::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> محاضرات وندوات

 

 

الإمام "الشافعي" رحمه الله تعالى

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان "المشرف العام"  

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغُرّ الميامين، وسلِّم تسليماً كثيرا. اللّهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علما، واجعل ما نقوله حجة لنا، ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

نعيش وإياكم مع الإمام محمد بن إدريس «الشافعي» أبو عبد الله... علم من أعلام المسلمين، وإمام من الأئمة المجتهدين، يرجع نسبه إلى هاشم بن عبد المطلب أحد أجداد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لقد عَدَّ كثيرٌ من العلماء هذا الإمام العظيم واحداً من المجددين، كما ورد في الحديث: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها". أخرجه أبو داود. فكان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أحد أولئك المجددين بفقهه المتميز، وحكمته، وعلومه متعددة الاتجاه؛ فقد كان محدِّثاً، وفقيهاً، ولُغوياً، وشاعراً، وتميّز عن سائر علماء زمانه وعصره بذكاء متميز وبديهة حاضرة.

^ مولده وبداية نشأته:

أ- مولـده:

ولد بغزة في فلسطين على الأصح، وفي رواية بعسقلان، وفي أخرى باليمن، ولد بمدينة غزة بفلسطين سنة 150 هـ، حيث خرج إليها والده إدريس من مكة في حاجة له، فمات بها وأمه حامل به، فولدته في غزة، ثم عادت به بعد سنتين إلى مكة المكرمة.

ب- بداية نشأته:

بدأ الإمام الشافعي رضي الله عنه حياته وهو محاط باليتم والفقر في آنٍ واحد، فرأت أمه أن تنتقل بولدها إلى مكة؛ لعله إذا عاد إلى أجداده وأعمامه يجد هناك من يرعاه ويكفله ويعتني به، فانتقلت به وهو صغير لا يجاوز السنتين.

وعندما كبر الإمام الشافعي رضي الله عنه كان يحدّث عن نفسه ويقول: "ولدت بغزة سنة خمسين ومئة يوم وفاة أبي حنيفة، فقال الناس: مات إمام وولد إمام. وحُمِلتُ إلى مكة وأنا ابن سنتين".

 ^ دراسته وتعلمه:

في مكة المكرمة حفظ القرآن الكريم وهو حَدَثٌ صغير السن، فقد كان شديد الذكاء شديد الحفظ، حتى إنه كان عندما يحفظ الصفحة من القرآن أو اللغة أو الشعر يضع يده على الصفحة المقابلة لئلا تختلطا في حفظه؛ فقد كان يحفظ من أول نظرة للصفحة، ثم أخذ يطلب اللغة والأدب والشعر حتى برع في ذلك كله.

يقول الشافعي رحمه الله تعالى: "حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر سنين". موطأ الإمام مالك كتاب فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمع فيه الإمام مالك أسانيده ومروياته، وقواعد فقهه ومذهبه، فحفظها الإمام الشافعي وهو ابن عشر سنين وهذا يدل على شدة ذكائه وجمعه بين القرآن والسنة منذ نعومة أظفاره.

تلقّى الشافعيُّ فقهَ مالكٍ على يد الإمام مالك، وتفقه في مكة على يد شيخ الحرم ومفتيه "مسلم بن خالد الزنجي" و"سفيان بن عيينة الهلالي" وغيرهما من العلماء، ثم رحل إلى اليمن ليتولى منصباً جاءه به "مصعب بن عبد الله القرشي" قاضي اليمن، ثم رحل إلى العراق سنة 184 هـ واطلع على ما عند علماء العراق، وأفادهم بما عليه علماء الحجاز، وعرف "محمد بن الحسن الشيباني" صاحب وتلميذ الإمام أبى حنيفة، وتلقى منه فقه أبي حنيفة، وناظره في مسائل كثيرة، ورفعت هذه المناظرات إلى الخليفة هارون الرشيد فسر بها سروراً كبيرا؛ لأنه بذلك جمع بين مدرستين فقهيتين عظيمتين؛ مدرسة أهل الحجاز، ومدرسة أهل العراق. فمدرسة أهل الحجاز كانت تُعنى بعلوم الحديث والرواية والأسانيد، وأما مدرسة العراقيين فكانت تُعنى بالرأي والعقل والاستنباط والاستنتاج.

ثم رحل من مكة إلى بني هذيل، وبقي فيهم سبع عشرة سنة، وكانوا أفصح العرب، فأخذ عنهم فصاحة اللغة وبيانها وشعرها وقوتها، ثم انصرفت همته لطلب الحديث والفقه من شيوخهما، فحفظ الموطأ وقابل الإمام مالك فأعجب به وبقراءته وبذكائه وشدة حفظه, فوجّهه إلى علم الحديث وأخْذِ الرواية وقال له: "يا ابن أخي! تفقَّهْ تَعْلُ". أي خذ الفقه وادرسه على أهله، يكن لك مقام عالٍ؛ لأنك تروي فقه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: "من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدين". وقال له الإمام مالك أيضاً: "يا محمد! اتّقِ الله فسيكون لك شأن". فالله تعالى يقول:[]...وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ...[] سورة البقرة (282).

 ^ رحلاته رضي الله عنه:

رحل الإمام الشافعي رحلات كثيرة كان لها أكبر الأثر في علمه ومعرفته، فقد رحل من مكة إلى بني هذيل، ثم عاد إلى مكة، ومنها رحل للمدينة، ليلقى فيها إمامَ دار الهجرة "مالكاً بن أنس" رضي الله عنه، وبعد وفاة الإمام مالك رضي الله عنه، رحل إلى بغداد، ثم عاد إلى مكة، ثم رجع إلى بغداد، ومنها خرج إلى مصر لينطلق انطلاقة جديدة، ويتوجه توجهاً جديداً، حيث التقى في مصر بعلمائها، وأعطاهم وأخذ منهم. ثم عاد مرة أخرى إلى بغداد سنة 195 هـ لأنها كانت ساحة ومجتمعاً لأهل العلم، وكان الخليفة آنذاك "الأمين"، وأصبح الشافعي في هذه الفترة إماماً مستقلاً، له مذهبه المستقل ومنهجه الخاص به. واستمر بالعراق مدة سنتين عاد بعدها إلى الحجاز بعد أن ألف كتابه "الحجة"، ثم عاد مرة ثالثة إلى العراق سنة 198 هـ، وأقام بها أشهراً، ومن هناك بدأ رحلته إلى مصر سنة 199 هـ ونزل ضيفاً عزيزاً على "عبد الله بن الحكم" بمدينة الفسطاط التي بناها عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه. وبعد أن خالط الإمام الشافعي المصريين وعرف ما عندهم من تقاليد وأعراف وعادات تخالف ما عند أهل العراق والحجاز أعاد النظر في مذهبه الفقهي والذي سمِّي فيما بعد بالمذهب القديم، والذي دونه في كتابه "الحجة"، ثم بدأ يُعِد مذهباً جديداً وضعه من خلال كتابه الجديد "الأم" وهو الذي سمي بالمذهب الجديد للإمام الشافعي رحمه الله تعالى. وقد أملى كتابه "الأم" على تلاميذه في مصر، وبذلك أصبح مذهب الإمام الشافعي مذهباً وسطاً بين أهل الحديث في الحجاز وأهل الرأي في العراق..

وقد رتب الشافعي أصول مذهبه كالآتي: كتاب الله أولاً، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ثانياً، ثم الإجماع والقياس والعرف والاستصحاب... وهكذا كان مذهبه دقيقاً من حيث أصوله وفروعه، وقد دون الشافعي مذهبه بنفسه.

ويعد الشافعي أول من ألّف في علم أصول الفقه، ويتضح ذلك في كتابه المسمى "الرسالة"، وقد كتبها في مكة وأرسلها إلى "عبد الرحمن بن مهدي" حاكم العراق حينذاك - مع الحارث بن شريح الخوارزمي البغدادي الذي سمى بالنقال بسبب نقله هذه الرسالة ولما رحل الشافعي إلى مصر أملاها مرة أخرى على "الربيع بن سليمان المرادي" وقد سمى ما أملاه على الربيع بـ"الرسالة الجديدة" وما أرسله إلى "عبد الرحمن المهدي" بـ"الرسالة القديمة"، وقد ذهبت الرسالة القديمة ولم يبقَ منها شيء، وما بين أيدينا هو الرسالة الجديدة التي أملاها على الربيع.

يقول الإمام "ابن خَلِّكان" في كتابه "وفيات الأعيان" متحدثاً عن رحلة الإمام الشافعي: "وحديث رحلته إلى الإمام مالك مشهور، فلا حاجة إلى التطويل فيه، قدم الشافعي بغداد سنة 195هـ، فأقام فيها سنتين، ثم خرج إلى مكة، ثم عاد إلى بغداد سنة 198هـ فأقام فيها شهراً، ثم خرج إلى مصر، وكان وصوله إليها سنة 199هـ وقيل سنة 201هـ، ولم يزل بها إلى أن توفي يوم الجمعة آخر يوم من رجب سنة 204هـ".

 ^ جَمْعُه وتخصّصه لشتى أصناف العلوم:

يتميز الإمام الشافعي عن سائر الأئمة بأنه جمع شتى أصناف العلوم وتخصص فيها جميعاً، ولم يكن علمٌ يمتاز عنده على علم، وهذا الذي جعل مذهبه مذهباً قوياً.

- حدّث "الربيع بن سليمان" قال: "كان الشافعي رحمه الله يجلس في حلقته إذا صلى الصبح فيَجِيْئُه أهل القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه وأحكامه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر، وأصبح فيها الحوار والجدال وبيان الرأي والخلافات العلمية، فإذا ارتفع الضحى تفرقوا وجاء أهل العربية والعَروض والنحو والشعر، فلا يزالون هكذا إلى قرب انتصاف النهار، ثم ينصرف رضي الله عنه إلى بيته".

- وحدث "محمد بن عبد الحكم" قال: "ما رأيت مثل الشافعي، كان أصحاب الحديث يجيئون إليه ويعرضون عليه غوامض علم الحديث، وكان يوقفهم على أسرار لم يقفوا عليها فيقومون وهم متعجبون منه، وأصحاب الفقه الموافقون والمخالفون لا يقومون إلا وهم مذعنون له، وأصحاب الأدب يعرضون عليه الشعر فيبين لهم معانيه". وكان يحفظ عشرة آلاف بيت لهذيل، إعرابها ومعانيها وأسرارها ودقائقها، وكان فوق ذلك كله من أعرف الناس بالتواريخ، بالوفيات والأنساب وما يتعلق بهذا الفن، وكان ملاك أمره إخلاص العمل لله تعالى في الطاعة والعبادة والعلم، ومن كان الإخلاص شعاره ورائده فتح الله عليه ويسّر أمره؛ لأن الإخلاص سر من أسرار الله سبحانه وتعالى يستودعه قلبَ من يشاء من عباده.

- قال "مصعب بن عبد الله الزبيري": "ما رأيت أعلمَ بأيام الناس من الشافعي". فكل ما يتعلق بأيام الناس كأخبارهم وتاريخهم ومعارفهم وفتوحاتهم ورحلاتهم كان عند الإمام الشافعي علم به وتخصص، وكأن غيره لا يعلم شيئاً.

- وروي عن "مسلم بن خالد" أنه قال لمحمد بن إدريس الشافعي وهو ابن ثمانية عشر عاماً: "أفتِ أبا عبد الله فقد آن لك أن تفتي". فقد كان العلماء يطلبون منه التفرغ للفتوى لأنهم رأوا فيه العلم الواسع والمعرفة الكبيرة.

- وقال "الحميدي"صاحب "المسند": "كنا نريد أن نرد على أصحاب الرأي فلم نحسن كيف نرد عليهم، حتى جاءنا الشافعي ففتح لنا". فقد استطاعه بعلمه في الحديث أن يقف أمام العراقيين أصحاب الرأي، يقارعهم الحجة بالحجة والدليل بالدليل.

 ^ تواضعه وورعه وعبادته:

إن هذا العلم الكبير والاطلاع الواسع والبحر الزاخر من العلم كان يجمّله تواضع وورع وعبادة وزهد في هذه الدنيا.

كان الشافعي رضي الله عنه مشهوراً بتواضعه وخضوعه للحق ووقوفه عنده، تشهد له بذلك مناظراته ودروسه ومعاشرته لأقرانه ولتلاميذه وللناس بشكل عام. وقد قال الشافعي رضي الله عنه: "والله ما ناظرت أحداً إلا على النصيحة". أي ليبيّن له الواقع، لا لينتصر عليه أو ليقيم الحجة مفتخراً، إنما ليبدله على الحقيقة التي فاتته، وهذا من تواضعه رحمه الله تعالى. وقال أيضاً: "ما أوردتُ الحق والحجة على أحد فقبلهما إلا هبته واعتقدت مودته، ولا كابرني على الحق أحد ودافع الحجة إلا سقط من عيني". وقال مبيّناً منهجه في العبادة وصلته بالله سبحانه وتعالى: "أشد الأعمال ثلاثة: الجود من قلة، والورع في خلوة، وكلمة الحق عند من يرجى ويخاف". وهذا دليل على أن الله تعالى قد فتح بصيرته ونوّر قلبه، فكان يأتي بالدرر، وينطق بالحِكم، ويبلِّغ الناس رسالة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما ورعه وعبادته وطاعته ونور قلبه شهد له بها كل من عاشره أو عامله بأي نوع من أنواع المعاملات؛ أستاذاً كان أو تلميذاً، أو جاراً، أو صديقاً. قال الربيع بن سليمان: "كان الشافعي يختم القرآن في رمضان ستين مرة كل ذلك في صلاة". فقد كان يكثر من تلاوة القرآن ويختمه كثيراً لأنه يرى في تلاوة القرآن أصول العبادات كلها. وقد قال الشافعي: "والله ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعة طرحتها لأن الشبع يثقل البدن، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة". وقال: "كان الشافعي قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء: الثلث الأول يكتب، والثلث الثاني يصلي، والثلث الثالث ينام".

 ^ فصاحته وشعره وشهادة العلماء له:

كان الشافعي من كبار الشعراء، فقد كان يقول عن نفسه...

ولولا الشِّعرُ بالعُلماءِ يُزْريْ     لَصِرْتُ اليومَ أشعرَ من لَبيدِ

لقد كان الشافعي رضي الله عنه فصيح اللسان، بليغاً، حُجَّةً في لغة العرب ونحوهم، اشتغل بالعربية عشرين سنة مع بلاغته وفصاحته، ومع أنه عربي اللسان والدار والعصر إلا أنه عاش فترة من الزمن في بني هذيل فكان لذلك أثره الواضح على فصاحته وتضلعه في اللغة والأدب والنحو، إضافة إلى دراسته المتواصلة، واطّلاعه الواسع حتى أضحى يُرجع إليه في اللغة والنحو. وكان الشافعي ممن تؤخذ عنه اللغة .

قال "الأصمعي": "صحَّحْتُ أشعار الهذليين على شاب من قريش بمكة يقال له محمد بن إدريس". وعندما يشهد بهذه الشهادة رجل بمقدار الإمام الأصمعي له مكانته بين اللغويين والأدباء والمحققين والقراء، فهذا دلالة واضحة على مقام الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.

وقال الإمام "أحمد بن حنبل": "كان الشافعي من أفصح الناس، وكان مالك تعجبه قراءته لأنه كان فصيحاً". وقال أحمد بن حنبل أيضاً: "ما مس أحد محبرة ولا قلما إلا وللشافعي في عنقه مِنَّة". أي من علماء ذلك العصر، فجميعهم تلقّى عنه أو حضروا مجالسه وأخذوا عنه الفقه والحديث واللغة والشعر.

وحدّث "أبو نعيم الاستراباذي": سمعت الربيع يقول: "لو رأيت الشافعي وحسن بيانه وفصاحته لعجبت منه، ولو أنه ألف هذه الكتب على عربيته - التي كان يتكلم بها معنا في المناظرة - لم يقدر على قراءة كتبة لفصاحته وغرائب ألفاظه غير أنه كان في تأليفه يجتهد في أن يوضح للعوام".

رحم الله الإمام الشافعي على هذه القدرات العلمية العظيمة، والمكانة الكبيرة التي أكرمه بها، وجاء ذلك في كتبه وعلمه وفقهه.

 ^ سـخاؤه:

        لقد تميز العلماء في تلك المرحلة بخصالٍ متنوعة، فهم ليسوا علماء فقط، إنما كانوا يخشون الله سبحانه وتعالى، وكانوا أصحاب بصيرة نافذة، وكانت قلوبهم منَوَّرة، وأيديهم معطاءة وسخيّة.

ومن ذلك ما يُروى عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أنه كان رجلاً سخيّاً؛ فقد بلغ فيه السخاء غاية جعلته علماً عليه يُشار إليه بالبنان، ولا يستطيع أحد أن يتشكك فيه أو ينكره، وكثرت أقوال من خالطه في الحديث عن سخائه وكرمه وجوده وعطائه، وهو بذلك يشبه الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى؛ فقد كان كلٌّ منهما معطياً ولم يكن آخذاً.

وقد كان الشافعي أسخى الناس بما يجد، يقول "عمرو بن سواد السرجي": "كان الشافعي أسخى الناس عن الدنيا والدرهم والطعام، فقال لي الشافعي: أفلست في عمري ثلاث إفلاسات، فكنت أبيع قليلي وكثيري، حتى حُلي ابنتي وزوجتي ولم  أرهن قط". فعندما كان يُضطر ليجود على الناس كان يأخذ من مال زوجته وابنته ثم يرد إليهما ما أخذ منهما.

قال الربيع: "كان الشافعي إذا سأله إنسان يحمرّ وجهه حياء من السائل، ويبادر بإعطائه".

 ^ من أقوال الشافعي رحمه الله تعالى:

من أقواله: "من حفظ القرآن نَبُلَ قَدْرُه، ومن تفقه عظمت قيمته، ومن حفظ الحديث قويت حجته، ومن حفظ العربية والشعر رق طبعه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه العلم".

فأما من حفظ القرآن فيرتقي قدره، ويجلّه الناس، ويحترمونه، ويشيرون إليه بالبنان، فالذي يقرأ القرآن ويرتّله ويجوّده ويحفظه إنما يقرأ كتاب الله والوحي الذي أُنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم.

وأما من تفقّه فتَعْظُم قيمته؛ لأنه يصبح مرجعاً للناس في شؤونهم وقضاياهم من بيع وشراء ومعاملات وعقود، فيستفتونه ويسألونه عن شؤونهم الكبيرة والصغيرة.

وأما من حفظ الحديث قويت حجّته؛ لأن الحديث هو كلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن حفظ كلام رسول الله عليه الصلاة والسلام وردّده على لسانه سلم من الخطأ واللَّحن واللّغط، وكان لسانه ذاكراً دائماً وراوياً للحديث.

وأما من حفظ لغة العرب وشعرهم فيرقّ طبعه؛ لأن اللغة العربية من أعظم اللغات الحية على وجه الأرض رقة؛ ففيها الشعر، وفيها النثر، وفيها القصة، وفيها الرواية، وفيها المعلَّقات وكل ما يزيد الإنسان صلة بالقرآن الكريم. فاللغة العربية هي لغة القرآن الكريم.

هكذا فالإمام الشافعي لم يكن فقيهاً فحسب، وإنما كان واعظاً أيضاً، يتخلّل حديثه مع طلابه وجلّاسه بهذه المواعظ ليرقِّق قلوبهم ويُنَوِّر بصرهم وأبصارهم.

 ^ من أشعاره:

        لقد كان الإمام الشافعي – كما أسلفنا – شاعراً، ومن الشعر المميز الذي يُنسب إليه:

نَعيبُ زمانَنـا والعيبُ  فينـا       وما لِزماننِا عيـبٌ سِـوانـا

ونهجو ذا الزمـان بغيرِ  ذنبٍ      ولو نطق الزمانُ لنـا هجانـا

وليس الذئبُ يأكلُ لحمَ  ذئبٍ      ويأكلُ  بعضُنا بعـضاً عِيانـا

        هذه الأبيات فيها نصائح وإرشادات بألا يَعيب أحدٌ أحدا، وألا يعيب الزمانَ الذي نشأ فيه، فقد نكون نحن عيبَ هذا العصر. فالأمر لا يُقاس بهذه الأساليب، وإنما علينا أن نجتهد ونجدَّ ونتعب في طلب العلم؛ حتى نحصّل الأمور العالية ونبلغ درجات الكمال.

 ^ انتشار مذهبه:

انتشر مذهب الشافعي في الحجاز، والعراق، ومصر، والشام، وفلسطين، وعدن، وحضرموت، وهو المذهب الغالب في اندونيسيا، وسريلانكا، ولدى مسلمي الفلبين، وجاوه، والهند الصينية واستراليا... والكثير من بلاد العالم يدينون الله تعالى ويتعبّدونه على مذهب الإمام الشّافعي رحمه الله تعالى، وبذلك فإن مذهبه قد قاسم المذاهب الثلاثة الأخرى (مذهب الإمام أبي حنيفة، ومذهب الإمام مالك، ومذهب الإمام أحمد بن حنبل).

ومذهبه في بلاد الشام منتشر بكثرة، فدمشق – على سبيل المثال – موزّعة ما بين المذهبين الكبيرين (الحنفي والشافعي)، فإذا ما انطلقتَ إلى قرى دمشق أو المحافظات تجد انتشاراً واسعاً لمذهب الإمام الشّافعي.

 ^ كتـبه:

كتب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى كثيرة ومهمة وأهمها ثلاثة: "الرسالة" في أصول الفقه، "الأم" في فروع الفقه، "جِماع العلم" في الحديث النبوي، وهو أشبه بالمُسند. فالإمام الشافعي برع في جميع العلوم، وتنوع اختصاصه في أصنافها المتعددة.

 ^ وفاته رحمه الله:

توفي الشافعي ليلة الجمعة بعد العشاء الآخرة - بعد ما حل المغرب - آخر يوم من رجب ودفنوه يوم الجمعة فانصرفوا فرأوا هلال شعبان سنة 204 هـ أربع ومئتين.

قال ابن خلكان صاحب وفيات الأعيان: "وقد أجمع العلماء قاطبة من أهل الحديث والفقه والأصول واللغة والنحو وغير ذلك من الفنون على ثقته وأمانته وعدله وزهده وورعه وحسن سيرته وعلو قدره وسخائه".

ومن أروع ما رثي به من الشعر قصيدة طويلة لمحمد بن دريد يقول في مطلعها:

ألمْ ترَ آثارَ ابنِ إدريسَ بَعدَهُ       دلائِلُها في المُشكلاتِ لوامعُ

رحم الله إمامنا الشافعي ورضي عنه.

 ^ دعاء:

نسأل الله تعالى أن يجعل فقه الإمام الشافعي حجة لنا ولا يجعله حجة علينا، وأن يهيئ من يُخلُف هذا الإمام على رأس كل مئة عام، وغيره من الأئمة العظام، اللهم ارحمهم وارض عنهم، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 التعليقات: 1

 مرات القراءة: 4623

 تاريخ النشر: 28/03/2010

2010-04-04

زاهر

جزاك الله خيرا وجعلنا وإياك ممن استعملهم الله لخدمة دينه

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1795

: - عدد زوار اليوم

7452997

: - عدد الزوار الكلي
[ 33 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan