::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> قضية ونقاش

 

 

وقفة مع أنصاف المواقف ...

بقلم : سهير علي أومري  

أنصاف المواقف تعبير قديم جديد.... قديم بمدلوله جديد بمصطلحه... له أهله وناسه في كل زمان ومكان... فأما مدلوله فإنما يقصد به كل من تتلون مواقفه وتتبدل بحسب الظروف والأحوال... ذاك الذي يسير مع التيار ذات اليمين وذات الشمال، فإذا به قشة في مهب الريح تتلاعب به، فترميه تارة هنا وتارة هناك.... هو مع الديمقراطيين ديمقراطي حتى الصميم يدعو إلى التعددية الفكرية وحرية الرأي والمشاركة في العمل البناء كما ينادي بضرورة تعدد الآراء وقبول الآخر، تراه مع البيروقراطيين بيروقراطي حتى النخاع يدعو إلى الالتزام بالتسلسل الإداري مهما أدى ذلك إلى عرقلة مصالح الناس وتعقيدها... يؤيد سياسة القمع ومصادرة الحريات وكمِّ الأفواه... تراه مع المصلحين إصلاحياً أصيلاً له رسالة فكرية ومشروع حضاري، فإذا تبدل الحال وشاع الفساد تحول إلى أكبر من يسعى في الأرض فساداً وإفساداً.... هو مع المتدينين أكثرهم حرقة لنصرة هذا الدين وإعلاء شأنه ورفع صرحه ولوائه وتطبيق شرعه وأحكامه في كل دقائق الحياة وتفاصيلها ينتقد التفلت والإباحية ويدعو إلى الأخلاق والفضيلة... فإذا ما تبدل الحال غير الحال وتغير به الزمان أو المكان أصبح من العلمانيين المتعصبين يدعو إلى انفصال الدين عن الدولة منتقداً تقييد أحكام الشريعة لحرية الإنسان منادياً باقتناص الفرص لكسب الملذات، وكأن ليس بعد هذه الدار من دار.... تراه بين القوميين والوطنيين يعتز بانتمائه لأمته العربية وتاريخها المجيد... مفتخراً بتراثها... معتداً بحضارتها... مستعداً لبذل الغالي والرخيص دفاعاً عن كل شبر من أرضها... يثور لأي اعتداء يوجه إليها يدعو إلى لجهاد... يخرج مع المظاهرات... ينادي... يعتصم... يندد... يشجب... يدعو إلى قطع العلاقات مع الأعداء، ووقف كل أشكال التطبيع... وما إن تسير به الأيام أو الأحداث ويحوط به المستشرقون والمستغربون حتى تراه مبهوراً بحضارة الغرب غير معترف لأمته بماض أو حاضر أو حتى بمستقبل... لا يربطه بها رابط، ولا يعنيه من أمرها شيء... لا مانع لديه من قبول العدو... يثني على اتفاقيات الاستسلام أو السلام، ويُسرّ بإقامة العلاقات، وفتح السفارات، ويلوم كل أشكال المقاومة أو الجهاد.....

هذه نماذج أضعها بين أيديكم على سبيل المثال لا الحصر، ولكل منها في ذاكرتنا أسماء تمثلها رأيناهم في حياتنا، وعجّت بهم مجتمعاتنا.... أما تاريخ وجودهم فيرجع إلى وجود الإنسان على ظهر هذا الكوكب... حتى أن الله تعالى أنزل فيهم قرآناً يتلى فقال: "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)" أجل ما أدقّ هذه التعبير وما أبلغه!!... لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.... إنهم أصحاب الأقنعة الزائفة والجلود الملونة تراهم في كل مكان بوجه... يتبدل لونهم بحسب ألوان من حولهم... يبيعون مبادئهم لقاء أدنى مصلحة يعتقدون أنهم سيجنونها... والسؤال الذي يطرح نفسه: تُرى هل نحن منهم؟ ربما كان سؤالي قاسياً، ولكن يجدر بنا أن نحاسب أنفسنا قبل أن نُحاسب... إذن لنسأل أنفسنا هل نحن منهم؟ إذا لم نكن منهم هل نحن معرضون لأن نكون منهم.... ما العوامل التي تعرّض الفرد منا لأن يعيش حياته بلا عقيدة راسخة ولا مبدأ ثابت؟ إنها ثلاثة عوامل:

1- ضعف الشخصية: فالشخصيات الضعيفة تجعل أصحابها لا يتجرؤون على التعبير عن مواقفهم، ولا يتجرؤون على مواجهة من يعارضهم في الفكر أو العقيدة، فيبدؤون بمسايرة الجو، ثم يتطور بهم الأمر للتخلي التام عن مواقفهم أو مبادئهم بحسب الأجواء التي تصادفهم.

2- قلة العلم والثقافة: تجعل الإنسان عرضة للغزو الفكري والثقافي الذي تتعرض له أمتنا على نحو واسع، فتتبدل مواقفه وتتغير مبادئه بحسب قوة الغزو الذي يواجهه، وخاصة عندما يُبهر بشعارات التعايش مع الآخرين وتقبُّلهم فيبدأ بمجاراتهم على سبيل الانفتاح والرقي فإذا بهم يجرونه معهم فيتخلى عن قيمه وعقيدته وهو يظن نفسه شخصاً دبلوماسياً أو حضارياً.

3- ضعف الإيمان: يجعل الشهوة على اختلاف أنواعها –حب السيطرة، والملك، والزعامة، والجنس، والطعام، وجمع المال، وحب الظهور....- يجعلها تسيطر على الإنسان حتى يصبح عبداً لها يسعى للحصول عليها مهما كلَّف الثمن، فترخص في عينه المبادئ والقيم، فيعيش بلا عقيدة ولا مبدأ، كما أن ضعف الإيمان يقلّل شعور العبد برقابة الله تعالى، فيعيش حياته بازدواجية، فتراه مع الناس صاحب مبدأ ورسالة حتى إذا خلا مع نفسه تخلى عن قيمه وعقيدته، فجاء سلوكه غير ما يعتقد وغير ما يبدي، كذلك فضعف الإيمان يجعل الإنسان يماري للبشر ظناً منه أن نفعه أو ضره بأيديهم وحوائجه تقضى بهم، فيتخلى عن مبادئه تحت شعار المجاملة أو الحنكة في الوصول لما يبتغي.

أذكر ما ذكرت لنكون على بيِّنة فنحصِّن أنفسنا ونحصِّن من حولنا، وخاصة أننا ما كنا في وقت من الأوقات بحاجة لأجيالٍ راسخة بعقيدتها رسوخ الجبال، متعلِّقة بأهدافها تعلُّق الشمس في كبد السماء، متشبِّثة بإيمانها تشبُّث الجذر بأعماق التراب كحاجتنا في هذه الأيام لهذه الأجيال، فقد علا التيار وطمى الخطب حتى غاصت الركب، فكثيرة هي تيارات المدِّ التي أخذت تغزو عقولنا، ثم تنحسر آخذة معها عقائدنا السليمة ومبادئنا الراسخة لا لشيء إلا لتقصيرنا في مراقبة أنفسنا ووعينا التام لما نحن عليه من صفات نفسية وسلوكية... وصدق رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يوم وجَّه أمته لهذا الداء فقال: "لاَ تَكُونُوا إِمَّعَةً ، تَقُولُونَ : إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا ، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا ، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكْمْ ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا ، وَإِنْ أَسَاؤُوا فَلاَ تَظْلِمُوا." أخرجه التِّرْمِذِي

والسؤال الذي أطرحه عليكم هل بمقدرونا أن نتعايش مع الآخرين ممن يخالفوننا في العقائد والمبادئ ونصل لمآربنا -الشريفة طبعاً- دون أن نبدو إمعة لا مبدأ لنا ولا موقف؟ وكيف يكون ذلك؟

2/2/2009م


 التعليقات: 5

 مرات القراءة: 3849

 تاريخ النشر: 02/02/2009

2009-02-11

الصبحين

بدأت تلفت نظري مشاركات الأخ علاء الدين آل رشي ، وأحب أن أتعرّف عليه وجهاً لوجه ـ إن أمكن ـ

 
2009-02-08

علاء الدين آل رشي المدير الإعلامي في مكز الناقد الثقافي

تحياتي للكاتبة : قضية تستحق النظر والتفكير ولكن من المشروع التساؤل عن سرهذه المفارقة أو ما أسميتيه ( أنصاف المواقف )!!أنا أراها حالة طبيعية أو إفرازا ونتاجا لضياع المحضن التربوي المتكامل . أصدقك أننا بحاجة إلى أكثر من تلك الثنائيات المتقابلة، نحن نحتاج إلى روافع ذهنية وحوامل وجدانية تعيش باسم الله ومن أجل الإنسان . عندما دخل الاستعمار إلى مدينة الاسكندرية كما يذكر المؤرخ مؤنس كان تعداد سكانها 5000 مصري يرزحون تحت الفقر والجهل وكان حاكم الاسكندرية آنذاك أبسط ضابط في سلك الاستعمار مثقف أكثر منه ، وآرثر يقول لن يمتطي ظهرك أحد إلا إذا انحنيت للأخرين. نحن بحاجة ماسة إلى إحياء التوازن التربوي والخروج على الأفكار المحنطة للعقل والمجلطة للدم والموقفة للقلب باستمرار علينا أن نفكر ونرطب القلب باسم الله . أما أنصاف المواقف فلن نجد لها حلا إلا إذا فسحنا للناس أن يقولوا لا لزعامة الأفكار وقداسة الأشخاصألا توافقيني أن الله اسمه القدوس وليس القديس ؟! وعندما نؤمن بنسبية الصحة في مواقفنا ستتعدل من النصف إلى ثلاثة أورباع أو أكثر و سنجد أن المواقف ستعدل تدريجيا . أشكرك من قلبي ، وأتمنى أن يكون فينا أنصاف وأرباع ,اثلاث مواقف كي نصل إلى موقف كامل ، فلربما جمع المواقف مع بعضها يعين على نتيجة صحيحة لموقف سليم اللهم عرفنا على مواقفنا وأعنا على تفهم مواقف الآخرين كي نمضي على بصيرة بالخير ألقاكم وعلى الحب أودعكم وفي رعاية الله ورحمته وسلامه ,انسه أستودعكم .

 
2009-02-03

أبو المجد

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي بيده مقاليد الأمور وهو على كل شيء قدير تتفاوت المواقف وتختلف المجتمعات وتعدد الأهواء والرغبات ونحن نعيش ولله الحمد صحوة فكرية وثقافية ونحن نقابل سيلا عارما للإنفتاح على الحضارات والثقافات المختلفة وتنوّع الخطابات والرغبات ثم نبدأ نتساءل عن كيفية التعامل مع المتغيرات ونتشبث بالنصوص فنأخذ منها ما يروق لواقعنا وحياتنا ومستقبلنا متجاهلين الحرب الفكرية والتناقضات الإجتماعية والإسقاطات المذهبية وغيرها لنتحول إلى معاتبة ومجابهة ومقابلة غير مروغوبة لمن يريد الإصلاح والمتتبع لتاريخ هذه الأمة المسلمة حتى في أحلك الظروف والمواقف. نجد ظهور علماء عاملين ومصلحين ومجددين معدودين وهذا أكبر دليل على أن أمتنا تمرض ولكنها لاتموت وإن في ظهور مثل هؤلاء يجعلها تزداد قوة وصلابة وهيبة في مواجهة كل خطر محتمل.

 
2009-02-03

زينا

هذه دعوة أصيلة للتمسك بالهوية الإسلامية كأهم هوية.

 
2009-02-03

دعاء الأصفياء / بمعرفة الله.

السّلام عليكم* طبعاً أختي الكريمة، بإمكاننا أن نصل إلى مآربنا الشّريفة دون أن نكون إمّعة، لقد ذكرتِ ثلاثة أسباب تؤدي إلى التّذبذب، وهي نقائص في الإنسان، لا بدّ أن يتخلّص منها، وأرى أنّ ذلك يبدأ من السّبب الثّالث، فإذا قوّيننا إيماننا، وتعرّفنا إلى الله، ورسّخنا عقيدتنا، فإن ذلك سيؤدّي إلى قوّة شخصيّتنا لاقترابنا من الله، ويحفزنا إلى التّثقّف والاتّجاه إلى العلم لأنّنا أدركنا أهمّيّة ذلك. نرجو الله ألا يجعلنا من تلك الفئة. جزاكِ الله كلّ خير*

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1746

: - عدد زوار اليوم

7405435

: - عدد الزوار الكلي
[ 72 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan