::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مساحة حرة

 

 

أيهما البديل الحداثة أم الدين ؟

بقلم : الدكتور أحمد محمد الفاضل  

 

  الذي يظهر أنَّ الحداثة في أول نشأتها في شرقنا ، كانت تتعلق بقضايا الأدب والشعر والفنون ، ومن هنا برز مصطلح (شعراء الحداثة) ، وقد تسرب هذا المصطلح من الغرب إلى الشرق العربي .

  وكان من آثار ذلك في الشعر العربي أن تجاوز كثيرٌ ممن تلقفوا هذا المصطلح عامودية الشعر العربي ، واخترقوا أوزانه وبحوره المعروفه ، فكان من ذلك ما يسمى بـ (شعر التفعيلة) أو (الشعر الحر) أو (الشعر المنثور) .

  هذا التغير الذي حدث ، كان بمنزلة الصعقة التي فاجأت الأدباء والشعراء الاتباعيين (الكلاسيكيين) غير أنَّ هذا المصطلح الأدبي ، لم يعد خاصاً بالشعر والنقد ، بل تخطاه إلى الدِّين وقضاياه ، فصارت تطرق أسماعنا كلمات مثل : تحديث الذِّين ، تطويره ، تطوير الخطاب الديني ... لفظ عام لكنهم يريدون منه الإسلام ، فهو الذي يحتاج إلى التحديث والتطوير ..!!

  إنها الحداثة التي تريد نقض الثوابت وهدمها بحيث لا يبقى في الأذهان مصطلح مستقر إلا وغُيِّر وبدل ؛ ليكون بمعنى جديد يناسب روح العصر الذي نعيش فيه ..!!

  ولو تسنى لهم لتجاوزوا وتمادوا فطلبوا التغيير في الكون نفسه من شمس وقمر وأرض وبحر ... فالتغيير ينبغي أن يجتاح كل شيء ...!!

  إن الحداثة لا تفرق بين الثابت والمتغير ، فالتطوير كما يكون في الأحكام والمعاملات ، يكون في العقائد والإيمانيات ؛ لأنَّ مفهوم العقائد بما يتضمنه من غيبيات وما يتصل بها ، لا يدخل في مفهوم الحداثة ؛ فالمحسوسات والمشاهدات هي الأصل ، وأمَّا ما وراء ذلك فهو داخل في عالم الأساطير وما تخيّلته العقول من أوهام طوال تاريخ الإنسانية المديد ، لذلك كان الدِّين عامة والإسلام خاصة في طرف ، والحداثة في آخر ، فلا يمكن أن يلتقيا ، أو يتقاطعا في نقطة واحدة .

  إن الأثر الخطير للحداثة ، صرنا نلحظه واضحاً في أفكار بعض المسلمين ممّن درس في الغرب أو في مدارس ومعاهد على نمط غربي أو تأثروا بما تبثه بعض وسائل الإعلام من أفكار ، فتراهم يجادلون فيما كان من المسلمات أو البدهيات من حقائق الدين الراسخة ، فإن كان عند أحدهم بقية من إيمان ، سعى جهده للتأويل في الغيبيات مثلاً بما يناسب الماديات ، ليصل – بزعمه إلى صيغة تجمع بين الدين الغيبي والعلم المادي ..!!

  وأمَّا في أحكام الدِّين من معاملات وأسرة وحدود ، فهو يسعى أيضاً لتوقيت هذه الأحكام وحبسها بزمانها ومكانها وأشخاصها الذين نزلت فيهم أو خاطبتهم فهو لم يردها صراحة ، لكنه ردَّها ضمناً بتعطيلها وتحييدها .

  وأما الذين يجاهرون في إنكار الدين وعداوته ، فهم ليسوا بحاجة إلى مثل هذه الصيغة التي تقدَّم ذكرها ؛ لأنهم يرون أنَّ الدين في الأصل وضع بشري طورته الإنسانية ثم نسبته إلى السماء أو إلى قوة خفية عظيمة لا تراها ...!!

  هذا ، ومما يدهش حقاً في هذا المضمار أن بعض الإسلاميين ، سلكوا سبيل الحداثيين من حيث لا يشعرون ، فتراهم يؤولون المعجزات التي ذكرت في القرآن الكريم للأنبياء وغيرهم تأويلاً        متعسفاً ، ليخرجها من كونها خارقة للعادة متجاوزة للأسباب الظاهرة إلى خير مادي ، ليسهل – بزعمهم على العقول قبولها والإيمان بها ..!!

  فمثلاً ، يفسرون شفاء يعقوب عليه السلام من الغشاوة التي غطت عينيه حزناً على يوسف وأخيه ، بأنه – أي الشفاء من أثر العرق المادي الذي كان يحمله قميص يوسف ..

  مع أنَّ الآية في غاية الوضوح في أن ذلك الشفاء إنما كان معجزة تجاوزت منطق المادة والحس ، وإلا فكيف نفهم وجدان يعقوب عليه السلام لرائحة يوسف عليه السلام قبل وصول إخوته الحاملين قميصه من مسافة بعيدة ؟   إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون

  فتفسير الشفاء بأنه من أثر العرق أثرٌ من آثار الحداثة التي تسربت إلى عقول هؤلاء وهو غافلون ...

ولو تحدثنا عن المصطلح الإسلامي في التجديد ، لرأيناه بعيداً كل البعد عن المصطلحات التي يريدها الحداثيون ؛ إذ التجديد في الإسلام إزاحة كل ما علق بالدين ممَّا ليس منه في الأصل كالبدع والعادات والتقاليد ... وهذا هو المراد من الحديث النبوي الذي يقول : ((إنَّ الله تعالى يبعث على رأس كل مائة سنة مَن يجدد لهذه الأمة دينها)) .

  فتجديد الدين هنا إعادته إلى نضارته الأولى التي كان عليها في زمن رسول الله وأصحابه الكرام ، وهذا المعنى يناقض ما يريده الحداثيون كل المناقضة ، لذلك لا نجد في تاريخ هذه الأمة أحداً ادَّعى أنَّ التجديد في الدين ، هو فهم المصطلحات الثابتة فهماً جديداً لا يمت بصلة إلى معانيها التي كانت تدل عليها زمن البعثة ، ولو كان كذلك ، لكانوا أولى منا بهذا التجديد ؛ لأنهم كانوا أحرص على الدين من الذين جاؤوا من بعدهم ، بل إننا نجد في حياة الصحابة والتابعين من التشبث بأهداب هذا الدين وثوابته ما يثير العجب العجاب ، وخاصةً في  متابعة النبي  متابعة دقيقة ، وكأنَّ المتابع يرى رسول الله رأي العين فهو يسير على أثره ... ومن أمثلة ذلك – وهي كثيرة جداً الصحابي عبدالله بن عمر الذي كان يقفو أثر النبي في الجبليات التي ليست من السنن في الأصل فضلاً عن المتابعة بالسنن والمندوبات .

  وهذا الصديق أبو بكر ، ينتفض انتفاضة العُقاب لما حدثه بعض الصحابة في أمر المرتدين ومانعي الزكاة ، وفي النظر في إمارة أسامة بن زيد الذي اصطفاه النبي  قائداً وأميراً للجيش الذي جهزه لمقارعة الروم قبل وفاته بقليل ، أبو بكر هذا يقول في شأن المرتدين : والله لو منعوني عقالاً (حبلاً) كانوا يعطونه لرسول الله لقاتلتهم عليه ..! وقال في إمارة زيد : كيف أحل رايةً عقدها رسول الله ؟!..

  ومن التجديد المقبول عرض الثقافة الإسلامية أو الحقائق الدينية من عقائد وأحكام في العبادات والمعاملات بطريقة جديدة تناسب لغة العصر وثقافته ، فمثلاً : ليس هناك من ضير في عرض أبواب الفقه الإسلامي بأسلوب جديد من حيث اللغة والتقسيم والتبويب وتوضيح عبارات الفقهاء قدر المستطاع ، ومن ذلك أيضاً : العناية الكبرى بالقضايا المعاصرة التي استجدت في عصرنا ، وإبداء الحكم الشرعي المناسب لها مع النظر إلى الثوابت والمتغيرات دون إفراط ولا تفريط .

  ولعل قائلاً يقول : ما السبيل للوقوف في وجه الحداثة والحد من خطورتها ؟

  والجواب : أنه ليس هناك من سبيل لذلك إلا سبيل الدين الحق (الإسلام) لأنَّ الحقائق التي جاء بها هذا الدين لا يمكن مقارعتها أو معارضتها بحال من الأحوال ، وهذا مالا نجده في غيره .

-     فالإسلام آخى بين العقل والنقل (الوحي) فأعطى كلاًّ منهما حقه في ساحته ، لذلك نرى أنَّ الأدلة الكبرى على وجود الخالق سبحانه وتعالى وعلى البعث وغيرها من قضايا الغيب ، برهن عليها القرآن الكريم ببراهين عقلية منطقية ، فمثلاً قوله  : " أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون  "  يلزم الإنسان بأحد ثلاثة أمور :

-     - إمَّا أن يكون قد خلق من غير خالق ، وهو باطل ؛ لأنه رجحان من غير مرجح .

-       - وإمَّا أن يكونك قد خلق نفسه ، فكان في وقت واحد خالقاً ومخلوقاً وهو باطل أيضاً ؛ لأنه يلزم منه الدور والتسلسل .  

-       - وإمَّا أن يكون قد خلق السموات والأرض ... وهو أمر لم يتفوَّه به عاقل ..!

-       فالعقل بمنزلة العين المبصرة السليمة ، والنقل بمنزلة النور المكافئ ، فكما أنَّ العين لا ترى إلا بوجود النور ، كذلك لا ينفع النور إذا كانت العين معطلة غير سليمة .

-       - وكما جمع الإسلام بين العقل والنقل ، كذلك جمع بين الروح ومتطلباتها وبين الجسد وحاجاته ، وكل ذلك من خلال ميزان دقيق حتى لا يطغى طرف على طرف ؛ لهذا لم يكبت الغرائز ومتطلبات النفس البشرية ، بل ننظمها وجعل لها أقنية تسير فيها ، فلم يحل بين الإنسان والطعام والشراب ولم يحل بينه وبين غريزة (الجنس) حيث لا يمكن دفعها خلافاً للأديان الأخرى التي حبست هذه الغرائز لترقى الروح بزعمهم في الظاهر ، لكنَّ الواقع أنَّ هذه الغرائز المحبوسة أطلقت في الباطن والخفاء  إلى حد جعل الروح في حكم الموات ..

-       إن الإسلام يتناغم مع حياة الإنسان ، ويتناغم مع الكون ، فالثوابت فيه تحكي الثوابت في الإنسان والكون ، والمتغيرات أيضاً تنسجم مع المتغيرات في الإنسان والكون ، فلا نجد تنافراً ولا تعارضاً ، بل نجد تآخياً وتآلفاً .

-       ومما يؤكد ما سبق ويقرره تفوق القرآن الكريم على كل الكتب المقدسة السابقة ، وخاصةً في قضايا العلم والتاريخ ، كما ثبت ذلك في دراسات كثيرة كتبها كُتَّاب غير مسلمين في الأصل ، كموريس بوكاي في كتابه (دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة) ومراد هوفمان الألماني في كتابه (الإسلام كبديل ) وغير ذلك ..

-       كل ما تقدَّم يجعلنا على يقين راسخ بأنَّ الإسلام هو الحل أو هو البديل كما قال هوفمان ، لا الحداثة ولا الفلسفات المعاصرة ، إنه الطود الشامخ الذي تتحطم على صخرته الصلبة كل الأفكار والفلسفات التي تريد أن تُخرج الإنسان عن فطرته التي فطره الله تعالى عليها ، لتجعل منه مخلوقاً آخر كالبهائم بل أحط منها ... إنه البديل والحصن الحصين .

    

 


 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 3393

 تاريخ النشر: 07/04/2009

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 717

: - عدد زوار اليوم

7395599

: - عدد الزوار الكلي
[ 66 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan