::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> دراسات وأبحاث

 

 

ركائز تاريخية النص عند العلمانيين (3): الناسخ والمنسوخ.

بقلم : د. أحمد محمد الفاضل  

تعريف النسخ

معناه في اللغة: يطلق النسخ في اللغة على معنيين:

  أحدهما: الإبطال والإزالة، ومنه قولهم: نسخت الشمس الظل.

  ثانيهما: النقل والتحويل بعد الثبوت، ومنه قولهم: نسختُ الكتاب، أي: نقلته مع بقاء عينه في مكانه الأول.

معناه في الاصطلاح: اختلف الأصوليون في تعريفه شرعاً، وأقتصر على ذكر تعريف جامع هو: رفع حكم شرعي متقدم عن المكلف بحكم شرعي متأخر.[1]

  ويتحصل من هذا التعريف أنَّ النسخ إنما يستقيم معناه بأمور ثلاثة:

أولها: أن تكون أداة النسخ ووسيلته خطاباً تضمن حكماً من الشارع جل جلاله. فما كان أداة النسخ فيه انتهاء أمده المحدد مثلاً أو زوال علته الشرعية لا يسمى نسخاً شرعياً.

ثانيها: أن يكون المنسوخ الذي تعلقت أداة النسخ به حكماً شرعياً أيضاً. فإبطال الأمور العقلية أو العادات الجاهلية أو الأحكام الوضعية بخطاب شرعي من الله تعالى لا يسمى نسخاً في الاصطلاح الشرعي.

ثالثها: أن النسخ لا بد أن يأتي متراخياً عن المنسوخ؛ ذلك لأن التقاء الحكمين الشرعيين المذكورين في آن واحد دون تراخ بينهما، يعني التناقض. وهذا لا يقع في كتاب الله وشريعته. [2]

 

مفهوم النسخ

 

  للعلمانيين المعاصرين آراء خاصة في الناسخ والمنسوخ، وهي في غاية الغرابة والبعد عن الصواب والسداد، وهي تناقض ما عليه العلماء والأصوليون أشد المناقضة. من ذلك:

 

1 – الزعم بأنَّ النسخ في أم الكتاب لا في القرآن!:

هذا ما يدّعيه المهندس المدني محمد شحرور حسب مفهومه الجزئي للقرآن، حيث جعل عنوان كتابه (الكتاب والقرآن) ففرق بين الكتاب والقرآن!!.

  يقول: ((...وهذا هو السر الأكبر في وجود الناسخ والمنسوخ في أم الكتاب ووجود التطور في التشريع، ولذلك نحذر من الظن أنَّه يوجد ناسخ ومنسوخ في القرآن أو في تفصيل الكتاب.

  ففي رسالة محمد r جاءت تعليمات وألغيت فيما بعد، أي في نفس الرسالة حصل التغيير، فجاء هذا التغيير فيما يتعلق بالسلوك الإنساني، فمثلاً قال: ﴿وَإَن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اْللهُ [البقرة/284] ثم نسختها الآية: ﴿لا يُكَلِّفُ اْللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا [البقرة/286]، لذا قال تعالى: ﴿يَمْحُو اْللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ اْلْكِتابِ [الرعد/39]. هنا نلاحظ هذين الأمرين الهامين:

  أولهما: أنَّ أم الكتاب فيها يمحو أو يثبت ، أي فيها تغيير.

  والأمر الثاني: أنَّه ليس لها علاقة بالقرآن، لذا قال: ﴿ وَعِندَهُ أُمُّ اْلْكِتابِ أي إنَّها من عند الله مباشرة..)). [3]

  وهذا التفريق بين الكتاب والقرآن مبتدع، ابتدعه خيال مهندس مجنّحٌ، وإلا فالكتاب هو القرآن ومثله الفرقان والذكر الحكيم وغير ذلك من أسماء القرآن أو صفاته. وأمَّا قوله: ﴿وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتابِ فالمراد من (أم الكتاب) اللوح المحفوظ وهو أصل القرآن أو الكتاب أو الفرقان.... [4]

 

  2 – الادعاء بأنَّ النسخ من اختراع الفقهاء!:

  هذا ما يزعمه محمد أركون حين يقول: وأمَّا المعنى الثالث لكلمة النسخ، والذي يعني استبدال نص بنص أو نص لاحق بنص سابق، فهو ناتج عن مناقشات الأصوليين الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة نصوص متناقضة، وبالتالي فقد اضطروا لاختيار النص الذي يتناسب أكثر مع التوفيق وتحقيق الانسجام بين الأحكام الشرعية التي كانت قد حظيت بتثبيت الفقهاء الأوائل.. وهذا أكبر دليل على كيفية احتيال الفقهاء وعلى الآيات القرآنية التي لا تتناسب مع مقاصدهم فيقومون بتحييدها...

  لم يعد بإمكان الفقهاء حذف هذه الآيات بعد أن أصبحت متضمنة في المصحف الرسمي الذي شُكِّل أيام عثمان، وبالتالي فقد راحوا يشجعون على تأسيس علم أسباب النزول من أجل القول بأنَّ الآية المنسوخة قد نزلت قبل الآية الناسخة وبالتالي فمن المشروع إبطال العمل بها. [5]

  وفرية محمد أركون على الفقهاء بأنهم اخترعوا النسخ لدفع التناقض بين الآيات هي عين ما قاله المستشرق الألماني يوسف شاخت.

 

  وهذا الإفك من أركون وشيخه شاخت يقوّضه ما رواه ابن عباس قال: قال عمر: أقرؤنا أبي، وأقضانا علي، وإنا لندع من قول أبي، وذاك أنَّ أبياً يقول: لا أدع شيئاً سمعته من رسول الله r وقد قال تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [البقرة/106] [6]. فعمر احتج لجواز وقوع النسخ بهذه الآية، واستدل بالآية على وقوع النسخ. إذن النسخ سبق الفقهاء المتقدمين والمتأخرين، لكنَّ الظالمين يفترون..!

 

3 – الزعم بأنَّ عدد الآيات التشريعية ثمانون آية فقط ، بسبب النسخ!:

هذا ما يذهب إليه المستشار محمد سعيد العشماوي، ليجرد القرآن من خاصية التشريع مختزلاً الشريعة الإسلامية في (الرحمة) دون (التشريع والقانون).

 

  يقول: ((إنَّ القرآن الكريم ستة آلاف آية، ما يتضمن منها أحكاماً للشريعة – في العبادات أو في المعاملات – لا يصل إلى سبعمئة آية، منها حوالي مئتي آية فقط هي التي تقرر أحكاماً للأحوال الشخصية والمواريث أو للتعامل المدني أو الجزاء الجنائي، أي أنَّ الآيات التي تعد تشريعات قانونية للمعاملات هي مجرد جزء واحد من ثلاثين جزءاًَ من آيات القرآن 200/6000 بعضها منسوخ ولا يعمل به، أي أنَّ الأحكام السارية أقل من واحد على ثلاثين وعلى وجه التحديد 80 آية)) . [7]  

إنَّ حديث العشماوي عن قلة آيات الأحكام القانونية في القرآن، ليس دليلاً على ضمور حجم التشريع الفقهي في القرآن الكريم... فهذه الآيات ليست هي كل آيات الأحكام فيه، وإنما هي الدالة على الأحكام دلالة ظاهرة، لا التي تحصر جميع الأحكام... وذلك فضلاً عن اشتمال القرآن على المبادئ والقواعد والمقاصد التي تجعله وافياً بالتشريع دائماً وأبداً...

إنَّ القرآن – لأنه كتاب الشريعة الخاتمة والعالمية – لم يفصل قانوناً وفقهاً في المتغيرات الدنيوية، وذلك حتى لا تنسخه التطورات والمتغيرات... وهو قد اعتمد للوفاء بمهام الفقه والتقنين على ما استوعب من القواعد والمبادئ والمقاصد وفلسفة التشريع، التي جعلته مصدر الحاكمية للفقه والقانون في كل زمان ومكان. [8]

 

  4 – الادعاء بأنَّ النسخ من المتشابه!:

  هذا ما يدعيه أحدهم فيقول: ((والناسخ والمنسوخ من المتشابه من القرآن، وقد استقر في أذهان الناس صحة ما رآه بعض السلف في الناسخ والمنسوخ من القرآن وتحديدهم لما هو منسوخ ولما هو ناسخ دون أي مستند يبين لنا أي الآيات ناسخة لنأخذ بها، وأيّاً منسوخة لتجنب العمل بها، ولو أنَّ هناك مثل هذا المستند، لما احتاج الأمر إلى اجتهاد، كما أنَّ نبينا r لم يبين لنا أي الآيات الناسخة، وأياً منها المنسوخة لأنه يعرف المتشابه من الآيات، ويعرف أنَّ فهمها وتأويلها هو من اختصاص منزلها وحده)). [9]

ثم يدعي صاحب الكلام المذكور آنفاً أنَّ القول بالناسخ والمنسوخ في القرآن فيه نقيصة في حق الله تعالى!!، لأنه يرى أن قولنا بأن هناك ناسخاً ومنسوخاً في القرآن يؤدي إلى أن نضع الله تعالى في موقف المتخوف من عباده في أن خوفه هو الذي منع إنزال الآية التي يريدها مباشرة دون تدرج.

 

  5 – تفسير (الآية) بالعلامة في آية النسخ:

  هذا فهم نصر حامد أبو زيد لقوله تعالى: ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اْللهَ عَلَى كُلِّ شَيء ٍقَدِيرٌ [البقرة/106].

  يقول: ((ولعلنا من هذا السياق نفهم أنَّ الآية في النص السابق، ليس من الضروري أن تكون بمعنى الوحدة الأساسية في النص – الآية القرآنية – ولعل المقصود بها المعنى اللغوي للآية، بمعنى العلامة الدَّالة. ويؤكد هذا الفهم من جانبنا الحديث عن ملك السموات والأرض أولاً، ثم الحديث عن طلبٍ طلبه أهل الكتاب والمشركون من النبي، طلبٌ يقارنه النص بما سبق أن طلبه قوم موسى منه، وهو طلبهم رؤية الله جهرة. لقد كان طلب أهل الكتاب من النبي هو أن قالوا: يا محمد ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهاراً نتبعك ونصدقك فأنزل الله تعالى في ذلك: ﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ [البقرة/108] وليس لهذا الطلب من معنى سوى أنَّهم كانوا يطلبون (علامة) أو (آية) يستدلون منها على صدق النبي، ويكون معنى الآية بناء على هذا أنَّ العلامات الدالة على النبوة يمكن أن يغيرها الله، وأنَّ ما يغيره الله من هذه العلامات أو يسحب عليها أذيال النسيان يأتي من العلامات بما هو أفضل منها في الدلالة، أو يأتي على الأقل بما يماثلها...

  ويكون على ذلك معنى النسخ، هو إبدال نص بنص مع بقاء النصين وعلى ذلك يصعب أن نتقبل كثيراً من النصوص والأنواع التي يوردها العلماء داخل قضية (الناسخ والمنسوخ) خاصة تلك النصوص التي يجعلون آخرها ناسخاً لأولها)). [10]

  والحق أنَّ رأي نصر أبو زيد هذا، سُبق إليه، فقد قال به من الأقدمين أبو مسلم ابن بحر الأصفهاني، والشيخ محمد عبده والسيد محمد رشيد رضا من المحدثين وغيرهم، وهذا إطلاق صحيح، فالآية وردت في كتاب الله تبارك وتعالى في مواضع كثيرة معنياً بها المعجزة وكما تطلق على المعجزة تطلق على الرسالة...

  ومعنى الآية عند هؤلاء: أيَّ رسالة من رسالات الأنبياء السابقين ننسخ فإننا نأتي برسالة غيرها خير منها أو مثلها بأن نُرسل نبياً يدعو الناس إلى ما أمره الله به، وكذلك إذا قدرنا أن نُنسي رسالة ببعد العصر بها، فإننا نأتي بخير منها أو مثلها.

  الآية عند هؤلاء إذن، ليست الآية من القرآن الكريم، والنسخ عندهم ليس رفع الحكم الشرعي، والنسيان عندهم ليس نسيان تلاوة الآية، بل نسيان الرسالات السابقة، ويستدل هؤلاء لما ذهبوا إليه بأدلة. [11]

  ولكن إن اعتبرنا السياق في تفسير الآية السابقة، فكان كما قال هؤلاء بأنَّ (الآية) بمعنى المعجزة أو الرسالة، فماذا نصنع في قوله تعالى : ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا ءَايََةً مَّكَانَ ءَايَةٍ وَاْللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل/101]، فالسياق واللحاق يتحدث عن القرآن وأنه الحق الثابت الذي لا ريب فيه، فالآيات التي سبقت تقول: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ اْلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل/89] ، ﴿فَإِذَا قَرأْتَ اْلْقُرْءَانَ فَاْسْتَعِذْ بِاْللهِ مِنَ اْلشَّيْطَانِ اْلرَّجِيمِ [98] .

  والآيات اللاحقة تقول: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اْلْقُدُسِ مِن رَّبِكَ بِاْلْحَقِّ لِيُثَبِّتَ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدَى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [102] ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ اْلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌ مُّبِينٌ [103]؟.

  فمعنى هذه الآية: إذا أنزلنا آية من القرآن مكان آية منه بأن نسخناها بها، والله أعلم بما ينزل أولاً وآخراً وبأنَّ كلاً من ذلك ما نزلت حيثما نزلت إلا حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة، قال الذين كفروا الجاهلون بحكمة النسخ إنَّما أنت متقول على الله، تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه بل أكثرهم لا يعلمون أصلاً أو لا يعلمون أنَّ في النسخ حكماً بالغة. [12]

النسخ وجدلية النص مع الواقع

  يقول العلمانيون: إن الإقرار بوجود الناسخ والمنسوخ في النص أمارة من الأمارات الدالة على ما يدعونه بـ (جدلية النص والواقع) ؛ لأنَّ النص (أي القرآن) أثر في الواقع بما أحدثه من تغيير فيه، كما أنَّ الواقع أثر في النص، فغير فيه، وتجلى هذا في الناسخ والمنسوخ، كما تجلى في غيره.

  يقول الدكتور نصر أبو زيد موضحاً هذه المسألة: ((تُعد ظاهرة النسخ التي أقر العلماء بحدوثها في النص أكبر دليل على جدلية العلاقة بين الوحي والواقع، إذ النسخ هو إبطال الحكم وإلغاؤه سواء ارتبط الإلغاء بمحو النص الدال على الحكم ورفعه من التلاوة أو ظل النص موجوداً دالاً على الحكم المنسوخ)). [13]

 ويقول يحيى محمد: ((نعلم أنَّ الخطاب موظف أساساً لتغطية الواقع، وبالتالي فمن المحال فهمه بنص مجرد من غير علاقة دلالية مع هذا الواقع، فالاقتصار على النصوص المجردة لا يحل لنا مشكل التعارض بين المطلقات، بل يجعل الخطاب بعضه يضرب البعض الآخر. وعليه لا يمكن حل مثل هذا التعارض إلا عن طريق فهم الواقع التفصيلي الذي نزل فيه الخطاب...)). [14]

  ويُعرف النسخ تعريفاً مبتكراً بقوله: ((فالنسخ هو هدم للمطلق وفتح للمغلق، فهو يعبر بالنهاية عن الانفتاح النسبي بأخذ الواقع الاجتماعي بنظر الاعتبار دون التعالي عليه)) [15].

  وبناء على هذا الفهم للنسخ وعلاقته بالواقع يفسر (الإسلام) في قوله تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرِ اْلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي اْلآخِرَةِ مِنَ اْلْخَاسِرِينَ [آل عمران/85] بالعبادة المنسوخة!!. يقول: (( ... وأيضاً لا يمتنع أن يكون ما قصده الخطاب من الخسارة وعدم القبول، إنَّما ذلك المتعلق بموارد العبادات بالخصوص من حيث إنها حق الله تعالى من جهة، وكذلك باعتبارها من الموارد المخصوصة لكل دين، وبالتالي سوف يخرج عن الحكم السابق تلك المعاملات التي تتصف بالعمومية وعدم التخصيص، وهي المعاملات التي يدركها العقل ابتداء وتأسيساً. ولا شك أنَّ هذا التمييز مبرر؛ إذ إنَّ نسخ شريعة لشريعة أخرى لا يمكن أن يكون على إطلاق، وإنَّما بحدود موارد التعبير والعبادات مع أخذ اعتبار تجددات الواقع. وبالتالي فمن المعقول ألا يتقبل الله تعالى تلك العبادات المنسوخة وكذا المعاملات التي تحتاج إلى تغيير بحسب تجددات الواقع...)) [16].

  ونسي هذا الكاتب أو تناسى – في خضم هيمنة الواقع وجدله على فكرة – سياق الآيات الذي وردت فيه الآية، وسباقها ولحاقها، وكل ذلك يدل دلالة بينة على أنَّ المراد من الإسلام في الآية (الدين) الذي كان عليه الأنبياء جميعاً، لا العبادة الخاصة التي تخص الشرائع، وتختلف فيما بين شريعة وأخرى بعض الاختلاف.

  فالآيات السابقة قوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اْللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي اْلسَّمَوَاتِ وَاْلأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ¯قُلْ ءَامَنَّا بِاْللهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَاْلأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسى وَعِيسَى وَاْلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِهِمْ لا نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمران/83-84] والآية اللاحقة قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اْللهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ اْلرَّسُولَ حَقٌ وَجَاءَهُمُ اْلْبَيِّنَاتُ وَاْللهُ لا يُهْدِي اْلْقَوْمَ اْلَّظاِلمِينَ [آل عمران/86].

  الآيات السابقة تنكر على مَنْ يطلبون ديناً غير دين محمد وهو دين الأنبياء – وهو وحده دين الله – الذي خضع له كل مَنْ في السموات والأرض طوعاً بالإرادة والاختيار، أو كرهاً بالخلق والتكوين، وإليه وحده يرجع الخلق كله. ثم أكد الله وحدة الألوهية والرسالة، فأمر نبيه ومن معه بأن يقولوا: صدقنا بالله المعبود وحده، وآمنا بما أنزل الله من القرآن والشريعة، وما نزله من كتب وشرائع على إبراهيم والأنبياء من بعده... ونحن بذلك قد أسلمنا وجهنا لله. فمن يطلب بعد مبعث محمد ديناً وشريعة غير دين الإسلام وشريعته، فلن يرضى الله منه ذلك، وهو عند الله في دار جزائه من الذين خسروا أنفسهم فاستوجبوا العذاب الأليم.

  والآية اللاحقة تقول: إنَّ الله لا يوفق قوماً شهدوا بأنَّ الرسول حق، وجاءتهم البراهين والأدلة على صدق ما جاءهم به الرسول، ثم بعد ذلك كفروا به، وبمعجزاته، فكان ذلك ظلماً منهم، والله لا يوفق الظالمين [17].

  بعد هذا التصور العلماني لعلاقة النسخ بجدلية النص مع الواقع: ما الأفكار التي أثمرها هذا التصور لهذه العلاقة الجدلية؟.

  وبياناً للحق وإنصافاً لهم أقول: إنَّ أفكارهم التي انبثقت من تصورهم السابق، كانت بِدْعاً من القول؛ لأنَّ العلماء من السلف ومَنْ بعدهم، غفلوا عن هذه العلاقة الجدلية بين النص والواقع التي أنتجتها الفلسفة الماركسية (الديالكتيكية)!!. من ذلك:

 

  1 – ضرورة بقاء المنسوخ ؛ لأنَّ الواقع قد يفرضه!!:

   يقول الدكتور نصر أبو زيد في هذا الصدد: ((وإذا كانت وظيفة النسخ هي التدرج في التشريع والتيسير، فلا شك أنَّ بقاء النصوص المنسوخة إلى جانب النصوص الناسخة يعد أمراً ضرورياً؛ وذلك لأنَّ حكم المنسوخ يمكن أن يفرضه الواقع مرة أخرى.. وإنَّ فهم معنى النسخ بأنَّه الإزالة التامة للنص تتناقض مع حكمة التيسير والتدرج في التشريع)) [18].

 

  2 – استمرار النسخ بعد النبي وانقطاع الوحي !!:

  يقول طيب تيزيني: ((لقد جرى تعليق مجموعة من الأحكام والقواعد القرآنية على مدى قرون طويلة، كانت بداياته الأولى (أي التعليق) قد تمثلت بصيغة (الناسخ والمنسوخ) حين تبين لمحمد الرسول أنَّ آيات معينة أصبحت دون إمكانية الاستجابة لواقع الحال المشخص المعني في حينه. وقد اكتسب هذا الأمر طابعاً قرآنياً، أي مقراً به حكماً، والسؤال الآن يفصح عن نفسه على النحو التالي: إذا كان النبي نفسه قد ارتأى – عبر الوحي – ضرورة إعادة النظر في آيات معينة، فلِمَ لا يصح ذلك على أيدي الناس المؤمنين الخاضعين للتغير الاجتماعي مدّاً وجزراً، وكذلك – وهنا الدلالة البليغة – الذين جاء النص من أجلها (للناس كافة)؟.

  لقد أُوقف زواج المتعة، وحكم المؤلفة قلوبهم، والرق ممَّا عنى – ويعني – أنَّ الوضعية الاجتماعية المشخصة هي التي تمثل الأمر الذي يُحتكم إليه في ذلك، وإن تم على نحوٍ خفي أو على سبيل المداورة)) [19]. ويزعم محمد سعيد العشماوي أن المسلمين الأوائل لم يحصروا النسخ بالأحكام التي نص الشارع على نسخها بل كان فهمهم طبعاً النسخ يقوم على أساس أن الأحكام الشرعية ليست مطلقة، بل هي نسبية ومؤقتة.

 

  3 – وقوع النسخ في عالم النبي الذاتي !!:

  هذا ما يذهب إليه طيب تيزيني  إذ يقول: ((... وهنالك حالة بالغة الرّهافة والخصوصية بالنسبة إلى تصور الوحي وعلاقة الرسول به. إنها الحالة التي تتمثل في أنَّ النسخ لسورةٍ ما يتم ضمن عالمه الذاتي الداخلي، دونما تدخل مباشر من خارج، وقد يكمن وراء ذلك أنَّ الرسول الداعية والفاعل اجتماعياً يتبين – بإحالة من وحيه – أنَّ سورةً ما جاءته من هذا الأخير (من وحيه) لا تستجيب لاحتياجات البشر المقدمة إليهم، فتُلغى وتنسخ ضمناً...))!!. [20]

  وهذا الذي يقوله من النسخ في عالم النبي الذاتي، هو عين مذهب العلمانيين في أنَّ الوحي في أصله وحي نفسي ذاتي. وقد وقفت في الباب الأول عند هذه الشبهة الباطلة.

  هذا، وقد غاب عن طيب تيزيني في هذا الذي ادعاه من النسخ الداخلي، أنَّ هذا النبي لا يمكنه أن يزيد كلمة أو ينقص كلمة، بله نسخ آية أو آيات، كيف يصنع ذلك، وقد قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ اْلأَقَاوِيلِ¯لأَخَذْنَا مِنْهُ بِاْلْيَمِينِ¯ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ اْلْوَتِينَ¯فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة/44-47] ..

  ويدعي تيزيني أنَّ النسخ يدل على نمو شخصية النبي وتطورها مع معرفتها بالجمهور!!.

  يقول: ((لقد عنى ذلك (أي النسخ) أنَّ شخصية محمد القرآنية نمت وأفصحت عن إمكاناتها الكبيرة والمتصاعدة في التنوع والتعمق مع اتساع معرفته بواقع جمهوره والانخراط في معركة دنيوية مع خصومه، وكذلك عبر عملية مطردة من التثقف والاطلاع الموسوعي في حينه. ولم تكن شخصيته هذه بعيدة عن التأثر بالمواقف الإنسانية ذات الطابع المأساوي والنقدي. لنذكر مثلاً قصتة مع الغرانيق وأخرى مع الأعمى...)) [21].

 

النسخ وأزلية النص

  يرى العلمانيون أنَّ هناك تناقضاً بين الاعتقاد بأزلية النص والقول بالنسخ؛ لأنَّه – كما يزعمون – لا يسعنا التوفيق بين هذه الظاهرة التي تشتمل على الإلغاء والتعديل وبين الإيمان بأنَّ النص أزلي في اللوح المحفوظ!.

  يقول الدكتور نصر أبو زيد: ((.. لكنَّ ظاهرة النسخ تثير في وجه الفكر الديني السائد والمستقر إشكاليتين يتحاشى مناقشتهما:

الإشكالية الأولى: كيف يمكن التوفيق بين هذه الظاهرة بما يترتب عليها من تعديل للنص بالنسخ والإلغاء وبين الإيمان الذي شاع واستقر بوجود أزلي للنص في اللوح المحفوظ؟.

والإشكالية الثانية: هي إشكالية (جمع القرآن) في عهد الخليفة أبي بكر الصديق. والذي يربط بين النسخ ومشكلة الجمع ما يورده علماء القرآن من أمثلة قد توهم بأنَّ بعض أجزاء النص قد نسيت من الذاكرة الإنسانية)) [22].

  ويمضي على هذا الدرب طيب تيزيني: ((...فإذا كانت كل تلك الصيغ الثلاث من الناسخ والمنسوخ (ما نسخ حكماً وبقي تلاوة، وما نسخ تلاوة وبقي حكماً، وما نسخ تلاوة وحكماً معاً) تشير – ضمناً وصراحة – إلى التشكيك بـ (أزلية النص)، بل ورفضها، فإنَّ الصيغة الأخيرة منها – خصوصاً – تفضي إلى وضع مصداقية القول بأنَّ المصحف العثماني يشتمل على كل ما أملاه النبي على كتَّابه قرآناً موضع الشك والارتياب.

  وفي الحالتين المذكورتين كلتيهما، نواجه (التاريخية) خطاً ناظماً للنص القرآني، يدعو للتعامل معه من موقع كونه نصاً تاريخياً يخضع لما تخضع إليه نصوص أخرى من عملية تجادل مطردة مع الواقع المشخص، إذا أريد لها أن تثبت فاعليتها وجدارتها لمواكبة الفعل البشري التاريخي)) [23].

  ويدعو طيب تيزيني إلى إعادة النظر في قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اْلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر/9]؛ لأنَّ مفهوم الحفظ – بزعمه – يتنافى مع ظاهرة النسخ!!.

  يقول: ((... فإذا كان هنالك – بإقرار من النص ذاته ومن ثم من الفكر الإسلامي – مشكلة محددة الملامح هي تلك المسألة (الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه) أفلا يفضي ذلك إلى طرح فكرة (وإنا له لحافظون) كما هي شائعة في مفهومها المباشر على بساط البحث؟.

  وعلى هذا يغدو السؤال المركب التالي ضرورياً: إذا كان النسخ قد حدث فعلاً بما فيه من تبديل الآيات وإلغاء الأخرى، فكيف يمكن القول بـ (نص ثابت وأزلي) يعيش فوق الأحداث والوقائع وله وجوده الأزلي في اللوح المحفوظ؟.

ثم إذا كان هنالك إقرار بالنسخ فما الذي بقي في المصحف العثماني المكتوب المحكم أم المتشابه)) [24]

  ويمكن أن نلخص آراء العلمانيين وتصوراتهم في النسخ وعلاقته بأزلية النص بما يأتي:

- لا يتأتى التوفيق بين القول بالنسخ والاعتقاد بأزلية النص وأنه في لوح محفوظ.

- العلاقة بين النسخ وجمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق t.

- وجود اللوح المحفوظ تصور أسطوري لا حقيقة له!.

- إعادة النظر في المفهوم الشائع لقوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اْلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر/9]. وفي السطور الآتية ننظر في هذه المزاعم ونناقشها:

 

1 – التناقض بين النسخ وأزلية النص :

  القرآن الكريم والصحف التي أهبطت على إبراهيم والتوراة والإنجيل والزبور، هذه الكتب كلها نزر يسير من كلام الله تعالى التي يشتمل عليه اللوح المحفوظ  وقد أشار تعالى إلى أنَّ كلامه لا يحيط به علم ولا يحصره عدّ، وتنتهي الأقلام مهما كثرت، وينفد المداد مهما عظم ولا تنفد كلمات الله: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي اْلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَاْلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اْللهِ إِنَّ اْللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان/27].

  ويشاء الله تعالى أن ينزل على عبد من عباده الذين اصطفى للرسالة والنبوة جزءاً من كلامه هذا، ليكون هذا المنزل شريعةً ومنهاجاً للناس الذين بُعث فيهم هذا النبي. ومعظم هذا الكلام الذي أنزل يبقى مطلوباً العمل بما فيه وتطبيقه ممن أنزل عليهم إلى أن يشاء الله أن ينزل كتاباً آخر على رسول آخر، ويشاء الله أيضاً أن يرفع - لحكمة يريدها ويعلمها – العمل بجزء من هذا الكلام الذي أنزله من حيث التطبيق على الناس دون إبطال لهذا (النص) في أصله، ودون تغير في علم الله، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿يَمْحُو اْللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ اْلْكِتابِ [الرعد/39]. ومعناها: أن يغير ما شاء من شرائعه وخلقه، على وفق علمه وإرادته وحكمته، وعلمُه لا يتغير ولا يتبدل، إنَّما التغير في المعلوم لا في العلم.

  بدليل قوله: ﴿وَعِندَهُ أُمُّ اْلْكِتابِ أي: وعنده المرجع الثابت الذي لا محو فيه، ولا إثبات وإنما يقع المحو والإثبات على وفقه، فيمحو شريعة ويثبت مكانها أخرى، ويمحو حكماً ويثبت آخر ، ويمحو مرضاً ويثبت صحة... وهكذا تعمل يد الله في خلقه وتشريعاته تغييراً وتبديلاً، وهو الحق وحده لا يعروه تغيير ولا تبديل، ولا يتطرق إلى علمه محو ولا إثبات.

  وخلاصة هذا التوجيه أنَّ النسخ تبديل في المعلوم لا في العلم، وتغيير في المخلوق لا في الخالق، وكشف لنا وبيان عن بعض ما سبق به عِلمُ الله القديم المحيط بكل شيء.

  ولهذا ذهب كثير من العلماء إلى تعريف النسخ بأنَّه بيان انتهاء الحكم الشرعي الذي تقرر في أوهامنا استمراره بطريق التراخي... [25].

 

  2 – النسخ وجمع القرآن في عهد أبي بكر:

  الادعاء بأنَّ ظاهرة النسخ تثير إشكالاً في وجه الفكر الديني كما ادعى نصر أبو زيد، وأنَّ ذلك يجعل المصحف العثماني واشتماله على كل ما أملاه النبي موضع شك وارتياب، كما يزعم طيب تيزيني، ادعاءٌ أخرق غير ظاهر؛ لأنَّ المنسوخ تلاوة وحكماً، لا يثبت، والمنسوخ حكماً لا تلاوة، يثبت، والمنسوخ تلاوة لا حكماً، لايثبت... فأي إشكال في ذلك؟.

  ونرجئ الكلام في الروايات التي ذكر العلمانيون أنَّها تشير إلى أنَّ بعض القرآن قد نسي من الذاكرة الإنسانية إلى الباب الثالث.

 

  3 – وجود اللوح المحفوظ تصور أسطوري :

  وأمَّا هذا الزعم، فهو لا يتصور أن يبوح به مسلم يوقن بأنَّ هذا القرآن من عند الله وأنَّ كل ما فيه حقائق ثابتة لا ريب فيها؛ لأنَّ الآيات التي تقرر هذه الحقيقة كثيرة، وهي واضحة لا لبس فيها.

  من ذلك قوله تعالى: ﴿ يَمْحُو اْللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ اْلْكِتابِ [الرعد/39].

  أي: يبدل ما يشاء فينسخه ويثبت ما يشاء فلا يبدله، وجملة ذلك عنده في أم الكتاب أي في أصله...

  ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ اْلْكِتابِ لَدَيْنَا لَعَلِي حَكِيمٌ [الزخرف/4]. وقوله: ﴿إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ¯فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ [الواقعة/77-78] وقوله: ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ¯مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ [عبس/13-14] وقوله: ﴿بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ¯فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظِ [البروج/21-22].

  وهذه الآيات التي تؤكد أنَّ للقرآن (النص) أصلاً هو اللوح المحفوظ أو الكتاب المكنون، لا تحتمل التأويل والصرف عن معانيها الظاهرة كما يذهب إليه الكاتب الإيراني الدكتور عطاء الله مهاجراني، حيث يقول: ((.. على سبيل المثال: كل المفسرين الذين حاولوا تفسير الآية (87) من سورة الواقعة التي تقول عن القرآن الكريم بأنَّه ﴿ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ أو الآية (22) من سورة البروج التي تعتبره ﴿ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظِ أو الآية (4) من سورة الزخرف التي تعرف القرآن بأنَّه ﴿ أُمِّ اْلْكِتابِ، صوروا الله سبحانه وتعالى وكأنَّ لديه مكتباً أو مخزناً أو أرشيفاً أو أنَّ صندوقاً يوجد في إحدى السموات فيها اللوح المحفوظ في حين أنَّ هذه العبارات والعلائم تمثل تعبيراً ورمزاً عن اتساع العلم الإلهي.

  ومن البديهي أنَّ العلم الإلهي ليس بحاجة للأدوات والآلات اللتين يستعملهما الإنسان لحفظ علمه. باختصار فإنَّ القرآن الكريم يقع في مجال العلم الإلهي، وإنَّ الكتاب المكنون وأم الكتاب واللوح المحفوظ، هي رموز من أجل تبيين ذلك العلم، ويمكن للقارئ وبالاعتماد على عقلانيته أن يجد من بين هذه الرموز طريقاً لمعرفة الحقيقة)) [26].

  والمغالطة ظاهرة في قوله: ومن البديهي أنَّ العلم... لا ريب أنَّ الله ليس بحاجة لذلك كله، لكن هذا لا علاقة له بوجودها، فهي موجودة والله غني عنها كما أنَّ الله تعالى مستغن عن الملائكة وما تقوم به من قبضٍٍ للأرواح ومراقبة، وغير ذلك، ولا أحد يشك في وجودها من المسلمين..!! ثم إنَّ التأويل لا مكان له إلاّ إذا استحال الظاهر، حتى لقد عدّ ابن رشد شهادة الظاهر وإشارته إلى التأويل الدليل على ضرورة هذا التأويل [27].

  فأين الاستحالة التي تحملنا على تأويل اللوح المحفوظ والكتاب المكنون بما ذكر مهاجراني من اتساع العلم الإلهي؟!.

 

  4 – إعادة النظر في مفهوم آية الحفظ :

  هذا ما يدعو إليه طيب تيزيني؛ لأنه يرى أنَّ النسخ الذي يكون من ورائه إبطال العمل بمضمون آية، يتناقض مع الحفظ الذي تعهد الله به لكتابه!!.

  والمعنى المراد من الحفظ في هذه الآية، تؤكده آيات أخرى كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اْلَّذِينَ كَفَرُواْ بِاْلذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ¯لا يَأْتِيهِ اْلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت/42] .

  فالباطل لا يأتي إلى براهينه وحججه، ولا يأتيه بتبديل أو تحريف كلمة أو زيادة فيه أو نقص فهذا الباطل بألوانه كلها لا يمكن أن يتسرب إلى هذا الكتاب العزيز [28].

 

ــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) انظر: مفردات ألفاظ القرآن (نسخ)، والبحر المحيط في أصول الفقه ، للزركشي (4/63-64) ، ومباحث الكتاب والسنة، للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي (262-263).

(2) المصدر السابق (263-264). وللاستزادة في الناسخ والمنسوخ، يُرجع إلى الدراسة المتميزة (النسخ في القرآن الكريم) للدكتور مصطفى زيد، رحمه الله تعالى.

(3) الكتاب والقرآن (160) وانظر: إتقان البرهان (2/417).

(4) انظر: تفسير النسفي (2/158) وابن كثير (2/475).

(5) انظر: من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي (69-74). وانظر كذلك : إتقان البرهان (2/368-369).

(6) حديث ابن عباس أخرجه البخاري في التفسير، ما ننسخ من آية (761) وانظر فتح الباري (8/17-18).

(7) الإسلام السياسي (43) وانظر: كتابه : معالم الإسلام (119). وانظر أيضاً: القرآن والتشريع، قراءة جديدة لآيات الأحكام، للصادق بلعيد (49)، وسقوط الغلو العلماني، للدكتور محمد عمارة (212).

 (8) انظر: الأصولية بين الغرب والإسلام (60-61) وسقوط الغلو العلماني (212-221).

(9) القرآن بين التفسير والتأويل، لأنور خلوف (50-51). وقصة الغرانيق التي استدل بها على معنى النسخ اللغوي من أسخف الموضوعات والأباطيل، وقد أشرت إلى بطلانها من قبل ، وذكرت المصادر التي كشفت زيفها ثمة.

(10) مفهوم النص (119-120). والرواية التي ذكرها ونسب السؤال فيها لأهل الكتاب، أوردها بغير سند الواحدي في أسباب النزول (30) لكنَّه نسب السؤال فيها لرهط من قريش. وانظر: لباب النقول، للسيوطي (22-23).

(11) انظر أقوالهم وأدلتهم والرد عليها في: تفسير المنار،  للسيد محمد رشيد رضا (1/416-417)، وإتقان البرهان (2/22-26)، والنسخ في القرآن الكريم، للدكتور مصطفى زيد (1/254-265).

(12) انظر: إرشاد العقل السليم (تفسير أبي السعود) (5/140-141).

(13) مفهوم النص (117).

(14) جدلية الخطاب والواقع (147).

(15) المصدر السابق (148).

(16)  المصدر السابق أيضاً (143). وانظر كذلك (130-142).

(17) انظر: المنتخب في تفسر القرآن الكريم، بإشراف المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر (84) وتفسير ابن كثير (1/332-333).

(18) مفهوم النص (122-123). وانظر: القرآن بين التفسير والتأويل (59).

(19) النص القرآني (363).

(20) النص القرآني (395-396).

(21) المصدر السابق (218).

(22) مفهوم النص (117).

(23) النص القرآني (254).

(24) المصدر السابق نفسه. وانظر أيضاً (358، 363- 364، 381) وقارن مع سيد القمني في كتابه: الأسطورة والتراث (251، 258 – 259).

(25) انظر: مناهل العرفان (2/199).

­(26) القراءات المتعددة (فكر ورؤى واجتهاد)، للدكتور عطاء الله المهاجراني (112). وانظر: كلاماً مضحكاً للمهندس محمد شحرور في معنى اللوح المحفوظ والكتاب المكنون والإمام المبين، حيث فرق بين هذه الثلاثة! كما فرق بين القرآن والكتاب والفرقان. الكتاب والقرآن (92-93).

(27) انظر: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال (32). وانظر أيضاً: النص الإسلامي بين الاجتهاد والجمود والتاريخية، للدكتور محمد عمارة (24-32).

(28) انظر في بيان حفظ القرآن وتفسير هذه الآيات:  هدي القرآن الكريم إلى الحجة والبرهان، للعلاّمة العارف الشيخ عبد الله سراج الدين (34-36).

 

 

 التعليقات: 1

 مرات القراءة: 5729

 تاريخ النشر: 19/12/2009

2010-02-02

بسام

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته سيدي الفاضل الدكتور الشيخ أحمد الفاضل جزاكم الله خيرا على هذه البحوث الشائقة في رد وكشف شبهات المبطلين . والذي أراه – والله أعلم – أن حب الظهور يقسم الظهور بل ويفضح العقول والنفوس فأمثال هؤلاء يعلمون أن أقرب طريق للشهرة هو في مخالفة الدين وأهله لأن الدين هو حياة المسلمين وأي مساس به مهما صغر سيشعل ويؤجج غيرة المسلمين . فالحمد لله الذي هيأ لديننا الحنيف علماء عاملين يزيلون ويكشفون كل شبهة يختلقها أعداءالحق و العلم الصحيح .سيدي نترقب منكم المزيدوجزاكم الله خيرا تلميذكم بسام عرب

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 103

: - عدد زوار اليوم

7398835

: - عدد الزوار الكلي
[ 70 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan