::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> دراسات وأبحاث

 

 

ركائز تاريخية القرآن عند العلمانيين (1): أسباب النزول

بقلم : د. أحمد محمد الفاضل  

 

لقد حُفَّ مبحث (أسباب النزول) بكثير من الشبهات والشوائب التي حاول كثير من أعداء الإسلام وخصومه قديماً وحديثاً أن يصوبوا منها إلى نحر الشريعة سهامهم المسمومة...

وأهم الثغرات التي حاول المشككون الدخول منها:

  أولاً: إهمال توثيق الأسانيد، أي: ترك تمحيص الروايات الواردة.

  ثانياً: عدم الدراسة النقدية لهذه الروايات غالباً.

  ثالثاً: إغفال سياق الآيات عند ذكر سبب النزول.

 

  رابعاً: الغلو والمبالغة في البحث عن أسباب نزول لآيات، لا تحتاج إلى سبب؛ لأنها من الأمور العامة، كما نجده في كتب التفسير وكتب أسباب النزول. [1]

 

تعريف أسباب النزول:

قال الإمام السيوطي في تعريف سبب النزول بأنه: ((ما نزلت الآية أيام وقوعه))

 

، وعرفه الدكتور محمد أبو شهبة – رحمه الله تعالى – بقوله: ((هو ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه، أو مبينة لحكمه أيام وقوعه)). [2]

 

(   )

والمعنى أنَّ حادثة وقعت، أو سؤالاً وجه إلى النبي r، فنزل الوحي بتبيان ما يتصل بهذه الحادثة، أو بجواب هذا السؤال، وذلك مثل ما حدث بين الأوس والخزرج من خصومة بسبب تأليب اليهود العداوة بينهما، فقد نزل عقبها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ اْلَّذِينَ أُوتُواْ اْلْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ..﴾ [آل عمران/100].[3]

 

وسواء أكان هذا السؤال يتعلق بأمر مضى مثل قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي اْلُقَرْنَيْنِ﴾ [الكهف/83] أم يتصل بحاضر مثل قوله تعالى: ﴿وِيَسْأَلُونَكَ عَنِ اْلرُّوحِ﴾ [الإسراء/85] أم يتصل بمستقبل، وذلك مثل قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ اْلسَّاعَةِ﴾[الأعراف/187]. [4]

 

أغاليط العلمانيين في أسباب النزول

  أغاليط العلمانيين في أسباب النزول كثيرة ومتعددة، لكنَّها متهافتة عجفاء، وسأقف في هذا البحث عند أهمها وأشهرها، فمن ذلك:

 

1 – زعمهم بأنَّ كل آية نزلت على سبب:

  يدعي العلمانيون أنَّ كل آية من كتاب الله تعالى، نزلت على سبب، فآيات القرآن التي تنوف على ستة آلاف آية كلها نزلت على أسباب وحوادث بزعمهم!! وربما استثنى بعضهم قليلاً من الآيات فقط.

 

  يقول المستشار محمد سعيد العشماوي في ذلك: ((كل آيات القرآن نزلت على الأسباب – أي لأسباب تقتضيها – سواء تضمنت حكماً شرعياً أم قاعدة أصولية أم نظماً أخلاقية)).[5]

  وهذا الادعاء العريض يقول به الدكتور نصر حامد أبو زيد، لكنَّه يستثني بعض الآيات فيقول بأنها نزلت ابتداء دون سبب، وهي قليلة جداً بزعمه!.

  يقول: ((إنَّ الحقائق الامبريقية المعطاة عن النص تؤكد أنَّه نزل منجماً على بضع وعشرين سنة، وتؤكد أيضاً أنَّ كل آية أو مجموعة من الآيات نزلت عند سبب خاص استوجب إنزالها، وأنَّ

 

الآيات التي نزلت ابتداء – أي دون علة خارجية – قليلة جداً..)). [(الحقائق الامبريقية): هي الحقائق المستخلصة من دراسات واقعية وميدانية وتطبيقية.] [6]

وهذا الادعاء الزائف – الزعم بأنَّ كل آية نزلت على سبب – اغتَّر به بعض الكاتبين ووقعوا في شركه، منهم المفكر الفرنسي الماركسي روجيه غارودي الذي اعتنق الإسلام فيما بعد، وسَّمى نفسه (رجاء)، إذ أطلق العنان لقلمه ليخط كتباً ودراسات في العلوم الإسلامية العميقة التي لا يتأتى لكل أحد أن يكتب فيها، كما هو الشأن في كل علم يحتاج إلى تخصص... هذه الدراسات أوقعته في حفر الأخطاء العلمية، وكان جديراً به أن يكون عنها بمنأى...

 

في هذا الصدد يقول جارودي: ((إنَّ الله في القرآن كما في التوراة والأناجيل، يكلم الإنسان في التاريخ. إنَّ كبار المفسرين الأوائل للقرآن كالطبري، يُذكِّرون بالظروف التاريخية التي نزلت فيها كل آية. والمقصود دائماً هو جواب عيني من الله عن مسألة كانت أمة النبي تطرحها عليه... إنَّ كل آية من القرآن هي جواب إلهي عن مسألة ملموسة...)).[7]

ولا بد لنقض هذه الأبطولة من التذكير بأن آيات القرآن على قسمين:

  1 – ما نزل على سبب.

 

  2 – ما نزل ابتداء من غير سبب.[8]

ووراء هذا التقسيم حكمة بالغة، فإنَّ القرآن الكريم كتاب هداية للبشرية جمعاء يهديها للتي هي أقوم، وهذا يتطلب ابتداء التشريعات وسنَّها انطلاقاً من حاجة الإنسان باعتبار كونه بشراً بعيداً عن معاينته نزول الوحي أو عدم ذلك.

فعالمية الإسلام وديمومة تشريعاته تستوجب التخفيف من التصاق أحكامه بحقبة معينة، أو أمة بذاتها.

 وواقع نزول القرآن الكريم يشهد بذلك، فإنَّ عامة ما نزل فيه لم يتوقف على سبب، ما ذلك إلا لأنَّ رسالة هذا الكتاب العظيم أن يرشد الإنسانية إلى سعادتها في الآخرة والأولى، بعيـداً عن خصائص الجماعة الأولى من المؤمنين الذين نزل الوحي بلغتهم، وعاينوا نزوله، وعاشوا مع رسول الله r مبلغ الوحي.

  وليس لما نزل من القرآن على سبب مزيد مزية في وجوب امتثاله على ما لم يرتبط بمثل ذلك ونزل ابتداءً، فإنَّ الصحابة رضوان الله عليهم عاشوا حياة القرآن في جوانب سلوكهم كلها، وتفاعلوا مع أوامره ونواهيه كلها، يستوي في ذلك ما نزل على سبب، وما لم يتوقف نزوله على سبب، فكان القرآن دليلهم إلى الحياة الطيبة في كل آية من آياته.

 

  وما تتميز به الآيات النازلة على سبب هو فيما تحدثه معرفة أسباب نزولها من تأثير في فهم معانيها وبيان المراد منها، أو نحو ذلك مما هو مبسوط في فوائد معرفة أسبابها.[9]

  بعد هذا الذي تقدم أقول:

  هل يصح ما يدعيه العلمانيون من أنَّ كل آية من آيات القرآن لها سبب نزول كما قال المستشار العشماوي؟ أو ما ادعاه نصر أبو زيد من أنَّ ما نزل دون سبب قليل جداً؟.

إنَّ الجواب الإحصائي الاستقرائي الذي يدفع هذا الافتراء الباطل، تقدمه كتب أسباب النزول نفسها، تلك الكتب التي جمعت كل روايات أسباب النزول، حتى الواهي منها، فالواحدي قد روى أسباب نزول لـ /472/ آية من مجموع آيات القرآن البالغة /6236/ آية، أي ما نسبته 7.5% من آيات القرآن الكريم، بينما نجد السيوطي وهو الذي عرف بالاستكثار قد جمع في كتابه لباب النقول /888/ آية، أي ما نسبته نحو 14% من آيات القرآن العظيم!!.

 

فأين هذا الإحصـاء مما يدعيه هـؤلاء العلمـانيون من أنَّ كل الآيات أو معظمها نزلت على سبب؟. [10]

  وظاهر من صنع العلمانيين هذا، أنَّ مقصدهم من وراء التعلق بأسباب النزول، هو تخصيص الأحكام التشريعية القرآنية بأسباب، ولو كانت وهمية، وتعليقها بوقائع، ولو لم تتعلق بها حقيقة، وذلك لطي صفحة التشريع القرآني، ونقل سلطة التشريع وحاكميته نقلاً كاملاً من الله U إلى الناس...!!. [11]

(   )

 

  ويتصل بالزعم المتهافت السابق ما يذكره محمد سعيد العشماوي بقوله: لقد حرص الصحابة والتابعون على معرفة أسباب التنزيل، فإذا غُم عليهم سبب تنزيل آية، سكتوا عن تفسير ما لم يعرفوا له سبباً، وذلك اتباعاً للمنهج الذي وضعه القرآن وشرحه ابن عباس وانتهجه المسلمون الأوائل في تفسير آياته، وهو ربط كل آية بأسباب التنزيل، وتفسيرها على أساس الوقائع التي أُنزلت من أجلها والظروف التي قصدت حكمها.... [12]

 

  فهل يدعو العشماوي إلى أن لا يفسر من آيات القرآن سوى نسبة 7.5% في الحد الأدنى، أو 14% في الحد الأقصى، ويترك تفسير ما لم تُرْوَ فيه أسباب نزول، وهو أكثر من تسعة أعشار القرآن الكريم؟! كما ادعى على الصحابة والتابعين أنهم لم يفسروا من كتاب الله سوى هذه النسبة، وسكتوا عمَّا عداها... بل ونهوا عن تفسير ما لم يرد فيه سبب نزول!!. [13]

 

2 – طعنهم في روايات أسباب النزول، والتشكيك فيها:

إن خُلاصة منهج العلمانيين في الأحاديث النبوية: أنهم اعتباطيون يستدلون بالحديث، إن كان يوافق هواهم ولو كان موضوعاً ، ويردون الصحيح إن كان يخالف مبتغاهم، ولو كان متواتراً.

  وروايات أسباب النزول ما هي إلا جزء من الأحاديث التي نقلت، منها الصحيح ومنها الضعيف، ومنها ما ليس له أصل.

 

3 – التشكيك في مقولة : العلم بأسباب النزول سبيله النقل :

 

وهذا ما يقوله نصر أبو زيد حيث ينتقد علماء القرآن؛ لأنهم تصوروا أنَّ العلم بأسباب النزول لا سبيل إليه إلا بالنقل والرواية، ولا مجال للاجتهاد والاستنباط. [14]

 

  وهذا الذي ينتقده نصر أبو زيد على علماء القرآن، ممَّا لا خلاف فيه بينهم؛ لأنَّ روايات أسباب النزول نصوص حديثية، تخضع من حيث ثبوتها لقواعد علم الحديث ومن هنا كان سبيل معرفتها الرواية والسماع، قال الواحدي: ((ولا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسـماع ممَّن شـاهدوا التنزيل ووقفـوا على الأسبـاب، وبحثوا عن علمها وجدّوا في الطِّلاب..)).[15]

ثم يدعي نصر حامد أبو زيد أنَّ أسباب النزول يمكن الوصول إليها من داخل النص!!.

يقول في هذا الصدد: ((إنَّ أسباب النزول ليست سوى السياق الاجتماعي للنصوص، وهذه الأسباب كما يمكن الوصول إليها من خارج النص سواء في بنيته الخاصة، أم في علاقته بالأجزاء الأخرى من النص العام.

ولقد كانت معضلة القدماء أنهم لم يجدوا وسيلة للوصول إلى أسباب النزول إلا الاستناد إلى الواقع الخارجي والترجيح بين المرويات، ولم يتنبهوا إلى أنَّ في النص دائماً دوالَّ يمكن أن يكشف تحليلها عن ما هو خارج النص، ومن ثم يمكن اكتشاف أسباب النزول من داخل النص، كما يمكن اكتشاف دلالة النص بمعرفة سياقه الخارجي.

 

إنَّ تحليل النصوص واكتشاف دلالتها عملية معقدة لا يجب أن تسير في اتجاه واحد من الخارج إلى الداخل، أو من الداخل إلى الخارج، بل يجب أن تسير في حركة مكوكية سريعة بين الداخل والخارج)). [16]

 

ونصر أبو زيد يشير في كلامه الأخير في الحركة المكوكية بين الداخل والخارج إلى قانون وحدة الأضداد وصراعها في الفكر الماركسي.[17]

 

وهذه العلاقة الجدلية في أسباب النزول بين الوحي النازل والفكر والمصلحة أي الصاعد نجدها عند حسن حنفي حيث يقول : ((فلا فرق في أسباب النزول عند القدماء بين من يأتي من أعلى ومَنْ يصعد من أسفل، بين ما يأتي من الوحي وما يصعد من بداهة العقل وإدراك المصلحة كما تحقق ذلك في عمر مُحدَّث الأمة..)).[18]

 

وكما طعن العلمانيون في مقولة أنَّ العلم بأسباب النزول، سبيله السماع والرواية، كذلك طعنوا في أسباب النزول نفسها، وفي رواتها زاعمين أنَّ هذه الروايات أتت متأخرة في عصر التابعين غير مفرقين بين صحيح وسقيم!!.

 

يقول نصر أبو زيد: ((... وإذا كانت رواية الصحابة لأسباب النزول على هذه الدرجة من الثقة والصحة حتى ارتفعت إلى مستوى الأحاديث المسندة، فإنَّ أحداً لم ينتبه أنَّ رواية أسباب النزول نشأت في عصر تال هو عصر التابعين، إذ لم يكن ثمة حاجة في عصر الصحابة للحرص على رواية الوقائع التي نزلت بسببها الآيات آية آية أو واقعة واقعة، فلم يكن الواقع العلمي يحتم على معاصري الوحي وشهوده رواية الوقائع والأسباب بالتفصيل... هذا بالإضافة إلى أنَّ عامل الزمن وما يتبعه من نسيان، كان له أثره دون شك في معرفة الصحابي، أو بالأحرى في تذكره لسبب النزول... وهكذا صار معيار تحديد سبب النزول الثقة بالرواة، وأدخلت مرويات أسباب النزول منطقة الأحاديث النبوية، وذلك دون إدراك لمعضلات النقل والرواية ودوافعها. وإذا أضفنا إلى ذلك أنَّ عصر التابعين كان عصر الخلافات السياسية والفكرية، أدركنا أنَّ تحديد (أهل الثقة) من الرواة، تمَّ على أساس أيديولوجي، انتهى إلى إعطاء سلطة دينية مطلقة في مجال هذه المرويات لبعض التابعين دون بعض)).[19]

وكلامه هذا ليس طعناً في أسباب النزول ومروياتها فحسب، بل طعن في الحديث النبوي كله وفي ثبوته، وهذا غير غريب؛ لأنَّ القرآن لم يسلم من مطاعنهم فكيف بالسنة؟!.

 

4 – ادعاؤهم بأن أسباب النزول تتنافى مع أزلية القرآن:

وخلاصة قولهم في هذه القضية:

أنَّ القرآن إن كان أزلياً، فما معنى نزوله على أسباب خاصة؟ فأزلية القرآن تتنافى مع كونه نزل على أسباب، ونزوله على أسباب إذن يرد القول بأزليته، وهم لا يودون أن يصرحوا بأنَّ هذا القرآن ليس جديراً بالقداسة، بل حري به أن يخضع لموازين النقد..

 

يقول محمد سعيد العشماوي: ..ففي قولهم إنَّ القرآن كلام الله الأزلي، وجد معه منذ البدء، وأنّ حروفه وألفاظه هي التي خلقت فيما بعد عندما تنزلت على النبي... وأنَّ القرآن بجميع آياته خلق منذ الأزل، وأنَّ الرسالة المحمدية، كانت مناسبة ليتنزل فيها على النبي آية آية، نقل لما قاله علماء اللاهوت المسيحي عن السيد المسيح، بأنَّه كلمة الله الأزلية غير المخلوقة!!.[20]

وهذا الاجتراء الذي جرَّ العشماوي وزمرته إلى الافتراء، اجترار لفكرة استشراقية معروفة، سطا عليها العلمانيون، وادعوها لأنفسهم، وهي متهافتة، لأنَّ أزلية القرآن لا تتنافى ولا تتناقض مع كونه نزل منجماً يصحح الأخطاء ويقوم الاعوجاج ويواكب الحوادث ليصلحها، وهذا التنزل المنجم لا يتعارض مع ترتيبه سوراً وآيات، فالقرآن أزلي، علم الله نزوله في زمانٍ ما، ومكانٍ ما، وقدّر أن يكون هناك أسباب لنزول بعض آياته المحكمة، وأيُّ استحالة، بل أي صعوبة في هذا؟ نحن نرى اليوم أنَّ من البشر مّنْ يخطط لسنين مستقبلة، بل نجد أنَّ الاستعمار، كان يخطط للشعوب الضعيفة تخطيطاً مرحلياً دقيقاً، بحيث كان يتحقق جل ما كان يتوقعه.[21]

 

 

5 – القول بأن أسباب النزول للكتاب لا للقرآن:

وآخر ما نقف عنده من هذه الشبه ما ذهب إليه المهندس المدني محمد شحرور من أنَّ أسباب النزول منحصرة في الكتاب لا في القرآن؛ لأن القرآن ليس له أسباب نزول!!، وذلك تمشياً مع

 

تفريقه بين الكتاب والقرآن ، حيث سَّمى كتابه (الكتاب والقرآن).[22]

 

يقول في هذا الصدد: ((بما أنَّ القرآن عِلْم بالحقيقة الموضوعية (الموجودة خارج الوعي الإنساني) وفيه قوانين الوجود وقوانين التاريخ، نستنتج بالضرورة أنَّ له وجوداً مسبقاً عن التنزيل، لذا قال تعالى: ﴿قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظِ﴾ [البروج/21-22] وهي القوانين العامة الناظمة للوجود منذ الانفجار الكوني الأول وحتى البعث والجنة والنار والحساب، وأنه في إمام مبين، وذلك بالنسبة لأحداث الطبيعة الجزئية (ظواهر الطبيعة) المتغيرة وأحداث التاريخ بعد وقوعها، ولم يقل ذلك أبداً عن أم الكتاب ولا عن الذكر ولا عن الفرقان... ولهذا فإنَّ القرآن ليس له أسباب نزول وقد قال عنه إنَّه أنزل دفعة واحدة عربياً في شهر رمضان: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ اْلَّذِي أُنزِلَ فِيهِ اْلْقُرْءَانُ﴾ [البقرة/185] ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ اْلْقَدْرِ﴾ [القدر/1] )).[23]

 

  وهذا التفريق بين القرآن والكتاب عبث ما بعده عبث إلا عبث الوليد بالقرطاس.[24]

 

تفسير الآيات بأسباب نزولها

تتفق كلمة العلمانيين كافة على ربط الآيات وتعليقها من حيث العمل بأسباب نزولها، وهذا تابع لتصورهم الزائف بأنَّ كل آية من آيات الذكر الحكيم، نزلت على سبب، وبهذا التصور الباطل، وبذلك التعليق والربط، تتحقق التاريخية لآيات القرآن كلها، وخاصة آيات الأحكام.

 

فالنص عندهم نزل في فترات زمنية جواباً عن مشكلات متنوعة، لكل منها في الفترة الخاصة بها فضاؤها المعرفي الخاص، وهو غير ثابت، وقد علّمنا هذا الفضاء أنه لا يحكم برأي أملته فترة معينة على فترة لاحقة مغايرة، فلا بد من أن تفهم هذه الفترة ومشكلاتها المغايرة بفهم مغاير يؤدي إلى رأي خاص فيها.[25]

 

وأهم ما يؤكد تاريخية الآيات برأيهم أسباب النزول؛ لأنَّ هذا العلم يعد من أهم العلوم الدالة والكاشفة عن علاقة النص بالواقع وجدله معه، فهو يزودنا من خلال الحقائق التي يطرحها علينا بمادة جديدة ترى النص استجابة للواقع تأييداً أو رفضاً وتؤكد علاقة الحوار والجدل بين النص والواقع.[26]

وبتعبير الطيب تيزيني: النص القرآني يمثل بنية مفتوحة يسطَّر منجماً، وفق الأحداث والمناسبات التي عاشها النبي ورافقها، واتخذ منها موقفاً، وقد عمل ذلك على إبراز أنَّ النص المنزل عبر الوحي ذو مساس مباشر وعيني بأحوال المؤمنين والكفار معاً بحيث أنَّ محمَّداً لم يكن بعيداً عنه، أي لم يكن رسولاً فحسب يبلغ به ليس إلا، بل إنَّ بعض المفسرين لأسباب النزول يوردون مواقف يتضح منها أنَّ محمَّداً كان هو نفسه يستحث الوحي على النزول فينزل متأخراً أو مبكراً كما حدث حين طالبه المكيون بالإجابة عن أسئلة طرحوها عليه عن فتية الدهر وعن الرجل الطّواف وعن الروح... إنَّ ذلك مجتمعاً ومن موقع سياقه التاريخي والتراثي، أظهر القرآن وكأنَّه سيرة ذاتية للنبي، تتحدث عن عملية التكوين النفسي والأخلاقي والديني والسياسي... التي أثمرت شخصيته النافذة على نحو ملفت ولقد كان من شأن ذلك ومن نتائجه الحافزة أن أخذت أرهاط من الفقهاء والكتاب الإسلاميين تحاول استنباط أمر أرادوا له أن يكون بمثابة موقف شرعي أو حكم فقهي.

هذا الأمر يتمثل في النظر إلى أنَّ: قاعدة تفسير آيات القرآن وفقاً لأسباب تنزيلها تؤدي إلى واقعية هذه الآيات وتنتهي إلى تاريخيتها، وتفرض ربطها بالأحداث، ومن ثم ينبغي تفسير القرآن بأسباب تنزيله لا بعموم ألفاظه.[27]

ومن أبرز مَنْ يرفع عقيرته ويدعو إلى تفسير الآيات بأسباب نزولها المستشار محمد سعيد العشماوي الذي يبدأ فكرته هذه بالحكم على كل آيات الأحكام بالنسبية لا الإطلاق، حيث يقول: فأحكام التشريع في القرآن ليست مطلقة ولم تكن مجرد تشريع مطلق... يعني أنَّ كل آية تتعلق بحادثة بذاتها، فهي مخصصة بسبب التنزيل، وليست مطلقة.. [28]

وهو يعد تعلق الآية بالحادثة، وكذلك اختصاص الحكم بسبب النزول مبدأ من مبادئ السياسة الشرعية‍‍‍!!.

وإذا كان التاريخ قد طوى صفحات الوقائع والحوادث التي سبَّبت نزول الأحكام في الآيات، فإنَّ طي صفحات المسَبَّبات – أي الأحكام – حتمي، لارتباطه بطي صفحة الأسباب في النزول... وهذا هو التنظير لما سمَّاه العشماوي انتقال الشرعية – وقد اجترأ وسماه انعدام الوحي [29] - انتقال الشرعية من الله إلى الناس!! فلم يعد القرآن مصدراً للأحكام التشريعية، بعد زوالها بزوال الأسباب التي تعلقت واختصت بها...

 

  أمَّا ما تعارفت عليه الأمة، وأجمعت عليه الإجماع المعصوم من عموم الآيات وعدم تعلقها بأسباب نزولها، فإنَّ العشماوي يرى فيه منهجاً فقهياً مخالفاً لمبادئ السياسة الشرعية؛ لأنه منهج فقهي لا شرعي، ابتدعه فقهاء ((فترات الظلام الحضاري والانحطاط العقلي))!! [30]

إنَّ ربط الأحكام التشريعية القرآنية بأسباب نزولها، وقصرها على مَنْ نزلت فيهم، يعني تاريخية المضمون ونسخ المفهوم في هذه الآيات وبقاء اللفظ دون وظيفة – إلا التلاوة التعبدية – الأمر الذي تتساوى فيه النصوص القرآنية عندئذ مع النصوص الميتة والدارسة!!.

  فهل هذا – برأي العشماوي – هو نوع الحفظ الذي أراده الله للقرآن عندما قال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اْلِّذكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر/9]؟!.

 

القرآن هو الوحي الإلهي الخاتم، ولأنه كذلك، فلا بد أن يكون خالداً، في ألفاظه وأحكامه، ولهذا كان عهد الله تعالى بحفظه، ليظل الفاعل في الهداية، والحجة على الناس، والمعجزة المتحدية دائماً وأبداً... فهو نور الله المحفوظ، لا حفظاً متحفيَّاً ليتذكر الناس به تاريخ التنزيل – شأن عاديات المتاحف وأنتيكات التاريخ، وإنما ليتم الله هذا النور الذي أنزل بإظهاره على الدين كله ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اْللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اْللهُ إِلا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ اْلْكَافِرُونَ * هُوَ اْلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِاْلْهُدَى وَدِينِ اْلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اْلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ اْلْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة/32-33] فالحفظ الإلهي للقرآن، حفظ لكمال عمله ونمائه وتمامه... [31] لكن العلمانيين يريدون أن يصلوا إلى غاية هي أن القرآن الكريم تأثر بالبيئة في كل شيء، حتى في أوصافه للجنة والنار وما فيهما، وإذا كان كذلك، فتاريخية القرآن يلزم فيها أنَّ ما جاء فيه لا ينبغي أن يتعدى العصر الذي نزل فيه... والمسلمون إذن ليسوا ملزمين بما في هذا القرآن الكريم من أحكام وآداب، وحجتهم أنَّ هذه الأحكام لكل منها سببه الذي نزل من أجله وهذه الأسباب، كانت نتيجة بيئة خاصة.. وعلى هذا فلا ينبغي للقرآن الكريم أن تتجاوز قيمه وآدابه وأحكامه عصر النبوة من جهة، وشبه الجزيرة العربية من جهة أخرى... [32]

 

هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب ؟

 

يقصد بعموم اللفظ أن يأتي الجواب النازل بصيغة أعم من السبب، تستوعب أفراداً متعددين، ويراد بخصوص السبب أن يكون سبب النزول أمراً خاصاً، بالنسبة إلى الكلام العام النازل فيه.[33]

 

والمسألة المفترضة هي: هل يُقصَر الحكم الوارد في النص العام على سبب نزوله إذا كان خاصاً، أو يشمل ما شابه سبب نزول الآية من الوقائع؟. [34]

 

مثال ذلك آيات الظهار التي نزلت في مظاهرة أوس بن الصامت من خولة بنت ثعلبة. [35]

وهذا النوع من أسبـاب النزول هو المراد بقولهـم: هل العبرة بعمـوم اللفظ أو بخصوص السبب؟.

ومحلُّ النزاع في حالة ما إذا جاء النص القرآني عاماً، وكان سبب نزوله خاصاً، ولم تقم قرينة على تخصيص النص بدليل أو بسبب نزوله.

ذهب الجمهور إلى أنَّ الحكم يتناول كل أفراد اللفظ بما في ذلك أفراد السبب نفسه.

 

ورأت قلة أنَّ العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ.[36]

 

ومعنى ذلك أنَّ لفظ الآية مقصور على الواقعة التي نزل النص من أجلها، أمَّا ما يحتمله النص من غير أفراد السبب فلا يعلم حكمه من لفظ الآية، إنما يعلم بدليل مستأنف، وهذا الدليل قد يكون القياس إذا استوفى شرطه. [37]

 

وقد أشار ابن تيمية إلى حقيقة الخلاف بين الفريقين فقال: ((وقد يجيء كثيراً من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في هذا، لا سيما إن كان المذكور شخصاً كأسباب النزول المذكورة في التفسير  كقولهم: إنَّ آية الظهار نزلت في امرأة ثابت بن قيس بن شماس... [38]

 

فالذين قالوا (أي العبرة بخصوص السبب) لم يقصدوا أنَّ حكم الآية مختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإنَّ هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب، هل يختص بسببه؟ فلم يقل أحد من علماء المسلمين إنّ عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص فتعم ما يشبهه ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ. والآية التي لها سبب معين إن كانت أمراً أو نهياً فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممَّن كان بمنزلته، وإن كانت خبراً بمدح أو ذم فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته)). [39]

ويرى بعض العلماء أنَّ هذا الخلاف في هذه القضية لم يكن في العصور الأولى، عصر الصحابة والتابعين، وإنما كان بعدهم.

يقول الدكتور فضل عباس في هذا: ((ويقيني أنَّ الخلاف في هذه القضية لم يكن في الأزمنة الأولى، أزمنة الصحابة والتابعين y، ذلكم أنَّ هذا الإسلام الذي أكرمنا الله به، الدين العام الخالد دين جماعي جاء يسوّي بين الناس ليلغي بهذه المساواة كثيراً من الميزات والمكتسبات التي كانت لبعض الأفراد والفئات، فقريش ليس لها الحق في أن تمتاز عن غيرها مع أنهم أهل الحرم.         

لذا نجد الكتاب الكريم والسنة المطهرة صححا لهم بعض العبادات التي كانوا يحاولون الامتياز بها عن غيرهم كما كانوا يفعلون في أيام الحج، لا يقفون في عرفة فجاء قوله تعالى يحذرهم، فقال: ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ اْلنَّاسُ﴾ [البقرة/199] كما منع الكبير في الأسرة أن يستأثر بالتركة ورئيس القبيلة من بعض الحقوق التي كانت له.

ومن هنا كانت أحكام الكتاب والسنة لا تخص أحداً دون أحد، والعرب الذين لم يتعوّدوا هذا الأمر كانوا يظنون في أحيان كثيرة أنَّ الحكم الذي شرّع لهم هو خاص بهم، فكانوا يتساءلون أهو لنا أم لغيرنا من الناس؟ نجد هذا مثلاً في حديث العمرة وقد دخلت في الحج: ألنا خاصة يا رسول الله؟ فيقول: إلى الأبد. [40]

 

لذا كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب في فهم التشريعات وغيرها في الكتاب والسنة وهو فقه الصحابة جميعاً.

 

 

 من ذلك ما جاء فيه عن كعب بن عجرة رضي الله عنه حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه ، وقد كانت هوامُّهُ تؤذيه ، ونزل قوله تعالى : ﴿فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة/196] وقال : ((فنزلت فيَّ خاصة وهي لكم عامة[41] ...)) [42]

إذن لم يقل أحد من علماء المسلمين إنَّ أحكام الآيات التي نزلت على سبب مختصة بأولئك الذين نزلت فيهم، فهذا لا يقوله مسلم، ولا عاقل على الإطلاق!.

فما رأي العلمانيين في هذا الذي اتفق عليه علماء الإسلام؟ وما قولهم في قاعدة:

العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ؟.

 

العلمانيون كلهم في هذه القضية يرمون عن قوس واحدة، فهم يعلقون الآيات بأسباب نزولها، ويطعنون في القاعدة التي ذكرناها ويرون أنها من ابتداع الفقهاء في فترات الظلام الحضاري والانحطاط العقلي.[43]

يقول نصر حامد أبو زيد: ((إنَّ الخطاب الديني المعاصر لا يستطيع أن يتجاهل هذين الاجتهادين من اجتهادات عمر (في المؤلفة قلوبهم وحد السرقة) ومع ذلك يظل إصراره طاغياً على أن يتجاهل مقاصد الشريعة التي لا يمكن أن تبرز إلا من خلال دراسة علاقة النص بالواقع وذلك بالرغم أنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.. والتمسك بعموم اللفظ وإهدار خصوص السبب في كل نصوص القرآن من شأنه أن يؤدي إلى نتائج يصعب أن يسلِّم بها الفكر الديني.

 

إنَّ اخطر هذه النتائج للتمسك بعموم اللفظ مع إهدار خصوص السبب أنه يؤدي إلى إهدار حكمة التشريع في قضايا الحلال والحرام في مجال الأطعمة والأشربة. هذا إلى جانب أنَّ التمسك بعموم اللفظ في كل النصوص الخاصة بالأحكام يهدد الأحكام ذاتها)). [44]

 

ثم ضرب نصر أبو زيد مثالاً بتحريم الخمر والتدرج في ذلك ثم قال: ((هل من المنطقي بعد ذلك أن يتمسك العلماء بعموم اللفظ دون مراعاة لخصوص السبب؟ إذا كان عموم اللفظ هو الأساس في اكتشاف دلالة النصوص، لأمكن أن يتمسك البعض بالآية الأولى أو بالآية الثانية، ولأدّى ذلك في النهاية إلى القضاء على التشريعات والأحكام كلها)). [45]

والناظر في كلام نصر أبو زيد يسترعي انتباهه حرصه على الشريعة وأحكامها من الضياع إذا ما تمسك العلماء بعموم اللفظ!! وهل ضياع الشريعة وأحكامها إلا بتاريخيتها التي يدعو إليها نصر أبو زيد وطائفته؟!.

تعطيل القرآن وأحكامه بتعليقها بأسباب النزول والأشخاص الذين نزلت فيهم، إحياء للقرآن وحماية لأحكامه من الاندثار، بينما العمل بتلك الأحكام وعمومها تهديد للأحكام وإهدار لحكمة التشريع!!.

أيُّ عاقل عنده مُسكة من عقل يصدّق هذا الادعاء؟.

 

وأمَّا طيب تيزيني، فيدعي أنَّ القول بعموم اللفظ، فيه لوي لعنق التاريخ والواقع، وفصل للقرآن عنه، وفصمه عن التاريخ!.[46]

 

 

ومن أبرز الطاعنين في عموم اللفظ المستشار محمد سعيد العشماوي الذي يبدأ مغامرته بالحكم على كل أحكام التشريع بالنسبية، فينفي عنها الإطلاق، يقول: فأحكام التشريع في القرآن ليست مطلقة ولم تكن مجرد تشريع مطلق [47] ... يعني أنَّ كل آية تتعلق بحادثة بذاتها، فهي مخصصة بسبب التنزيل، وليست مطلقة... [48]

  ويقول عن هذا الذي أجمعت عليه الأمة من القول بعموم اللفظ إنَّه: ((منهج فقهي، وليس منهجاً شرعياً، أي إنه منهج قال به فقهاء، ولم يرد لا في القرآن ولا في السنة النبوية، بل لم يقل به أحدٌ من الصحابة والتابعين الأوائل)). [49]

 وللباحث في هذا الكلام الطافح بالمغالطات وقفات – في بيانها وتعريتها رد على جميع العلمانيين الذين يشاركون العشماوي في باطله هذا – منها:

  - اتهامه علماء الأمة ومذاهبها بأنَّ منهجها فقهي غير شرعي وأنه لم يرد في القرآن، ولا في السنة،  بينما يضفي الشرعية والأصولية على دعواه! فهل لدعواه هذه سند في القرآن والسنة؟.

  - زعمه أن الصحابة والتابعين، كانوا مع تخصيص الأحكام والآيات بأسباب نزولها، وليسوا مع عموم اللفظ، فمن الواجب أن نسأله:

  هل الآيات التي نزلت لأسباب، التزم بها واختص الذين نزلت فيهم وحدهم دون الصحابة الآخرين؟.

  فمثلاً:

 

  1 – آية الطلاق: ﴿اْلطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة/229] نزلت في رجل عزم على أن يطلق امرأته، حتى إذا اقتربت نهاية عدتها، راجعها ثم عاود الطلاق والمراجعة، وذلك حتى يحبسها فلا تبين منه. [50]

  هل هذه الآية تشريع عام لعموم اللفظ أو كانت خاصة بالرجل والمرأة اللذين نزلت فيهما؟.

 

  2 – وآية: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اْللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ [النساء/93] – وهي قد نزلت في رجل من الأنصار قتل أخا مقيس بن ضبابه، فأعطاه النبي الدية، فقبلها، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله  [51] - أهي خاصة بمَن نزلت فيهم؟ أم هي تشريع عام مأخوذ عمومه من عموم ألفاظها؟.

 

 

ومن عجيب شأن محمد سعيد العشماوي التناقض في آرائه، فهو يقدم رأيين متناقضين في كتاب واحد، حيث يقول بعموم الآيات التي نزلت في أهل الكتاب للمسلمين، مثل آية النهي عن الغلو في الدين، ولا يجعلها خاصة بأهل الكتاب التي نزلت خطاباً لهم – ربما لأنه يريد الاستفادة منها في محاربة جماعات الغلو الإسلامية! – فيقول [52] : ... وفي خطاب أهل الكتاب بالقرآن ما قد يعتبر مثلاً للمؤمنين ﴿قُلْ يَا أَهْلَ اْلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ﴾ [المائدة/77]، لكنه بعد ثلاث صفحات من الكتاب نفسه، يأبى أن يعمم تحذير القرآن لأهل الكتاب من ترك الحكم بما أنزل الله؛ لأنه لا يريد للمسلمين الحكم بالقرآن!!. [53]

(   )

  يقول العشماوي: ((ومؤدَّى الرأي الصحيح – الصادر عن النبي r وعن المفسرين العمد الثقات – أنَّ آيات القرآن: ﴿وَمَنْ لمَّ ْيَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اْللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ اْلْكَافِرُونَ... اْلظَّالِمُونَ ... اْلْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة/44-45،47] إنَّما أنزلت في أهل الكتاب... وليس لأمة الإسلام منها شيء، ولا يُخاطب بها حاكم مسلم أو شعب مسلم أو فرد مسلم)). [54]

 يقول الدكتور محمد عمارة معلقاً على كلام العشماوي هذا: ((فالنهي لأهل الكتاب عن الغلو عند العشماوي مقبول تعميمه على المسلمين، أمَّا النهي لأهل الكتاب – عن ترك الحكم بما أنزل الله، فهو – عند العشماوي – خاص بأهل الكتاب، ولا شأن فيه لحاكم مسلم أو شعب مسلم أو فرد مسلم.

 

إنَّ الرجل قد تفوق على ما سمي بالنظام الدولي الجديد في ازدواج المكاييل والمقاييس التي تقاس بها الأمور!!)) .[55]

لقد جعل العلمانيون وقائع أسباب النزول منشئة للآيات، وعلة في تشريع الأحكام، والحق ما هي إلا مناسبات للنزول تساعد على فهم الآيات.

فالسؤال عن الأهلّة أو الخمر أو الروح، ليس المنشئ للآيات، ولا للأحكام الواردة فيها وإنما هو مقارن للوحي بالآيات المعبرة عن سنن الله وأحكامه في هذه الآيات من أمر الله...

 

وهذا عكس التصورات والأفكار الإنسانية التي ينشئها الواقع ويحدد لها المضامين.... وربط النص القرآني بسبب، وتعليق الأحكام التشريعية بوقائع نزولها منهج مادي ماركسي، يجعل النص ثمرة للواقع وتابعاً له ومعلولاً به وجوداً وعدماً!!.[56]

 

وأخيراً : أيجوز أن نهدر المعاني والدلالات القطعية للنص القرآني القطعي الثبوت لسبب نزول هو حديث آحاد ظني الثبوت؟ أم أنَّ الأدق والأوفى والأشمل، هو الجمع بين معاني الألفاظ ودلالاتها مع الاستعانة بالدلالات التفسيرية لأسباب النزول في إطار السياق القرآني، وعلى ضوء المماثل والمناظر والمشابه من الآيات التي نزلت في الموضوع نفسه؟.[57]

أختم بما قاله الدكتور صبحي الصالح، ونقله عن الكاتب الإسلامي سيد قطب: ((..على أنَّ هذه النماذج الإنسانية المتكررة في كل جيل المتشابهة في كل بيئة – وإن ظهرت كالمتخطية لكل زمان ومكان – خضعت أول ما خضعت لمناسبات وأسباب بتناولها أشخاصاً معينين تناولاً أولياً مباشراً، ولكنَّ في القرآن أنماطاً إنسانية أخرى مهما يجهد المفسرون أنفسهم لتعيين المقصودين بها، لا يهتدوا إلى تعيينها سبيلاً؛ إذ وردت في القرآن حقاً فوق الزمان والمكان والأشخاص، ونزلت ابتداءً – من غير أسباب ولا مقدمات ولا نطاق حاصر ولا محصور – كأنَّها لوحات فنية تصور الجنس الإنساني وحدة كاملة متشابهة أو أفراداً من هذا الجنس تفردت بملامح يحكي بعضها بعضاً.  

ليقل المفسرون ما يحلو لهم في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ اْلإِنسَانَ اْلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَّمْ يَدْعُنَا إِلى ضُرٍّ مَّسَّهُ﴾ [يونس/12]. فإنَّ أحداً منهم لن يستطيع تعيين شخص مقصود بهذه الصورة الحية الفريدة...

 

الإنسان هكذا حقاً: حين يمسه الضر، وتتعطل فيه دفعة الحياة، يتلفت إلى الخلف، ويتذكر القوة الكبرى، ويلجأ عندئذ إليها، فإذا انكشف الضر، وزالت عوائق الحياة انطلقت الحيوية الدافعة في كيانه، وهاجت دواعي الحياة فيه، فلبَّى دعاءها المستجاب، ومرَّ كأن لم يكن بالأمس شيء!)).[58]

ـــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) انظر: إتقان البرهان في علوم القرآن، للدكتور فضل عباس (1/241).

(2) المدخل لدراسة القرآن الكريم (132).

(3) انظر: أسباب النزول، للواحدي (83).

(4) انظر: لباب النقول ( 121، 166) وأسباب النزول (197)، والمدخل لدراسة القرآن (132-33) .

(5) جوهر الإسلام (197). وانظر: سقوط الغلو العلماني، للدكتور محمد عمارة (254) حيث بين اضطرابه وتناقضه في كثير من الآراء والأقوال، وأنَّ سبب ذلك هو الانقلاب الفكري الذي أصابه.

(6) مفهوم النص (دراسة في علوم القرآن) (97) .

(7) الأصوليات المعاصرة: أسبابها ومظاهرها (88) وما بعدها.

(8) انظر: مباحث في علوم القرآن ، لمناع القطان (78).

(9) انظر: أسباب النزول وأثرها في بيان النصوص ، للدكتور عماد الدين رشيد (27-28)

(10) انظر: سقوط الغلو العلماني ، للدكتور محمد عمارة (254-256).

(11) انظر: سقوط الغلو العلماني (253) .

(12) انظر: الربا والفائدة في الإسلام (24-25)، والإسلام السياسي (50-51).

(13) انظر: المصدر السابق (262).

(14) انظر: مفهوم النص (109-110).

(15) أسباب النزول (10).

(16) مفهوم النص (111).

(17) انظر: نقض أوهام المادية الجدلية، للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي (36).

(18) بحث لحسن حنفي في مجلة المعرفة السورية (71) العدد /485/ شباط 2004م.

(19) مفهوم النص (109-111)، وانظر: إتقان البرهان (2/394 .

(20) انظر: أصول الشريعة (87-88) وانظر: سقوط الغلو العلماني، للدكتور محمد عمارة (250) .

(21) انظر: إتقان البرهان (1/362-363).

(22) انظر: الكتاب والقرآن (51-99) والدراسة النقدية له في مجلة عالم الفكر الكويتية لماهر المنجد (المجلد الحادي والعشرون – العدد الرابع – 1993م) .

(23) الكتاب والقرآن (92-93).

(24) انظر: في بيان هذا العبث العابث إتقان البرهان (1/54-55). ويكفي لتقويض باطله العجيب قوله تعالى : ﴿وَأَنْ أَتْلُوَاْ اْلْقُرْءَانَ ..﴾[النمل/92] فهل كان النبي يفرق بين القرآن والكتاب، فيقول: هذا قرآن وهذا كتاب؟‍‍‍!!...

(25) من كلام الشاعر الباطني أدونيس . انظر: جريدة المحرر العربي اللندنية ، العدد /378/ كانون الثاني/2003.

(26) انظر: مفهوم النص، للدكتور نصر أبو زيد (97).

(27) انظر: النص القرآني (213-214)، والإسلام والعصر (104) وهو كتاب فيه حوار بين الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي والدكتور طيب تيزيني.

(28) انظر: معالم الإسلام (120) والإسلام السياسي (51).

(29) انظر: معالم الإسلام (117).

(30) المصدر السابق (64) وانظر كذلك: حقيقة الحجاب وحجية الحديث، للعشماوي "58-59" حيث قال: ((.. والمنهج التقليدي (تفسير الآيات بعموم ألفاظها) هو ذات منهج المتطرفين والإرهابيين ... يؤدي إلى تفسير آيات القرآن الكريم على غير ما أراد التنزيل ...))!!.

(31) انظر: سقوط الغلو العلماني ( 233، 247) . وانظر أيضاً: كيف نتعامل مع القرآن العظيم ؟ للدكتور يوسف القرضاوي (72-75).

(32) انظر: إتقان البرهان، للدكتور فضل عباس (1/356-358).

(33) انظر: أسباب النزول وأثرها في بيان النصوص، للدكتور عماد الدين رشيد (392).

(34) انظر: أسباب النزول، لرشيد (392) .

(35) أخرجه البخاري تعليقاً في التوحيد، )وكان الله سميعاً بصيراً( (1271)، والحاكم عن عائشة في مستدركه (2/481) وصححه، وأقره الذهبي، والواحدي مسنداً (260).

(36) انظر: أدلة كل من الفريقين في: مناهل العرفان (1/126-136) والمدخل لدراسة القرآن الكريم ، للدكتور محمد أبو شهبة (158-161) وأسباب النزول، لرشيد (402-412).

(37) انظر: أسباب النزول، لرشيد (399-400).

(38) بل هو أوس بن الصامت، انظر: تعليق المحقق.

(39) مقدمة في أصول التفسير (37-39).

(40) متفق عليه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، البخاري في التمني، قول النبي لو استقبلت (1245) ومسلم في الحج، حجة النبي (513).

(41) متفق عليه، البخاري في المُحصَر ، ﴿فمن كان منكم﴾(292) ومسلم في الحج، جواز حلق الرأس (499).

(42) إتقان البرهان (1/344-348).

(43) كما عبر العشماوي في كتابه (معالم الإسلام) (64) وانظر: النص الإسلامي، للدكتور عمارة (18).

(44) مفهوم النص (104). وانظر: إتقان البرهان (2/399).

(45) مفهوم النص (104-105).

(46) انظر: الإسلام والعصر (حوار بين الدكتور البوطي والدكتور تيزيني) (126) والنص القرآني (213-214)، (251-252). وهكذا عبر التيزيني وصواب العبارة ((لي العنق)) ؛ لأن الواو في مصدر اللفيف المقرون تقلب ياء وتدغم في الياء التي تليها.

(47) انظر: معالم الإسلام (120).

(48) انظر: الإسلام السياسي (51).

(49) معالم الإسلام (165). وانظر: سقوط الغلو العلماني (234-236).

(50) أخرجه الترمذي من حديث عائشة في الطلاق، الطلاق مرتان (290)، والحاكم في المستدرك (2/279-280) وصححه، وأقره الذهبي، والواحدي في أسباب النزول (58)، وذكره السيوطي في لباب النقول (47).

(51) ذكره الواحدي في أسباب النزول (118) عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. والكلبي هو محمد بن السائب وهو متروك.

(52) انظر: معالم الإسلام (56)، وانظر كتابه الآخر: العقل في الإسلام (47-51).

(53) انظر: سقوط الغلو العلماني (267).

(54) معالم الإسلام (60).

(55) سقوط الغلو العلماني (267-268).

(56) انظر: المصدر السابق نفسه.

(57) انظر المصدر السابق (249-250).

 (58) مباحث في علوم القرآن(162) . وقوله ((الإنسان هكذا حقاً ..)) من كلام سيد قطب في: التصوير الفني في القرآن (217). ويقول الدكتور مصطفى ناصف: ((..لكنَّ اللفظ العام الشامل له حقوقه، وينبغي إذن أن يتسع المعنى ليشمل كل الحالات التي يمكن دخولها في هذا النطاق. هذه الملاحظة مبنية على إدراك خاص عبرنا عنه بقولنا: إنَّ النص البليغ ينبغي ألا يشتبه بالظروف المحيطة به؛ ذلك لأننا في توضيح النص لا نتبين انعكاس البيئة والظروف العقلية والمعنوية عليه، ولا نتخذ منه مجرد مرآة تعكس طائفة من أحوال العرب الأوائل الذين شهدوا نزول القرآن الكريم. وإنما نتناول النص من حيث هو أو من حيث ما تحتمله قوالبه. وهذا يؤدي إلى فكرة غنى النص القرآني بحيث يصح أن يستخرج منه تفسير بعد آخر بحسب تفاوت الأدوات المستخدمة وطبيعتها)). مسؤولية التأويل (34).

 

 

 

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 6349

 تاريخ النشر: 27/09/2009

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 690

: - عدد زوار اليوم

7469463

: - عدد الزوار الكلي
[ 78 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan