::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> محاضرات وندوات

 

 

التسلط .. أثره في الحياة الزوجية

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان (المشرف العام)  

 

التسلط .. أثره في الحياة الزوجية

 و أهمية المشورة الأسرية من منظور إسلامي

 

إعداد

الشيخ محمد خير الطرشان

أستاذ القضايا الفكرية المعاصرة

في مجمع الفتح الإسلامي

 

السبت 7 / تشرين الثاني /2009

المستشارية الثقافية الإيرانية – دمشق – البحصة

 

الندوة الشهرية الثالثة و السبعون – قسم شؤون المرأة

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، و على آل بيته الطيبين الطاهرين، و أصحابه الغر الميامين، و سلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

وبعــــد:

^ مساواة الإسلام بين الرجل والمرأة:

تتميز البشرية بوحدة إنسانية كاملة في التكوين الجسدي و الطبائع والمشاعر والإحساسات والتطلعات والآلام والآمال والحاجات والضرورات، و هذا يلغي الفوارق اللونية والنزعات العنصرية والعرقية، كما يذيب النزعات الطائفية والمذهبية، ويؤكد وحدة الخلق والإيجاد، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى:[]يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[] سورة النساء (1). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما النساء شقائق الرجال". أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي.

^ جوانب المساواة بين الرجل والمرأة:

المساواة بين الرجل والمرأة هي سبب بقاء النوع الإنساني، وهذه المساواة تستدعي بيان أمور هامة، وهي:

أ- مساواة الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات:

فالمرأة ليست أدنى من الرجل لا في أهليتها ولا في عقلها ولا في تكاليف الشريعة لها.

ب- المساواة في التكليف:

فالمرأة مثل الرجل مطالبة بعقيدة صحيحة وملزمة بتكاليف الشريعة، وأساس التفاضل بينهما إنما هو التقوى والعمل الصالح. قال تعالى:[]مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ[] سورة النحل (97).

جـ- المساواة بين الجنسين في الأهلية:

فالمرأة كالرجل في أهليتها الاجتماعية والمالية، فلها ذمتها المالية المستقلة عن ذمة الزوج أو باقي الأسرة.

ء- كرامة المرأة ككرامة الرجل:

لأن الله تعالى كرم الإنسان بشكل عام:[]وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ...[] سورة الإسراء (70).

وإن "استخلاف الإنسان" يشمل الرجال والنساء، إذ أن من الأمور الجديرة بالتأمل في اللغة العربية - لغة القرآن - أن لفظ "إنسان"، وهو الواحد من بني آدم، يذكر ويؤنث، فيقال هو إنسان، وهي إنسان، والرجل إنسان، والمرأة إنسان، ولا يقال إنسانة. كذلك فإن لفظ "بشر" يذكر ويؤنث، فيقال هو بشر وهي بشر.

ومما يدل على شمول الاستخلاف للرجال والنساء آيات عديدة في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى:[]فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ...[] سورة آل عمران (195). وقوله:[]مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ[] سورة النحل (97).

والحياة العامة تحكمها بين الرجال والنساء الرابطة الإيمانية في إطار الأمة، أي إن المساواة هي الأصل بين الاثنين في إطار الأخوة في الله، التي عبر عنها الحديث الشريف: "إنما النساء شقائق الرجال" . أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي.

وتتمثل المساواة بين الرجال والنساء في المساواة في القيمة الإنسانية، والمساواة في الحقوق الاجتماعية، والمساواة في المسؤولية والجزاء، وهى المساواة التي تتأسس في جوانبها المختلفة على وحدة الأصل، ووحدة المآل، والحساب يوم القيامة.

وإذا كانت الشريعة قد خصَّت المرأة ببعض الأحكام، كإعفائها من الأعباء الاقتصادية للأسرة، أو اختلاف نصيبها في الميراث، فإن هذه تبقى استثناءات ترد على القاعدة التي هي المساواة لحكم جليلة أرادها الله..

والمرأة تواجه الكثير من المشاكل على المستوى الإنساني والاجتماعي؛ لأن مشكلة المرأة لا تختصر في العالم العربي والإسلامي، ولكنها مشكلة تتحرك في أكثر من مكان في العالم، حتى في الدول التي تعدُّ من الدول المتحضرة.

^ الواقع المؤلم للمرأة في الغرب:

فالمرأة تتعرض لضغوط هائلة تستضعفها، وتستغلها، وتحوّلها في كثير من الحالات إلى سلعة سياحية، فيما يسمى بسياحة الجنس التي ينطلق فيها تجار الرقيق، يخدعون الفتيات وحتى الأطفال، وكان الكثيرون يقومون بإغراء هؤلاء الفتيات بالعمل في أوروبا، مما يؤدي إلى استعبادهم واستغلالهم بتجارة الرق الجنسي. كما فعل الأمريكيون عندما كانوا يمنّون الإفريقيين بالعمل والرفاهية، وعندما يصلون إلى هناك يستغلونهم.

هذه المسألة أصبحت تثير اهتمامات الكثير من المفكرين في العالم ومن كل الأديان، و عندما ندقق في الإحصاءات في أوروبا وأمريكا وفي أكثر البلدان الغربية، فإننا نجد أنه بالرغم من إطلاق حرية الجنس في تلك الدول، فإن حوادث الاغتصاب بلغت مستوى يصل إلى حدّ الكارثة، مما يؤكد نقيض وعكس ما كانوا يقولونه بأن المجتمع المحافظ هو الذي يخلق العقدة التي تشجع الاعتداء على المرأة.

إن نتائج إحصاءات حوادث الاغتصاب في المجتمعات المتحضرة تمثل نسبة قياسية عالية، بينما لا نجد إلا نسبة بسيطة في مجتمعاتنا الإسلامية، ما يدل على أن التربية الأخلاقية الإسلامية بالرغم من تنوع أساليبها من جهة التقدّم والتخلّف، فإنها استطاعت أن تعمِّق هذه القيم، ولا سيما قيم العفة والطهارة في وعي الرجال والنساء.

^ المرأة بين سلطة الأب وعنف الزوج:

ومن أهم القضايا و المشكلات التي تبرز في المجتمعات كافة مشكلة العنف ضد المرأة، وأكثرها خطورةً العنف الجسدي، فهناك إحصاءات كبيرة نشرت أخيراً تفيد أن هناك نوعاً من العنف الجسدي يصل إلى حدِّ القتل للزوجات والبنات والأخوات... ولعل مثل هذا العنف موجود في عالمنا العربي والإسلامي؛ إذ لا يزال هناك من يتعامل مع المرأة على أنها تعيش على هامش الرجل وليست إنساناً حراً مستقلاً. ولذلك فإننا نجد أن الذهنية الغالبة هي ذهنية الرجال حتى في وسط المتدينين و العلمانيين على حد سواء.

إنّ هذا العنف يمثل ظاهرة خطيرة في مجتمعاتنا، فالمرأة في كثير من هذه المجتمعات لا تملك أن تحمي نفسها من عنف الرجل، سواء كان زوجاً أو أخاً أو أباً، وذلك بسبب النظرة الدونية إلى المرأة. ومن ذلك مثلاً: الأب الذي يزوّج ابنته على مزاجه، وليس كما هو مفهوم الزواج الذي ينطوي على الميل النفسي، والشعور بالاطمئنان تجاه الطرف الآخر، فالمشكلة تكمن في أن الأب يختار لابنته زوجها، أو أن الأم هي التي تختار لابنتها زوجَها، دون أن يؤخذ رأي الفتاة، وهو ما يعد مخالفة صريحة للنصوص النبوية.

ومما يدل على ثبوت حقّها في الاستشارة حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ وَلَا الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ". فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ إِذْنُهَا قَالَ: "إِذَا سَكَتَتْ". البخاري 6453 باب النكاح. وما روى عبد الله بنُ عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الثيب أحق بنفسها من وليه ، والبكر تُستأمر وإذنها سكوتها". مسلم (1421).

(نموذج عملي ):

جاءت فتاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن أبي زوجني ابن أخيه يرفع بي خسيسته، فجعل الأمر إليها، قالت: "فإني قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء". أخرجه الإمام أحمد في المسند (24522).

وأخرج الإمام البخاري في صحيحه في الأدب: باب لا يجاهد إلا بإذن الأبوين برقم (5972)  عن عبد الله بن عمرو قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أُجاهد؟ قال: لك أبوان؟ قال: نعم، قال: "ففيهما فجاهد". وهذا فيه لزوم استشارة الأمّ قبل الخروج للجهاد. واستشار عمر - رضي الله عنه - حفصة في المدة التي تحدد لابتعاد الزوج عن زوجته وأمضى كلامها وأصدر مرسوماً بذلك. وذكر ابن حجر في الإصابة عن أبي بردة عن أبيه قال: "ما أشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة رضي الله عنها، إلا وجدنا عندها فيه علماً".

^ حول تسلط الزوج:

وقد يبدو تسلط الزوج أكثر خطراً على مستقبل الحياة الزوجية و الأسرية بشكل عام...

* نماذج و آراء و احصاءات:

1- تقول إحدى الزوجات: "للأسف لا أستطيع مناقشة زوجي في أي شيء يقوله، فهو عصبي وثائر دائماً، كلماته أوامر لا بد أن تنفذ في التوّ واللحظة، حتى لو كانت خاطئة، أو غير معقولة، أو متناقضة، وإذا لم أنفذها تعرضت للعقاب الذي يتراوح بين المقاطعة الكلامية، حتى الإيذاء البدني، وأنا تحت طائلة عقابه هذا منذ زواجي وحتى الآن، لأنني لم أعد أعرف الصح من الخطأ، والمهم أن أبادر بالاعتذار له، حتى بعد أن أتعرض للإيذاء منه".

2- تقول (معلمة مرحلة ثانوية): " أنصح المرأة التي تعاني من تسلط الرجل عليها بأن تقوم بإبطال مفعول القنابل الكلامية لهذا الرجل، والاجتهاد أولا في أن تحتفظ بهدوئها، ولا داعي لذرف الدموع، أو الرد بقنابل كلامية مضادة، فهذا لن يكون له من أثر إلا زيادة حدة شراسة الرجل، وسرعة انفعاله فقط, واجهيه ببرود، واجعليه يفرغ كل ما غذاه به مزاجه من انتقاد, وتلك هي أفضل طريقة لكي تمنحيه الفرصة لكي يتمالك نفسه ويهدأ, فإذا وصل هدوءه إلى حد السكون فابدئي عتابك بليونة.."

3- تقول طبيبة (اختصاصية النساء والولادة): "أعتقد أن أول مواجهة لرجل من هذا النوع هو أن أحتفظ بهدوئي تماماً، لأنني لو أظهرت له أنني ضعيفة، وضحية سهلة لمزاجه الصعب المتناقض، فسوف يسعده ذلك، وبالتالي تزداد حدة انفعاله، ولذلك فسلاح البرود التام هو أفضل أسلحة المرأة في مواجهة مثل هذا الرجل".

4- وتقول سيدة مربية: "ليس كل الرجال متسلطين متقلبي المزاج، وإن كان تسلط الرجل مشكلة تعاني منها نسبة كبيرة من الزوجات، وقد تكون هي السبب الذي يهدم البيت من أساسه، وفي اعتقادي أن تسلط الرجل له أسباب، منها أنه يعيش دوره كمراهق يتسم بالأنانية، يحاول تسخير الجميع لخدمته، ويقبل على زوجته بقدر ما تؤمن له الراحة، وتلبي حاجاته دون تذمر أو ملل، وإن هي قصرت بسبب أو آخر أصبح عنيفاً شرساً، وإما أن يكون ناضجاً، ولكنه يعاني من صراع السلطة في البيت بينه وبين زوجته، صراع على حق الإدارة والقرار في البيت، فيحاول كل طرف تحطيم الآخر، ولو بطريقة لا شعورية. والصراع هنا رغم عنفه لابد أن ينتهي إلى حل يرتاح إليه الطرفان، والرجل مع صعوبة طباعه يتطلع دائماً إلى حل يرضيه، ويرضي زوجته، ولذلك على الزوجة في هذه الحالة ألا تتفنن في إظهار تسلطها على الزوج، وإنما عليها أن تساعده على القيام بدوره كرب أسرة، وليس في هذا انتقاص من شخصيتها، بل عليها أن تعتبر قوة زوجها قوة مضافة إلى قوتها هي". وتضيف قائلة: "أقول وبصراحة تامة، وسوف تفهمني النساء جيداً: إن أنوثة المرأة أقوى مروض لشراسة الرجل وتسلطه, وأنا أقصد الأنوثة بالمعنى الكامل للكلمة، حيث يلتقي المظهر بالجوهر، والحب في النهاية هو العامل الأهم في حل أي مشكلة زوجية". مشيرة إلى أن المرأة لا داعي لأن تتكيف مع زوجها المتسلط، بل عليها أن تغيره، وأن تعيد صياغته من جديد بأنوثتها.

^ حول تسلط الزوجة:

قد يبدو الأمر معكوساً؛ فتتسلط المرأة بقوة، وتجبر على حساب ضعف الزوج أو تقصيره في القيام بالحقوق و الواجبات.

1- سئل رجل عن موضوع تسلط المرأة على زوجها فقال: "لا أراكم الله شر تسلط زوجتي! ليس فقط تسلطها، ولكن مزاجها المتقلب، وحنجرتها القوية التي ترفعها بالصياح لأقل خلاف بيننا، حتى يصل صوتها إلى الجيران، فأذوب خجلاً، وأهرب من أمامها كما الفأر المذعور؛ حتى لا تتمادى, ويبدو أنها استخدمت هذا الأسلوب معي مستغلة طيبة قلبي وخجلي وحبي لأبنائي، ولكني بالطبع لن أصبر إلى الأبد على هذا الهوان، وسوف تسمعون قريباً أن الفأر قد تحول إلى أسد".

2- بينما يقول رجل آخر: "يبدو أن النساء فقدن فضيلة الرضا عن الواقع، فالزوج الطيب المسالم هو في نظرهن سلبي، ضعيف، والذي يأمر وينهى متسلط، والذي يستشير أهله متردد، والذي يفرض رأيه ديكتاتور، والحل أن يكون الرجل على طبيعته، وعلى الزوجات أن يقلن ما يشأن؛ لأن الإفصاح عن المشاكل والمتاعب أولا بأول، وبصورة مباشرة أفضل كثيراً من كتمانها في القلب، فتتراكم متاعبه، وقد يصاب بالمرض، أو ينفجر هذا الزوج واضعاً كلمة النهاية لهذه الزوجة النكدية".

3- إن من أهم أسباب تسلط الزوج فهمه الخاطىء لمفهوم "القوامة" التي منحه الله تعالى إياها.

^ مفهوم القوامة في الاصطلاح القرآني:

وردت صيغة "القوامة" في الاستخدام القرآني في ثلاثة مواضع، وليس في موضع واحد. كما تقتصر معظم الكتابات التي تتناول المفهوم في آية:[]الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ...[] سورة النساء (34). بمعزل عن الآيتين الأخريين، حيث ورد اللفظ في قوله تعالى: []يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ...[] سورة النساء (135). وقوله: []يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ...[] سورة المائدة (8).  

فالقوامة إحدى صفات المؤمنين - رجالاً ونساء - وترتبط بالشهادة على الناس، وتعني القيام على أمر هذا الدين وفق الشرع، والالتزام بالعدل والقسط وهي صفة من صفات الله - سبحانه - التي يجوز من عباده التخلق بها إذ أنه "القيُّوم".

وإذا كانت القوامة على مستوى الأمة هي سمة عامة فإنها مسؤولية تكليفية على الرجل في أسرته في إطار عقد الزواج الشرعي.

وقد حدد الإسلام طبيعة سلطة الرجل في الأسرة إذ جعل مفتاحها كلمة "قوَّام" أي: القائم على شؤون الأسرة، وتقتضي القسط والعدل في شؤون من أوكل إليه أمرهم، وذلك بخلاف ما إذا كان التعبير عنها بكلمة "سلطة" أو نحوها، والتي قد يفهم منها حرية التصرف المطلقة، وهو ما يتعارض مع مفهوم الآية الكريمة.

وتنطوي كلمة " قوَّام " على أمرين هامين:

1- أن يأخذ الرجل على عاتقه توفير حاجات المرأة المادية والمعنوية، بصورة تكفل لها الإشباع المناسب لرغباتها وتشعرها بالطمأنينة والسكن.

2- أن يوفر لها الحماية والرعاية ويسوس الأسرة بالعدل: وتخضع سلطة رب الأسرة للعديد من الضوابط والقيود التي تفسح المجال لأهلية الزوجة والأبناء في التصرف في إطار ما هو مشروع ومسموح به إسلامياً، فرب الأسرة ليس له سلطة على أبنائه الراشدين سوى التوجيه والنصح فقط، وكذلك له سلطة محددة في الإذن بزواج بناته البالغات؛ لأن شخصية أولاده الراشدين البالغين - ذكوراً وإناثاً - شخصية حقوقية كاملة سواء في التعامل الاقتصادي أو الحياة الاجتماعية، كاختيار نوع العمل، أو اختيار الزوجة. وحقوقُ الأب أدبية تقتضيها الأخلاق الإسلامية، فإذا أساء الأب استعمال صلاحيات القوامة، أو تعسّفَ فيها، أو تجاوز صلاحياتها المقررة شرعاً، فإن من حق ولي الأمر داخل المجتمع -  ممثلاً في السلطة العامة أو القضاء - التدخل للحد من تصرفاته غير المشروعة، ولحماية الزوجة والأبناء، ولكن تدخل ولي الأمر يأتي بعد أن تكون المؤسسات الوسيطة في المجتمع (العائلة و الأسرة) قد استنفدت كل السبل لمعالجة هذه الانحراف.

وقد حاولت العديد من الكتابات التماس حكمة الشرع في قوامة الرجل في الأسرة، ففسرها البعض تفسيرات اقتصادية، حيث إن الرجل هو العائل اقتصاديًّا للأسرة، وهي العلة الثانية الواردة بالآية:[]...وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ...[] سورة النساء (34).  في حين ركز البعض الآخر على العلة الأولى وهي التفضيل، ولم يروا أن التفضيل يسري على الطرفين:[]...بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ...[] سورة النساء (34).  أي أنه يفهم في إطار تمايز كل منهما في خصائص الرجولة والأنوثة، وأن "الدرجة" الوارد ذكرها في موضع آخر ليست قرينة الذكورة، بل هي قرينة "الرجولة" التي هي آداب وسلوكيات يتحمل الرجل في ظلها أمانة "القوامة"، أما معيار التفاضل في الميزان الإيماني فهو التقوى.

أما الإجهاد في إثبات قوة الرجل وضعف المرأة بيولوجيًّا وعاطفيًّا - بل وعقليًّا - فيربط الأمر بخصائص يتجاوزها الزمن في عالم المعلومات والتقنية الذي لم يعد للقوة البدنية فيه الدور المحوري كما كان في العصور السالفة، كما أنه يقلل من كرامة المرأة المسلمة بالطعن في أهليتها التي أقرتها الشريعة؛ لذا فإن الأمر يجب أن يفسر في ضوء فلسفة الأسرة كبناء تراحمي تضامني تكاملي في ظل الإسلام، وليس بإعطاء المرأة سلطة ندية صراعية كما يفعل أنصار النسوية الغربية، ولا وصمها بالنقص والسفه كما يحلو لبعض الغلاة، بل وضع العلاقة كما نظمها الإسلام في إطار الإدارة الأمثل لعلاقة أصلها الشورى والعدل والاستقامة، والمودة والرحمة.

إن "الدرجة" التي ذكرها القرآن للرجال في قوله تعالى:[]...وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ...[] سورة البقرة (228). وهي درجة القوامة، لم تقم على أساس نقص ذاتي في المرأة، وإنما على أساس التطبيق العملي والكسبي، فالمراد في التفضيل زيادة نسبة الصلاح في الرجل من جهة الرئاسة للأسرة عن صلاح المرأة لها؛ فهي صالحة، وهو أصلح، والمصلحة تقتضي تقديم الأصلح، وهو ما لا يُعَدُّ طعناً في صلاحية المرأة وذاتيتها، بدليل أنها تتولى أمرها وأمر أبنائها عند غياب الزوج في طلب الرزق أو الجهاد أو عند وفاته، حتى  في ظل رعاية أفراد الأسرة الممتدة لها.

* الشورى أساس القوامة:

ولا يكتمل فهم أبعاد مفهوم القوامة في الرؤية الإسلامية إلا في ضوء إدراك أهمية الشورى كقيمة أساسية في العلاقات داخل الأسرة المسلمة. فالشورى ليست خاصة بالمساحة السياسية فقط، ولا هي سمة من سمات الجماعة المؤمنة فحسب، بل هي أيضاً منهج للتعامل داخل الأسرة.

وإذا كان الحديث عن الشورى في إطار الأسرة قد ورد في فطام الطفل مع انفصال الزوجين:[]...فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا...[] سورة البقرة (233). وهو حق المطلّقة في الشورى والتراضي والتفاهم على ما فيه مصلحة الطفل، حيث إن انفراد أحدهما بالأمر دون الآخر يعد باطلاً، فالأولى أن يكون ذلك من حق الزوجة القائمة في البيت على رعاية جميع شؤونه. فالقاعدة في نظام المنزل الإسلامي هي التزام كل من الزوجين بالعمل بإرشاد الشرع فيما هو منصوص عليه، والتشاور والتراضي في غير المنصوص عليه ومنع الضرر والضرار بينهما، وعدم تكليف أحدهما بما ليس في وسعه.

القوامة إذاً لا تعني إدارة البيت بشكل منفرد؛ لأن الإدارة شركة بين الرجل والمرأة، وحتى الأطفال كل منهم يقوم بنصيبه في الإدارة، وتدخل الرغبات المعقولة لكل منهم في شأن الإدارة.

والإدارة شورى داخل هذه البنية الاجتماعية الصغيرة، ولا ينبغي أن يستبد طرف بالأمر كله، بل تؤخذ آراء كل الأطراف في الاعتبار في حدود الشرع، وتكون القوامة هي الكلمة الفاصلة التي يحتاجها البيت عند نشوب خلاف لا ينهيه إلا كلمة فصل.

 * رئاسة الأسرة رئاسة شورية لا استبدادية:

وتشبه إلى حد كبير سلطة الإمامة أو الخلافة على مستوى الدولة، ويتحمل كل عضو في الأسرة مسؤوليته مصداقاً للحديث الشريف: "كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".

والشورى ليست مبدأً أساسيًّا من مبادئ التعامل داخل وحدة الأسرة فحسب، بل هي قرينة هذه الوحدة الاجتماعية بداية وانتهاءً، إذ يُبْنى الزواج على الرضا والقبول والتعاقد، ويقوم على الشورى والتفاهم، ويتم حل النزاعات داخل الأسرة بالتشاور مع الأسرة الممتدة من خلال مفهوم "الصلح"، فإذا استمر الخلاف يتم اللجوء إلى "التحكيم" في سياق الأسرة الواسعة الممتدة أيضاً. فإذا ما استحالت العِشْرة بين الزوجين يتم إنهاؤها بالطلاق وفق أحكام الشرع، مع التزام الطرفين بالعفو والفضل وعدم الضرر بالآخر.

* نماذج من مشورة المرأة في تاريخنا المشرق:

1- جاء في كتاب "عُيون الأخبار" لابن قتيبة 1/82 بإسناده إلى الحسن رحمه الله تعالى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير حتى المرأة، فتشير عليه بالشيء  فيأخذ به. وقد ثبت من هديه - صلى الله عليه وسلّم - أنّه استشار أم سلمة رضي الله تعالى عنها، وقد كانت راجحة العقل نافذة البصر.

2- ورد في الجامع الصحيح للإمام البخاري برقم (1566) من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه في قصة الحديبية، وفيها قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"قوموا فانحروا ثم احلقوا"، قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة رضي الله عنها، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله! أتحب ذلك؟ اخرج لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحَرَ بُدْنَك وتدعو حالِقَك فيحلِقَك، فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً.

وقد أوضح الحسن البصري ما يؤخذ من هذه الواقعة‏،‏ من شرعية استشارة النساء‏،‏ فقال‏:‏ إنْ كان رسول الله لفي غنى عن مشورة أم سلمة‏،‏ ولكنه أحب أن يقتدي به الناس في ذلك‏،‏ وأن لا يشعر الرجل بأي معرّة في مشاورة النساء‏ .‏

3- قال الدكتور البوطي: "وقد كان الخلفاء الراشدون يستشيرون النساء‏،‏ وكان في مقدمتهم عمر رضي الله عنه‏،‏ وكان أبو بكر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - يستشيرون النساء، ولم نجد في شيء من بطون السيرة والتاريخ أن أحداً من الخلفاء الراشدين حجب عن المرأة حق استشارتها والنظر في رأيها‏".‏

^ خاتمة:

إن الشورى هي أيضاً قيمة تربوية داخل الأسرة، تنتقل بالتنشئة الاجتماعية للأبناء، ويتعلمونها كسلوك قرين بالعيش في المجتمع المسلم.

وإن المجتمع الإسلامي الذي يَنشُد تحكيم الشريعة، واستعادة قيمه السياسية ونظام حكمه الشوري، عليه أن يدرك أن هذا يستلزم بالضرورة تأسيس قواعد للممارسة الداخلية في بنيته بمستوياتها المختلفة (ومنها الأسرة).

إن الأسرة في الرؤية الإسلامية نموذج مصغر للأمة، تحكمها الشريعة، وتدار بالشورى، ويشبه عقد الزواج فيها عقد البيعة، ويتم اللجوء فيها عند النزاع إلى نفس آليات حل النزاع على مستوى الأمة وهى الصلح والتحكيم، وإن ظلت هناك اختلافات بحكم شخصية وفردية العلاقات على مستوى الأسرة وطبيعتها المتميزة، وهو ما يجعلها محضنًا للقيم الإسلامية، ويؤهلها للقيام بمسؤولياتها في مجالات عديدة.

................

 

 

 

 

 

 

 التعليقات: 1

 مرات القراءة: 5690

 تاريخ النشر: 10/11/2009

2010-11-24

صمتي شموخ

بارك الله فيكم ونفع بكم الامه

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1246

: - عدد زوار اليوم

7397719

: - عدد الزوار الكلي
[ 60 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan