني: تنص الآية الكريمة أن السماوات السبع خلقن من الدخان, بينما يفيد حديث النور أنها خلقت من جزء من أجزاء النور المحمدي.

ورد في سياق القسطلاني للحديث: «إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره».

فقوله «من نوره» إن فسرناه بأنه نور خلقه الله وأضافه إلى نفسه إضافة تشريف ثم خلق منه نور سيدنا محمد r فقد أثبتنا بذلك مخلوقاً قبله وهذا يفوّت المقصود من الحديث عند من يتمسك به.

وإن فسرناه بأنه نور من ذات الله سبحانه وتعالى فقد أثبتنا التجزئة في ذات الله, وأن النبي r جزء من ربه, ولا يخفى بطلانه.

وأعود فأقول: لماذا نشغل أنفسنا بالتفسير والتأويل ونتكلف لذلك والحديث موضوع عند أهل الحديث؟

5ـ وجاء في سياق الجزء المفترى من المصنف: «وحين خلقه أقامه قدامه في مقام القرب» ولا يخفى ما فيه من المقابلـة بين الله تعالى والنور المحمـدي, ولا يخفى ما فيه من التشبيه الذي يقرر علماء العقيدة بطلانه بالإجماع, فالله عز وجل «ليس كمثله شيء وهو السميع البصير».

6ـ وهناك تناقض بين سياق القسطلاني وسياق هذا الجزء المفترى كما سبقت الإشارة إليه, فتتشابه الروايتان في أن النور المحمدي قُسِّم أربعة أجزاء عدة مرات, وخُلق من كل قسم مخلوق معين, وتتناقض في تحديد ما خلق من كل قسم منها وفي ترتيب هذه المخلوقات, ولست أتعب نفسي في تفصيل ذلك, بل يكفيك أن تتأمل الروايتين وتقارن بينهما فيما سبق (ص16ـ 18).

7ـ وأخيراً, الحديث مناقض لما أخرجه عبد الرزاق الصنعاني نفسه في تفسيره (1/301) عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: «وكان عرشه على الماء», قال: «هذا بدء خلقه قبل أن يخلق السماء والأرض».
الخاتمة

يتبين لنا مما سبق أن الحديث موضوع باتفاق أهل الحديث, وأنه لا وجود له في شيء من كتب عبد الرزاق الصنعاني, وأن الجزء المفقود المدعى من المصنف موضوع عليه بالأدلة القاطعة.

ولو أننا نقتصر على ما ثبت في الكتاب والسنة في معرفة فضائله صلى الله عليه وسلم، لأغنانا ذلك عن الاستشهاد بالموضوعات والمناكير.

ـ أخرج الإمام أحمد رقم (20596) والحاكم (2/608ـ 609) عن ميسرة الفجر قال: قلت يا رسول الله, متى كُتبتَ نبياً؟ فقال r: «وآدم بين الروح والجسد» صححه الحاكم ووافقه الذهبي.

ـ وأخرج الترمذي رقم (3613) والحاكم (2/609) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا يا رسول الله, متى وجبت لك النبوة؟ فقال r: «وآدم بين الروح والجسد» قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

لفظ الحاكم «بين خلق آدم ونفخ الروح فيه».

ـ وأخرج الإمام أحمد رقم (17150) والبخاري في التاريخ الكبير (6/68ـ69) وابن حبان في صحيحه رقم (6404) عن العرباض بن سارية قال: سمعت رسول الله r يقول: «إني عند الله مكتوب بخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته, وسأخبركم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم , وبشارة عيسى, ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني أنه خرج منها نور أضاءت لها منه قصور الشام»
ـ وأما حديث: «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث».

فأخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (1/45) وابن أبي حاتم في تفسيره رقم  (17594) من طريق سعيد بن بشير حدثنا قتادة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله r في قوله تعالى: «وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم» قال: «كنتُ أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث».

قال ابن كثير في تفسيره (6/2785) : «سعيد بن بشير فيه ضعف, وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلاً, وهو أشبه, ورواه بعضهم عن قتادة موقوفاً».

ـ فهذه الأحاديث تغنينا عن التمسك بحديث جابر الموضوع عليه, ولكنها لا تفيد أولية خلق النور المحمدي على المخلوقات, والأخير منها ـ على ضعفه ـ لا يفيد سوى أولية خلقه r على الأنبياء والمرسلين.

ـ هذا آخر ما يسر الله عز وجل وفتح في بيان حال هذا الجزء المفترى من المصنف وفي بيان وضع حديث أولية النور المحمدي, نسأل الله أن يهدي قلوبنا وأن يشرح صدورنا للحق, وأن يتقبل منا صالح العمل, ويجنبنا الخطأ والزلل وأن يجري النفع بما كتبته إن سبحانه سميع مجيب.


 كتبه الفقير إلى رحمة ربه
عمر بن الشيخ موفق النشوقاتي
غفر الله له وللمسلمين
ليلة الجمعة

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 3950

 تاريخ النشر: 11/03/2008

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1418

: - عدد زوار اليوم

7448613

: - عدد الزوار الكلي
[ 52 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan