::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> محاضرات وندوات

 

 

دخول النبي عليه الصلاة والسلام المدينة المنوّرة

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان (المشرف العام)  

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا، ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

        نتحدث في هذه المحاضرة عن دخول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، كيف استقبله أهل المدينة (الأنصار)؟ وما هي الدروس التي نستفيدها من دخوله عليه الصلاة والسلام أرضَ المدينة المنورة؟ ماذا يعلّمنا عليه الصلاة والسلام بأفعاله التي سجّلها للتاريخ عند دخوله المدينةَ المنورة؟

^ وصوله عليه الصلاة والسلام وخروج أهل المدينة لاستقباله:

        المعروف كما هو واردٌ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلمين من أهل المدينة لمّا سمعوا بخروجه عليه الصلاة والسلام إليهم كانوا يخرجون في كل غداةٍ إلى الحَرَّة[1] فينتظرونه صلى الله عليه وسلم، حتى إذا مسّهم حر الظهيرة انقلبوا راجعين بعد أن أطالوا الانتظار ولم يَقدُم عليهم النبي عليه أفضل الصلاة والتسليم.

        وذاتَ يوم جاء رجل من اليهود، فوقف على حصن من حصون المدينة المنورة لأمر ما، فإذا به يبصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم في ثياب بيض قد قدموا من بعيد، وكلما اقتربوا منهم تصبح معرفتهم أسهل، فلم يملك اليهودي إلا أن قال بأعلى صوته: "يا معاشرَ العرب! هذا جدّكم الذي تنتظرون". سمعه أهل المدينة، فخرجوا وهبّوا لاستقبال النبي صلى الله عليه وسلم وهم يَنْظُمون الأهازيج، ويردّدون عباراتِ الفرح، ومن أروع ما كانوا يقولون:

طلع الـبدر علـينا     مـن ثنـيِّةِ الـوداع

وجـب الشكرُ علينا     مـا دعــا لله داع

أيهـا المبعـوثُ  فينا     جئت بالأمـر المطاع

جئت شرَّفـتَ المدينة     مرحباً يا خيرَ سـاع

هذا النشيد هو النشيد الذي استُقبِل به النبي صلى الله عليه وسلم تعبيراً عن الفرحة.

ما أعظمه من نشيد!

ما أروعه من كلام!

ما أطيبه من استقبال يستقبل به الأنصارُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد طول انتظار!

        الشيء الملفت للأنظار هو ما فعله أهل المدينة حينما قدموا بصبيانهم وبناتهم الصغار، وجعلوهم في مقدمة المستقبلين. لفت هذا الأمر النبيَّ صلى الله عليه وسلم عندما نظر في القوم ورأى بنيّات صغيرات وهن يردّدن هذه الأهازيج فرحات بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وقد أعطانا عليه الصلاة والسلام درساً في التواضع وحسن معاملة الأطفال حينما نزل على

 ركبتيه وخاطب أولئك البنات الصغيرات قائلاً: "أتُحْبِبْنَني؟". قلن: "نعم يا رسول الله!". فقال: "والله إن قلبي يحبّكنّ". انظروا أيها الإخوة إلى هذا المعنى الجليل الدقيق الذي يظهر في تضاعيف كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

درس في غرس القدوة:

        لقد عرف أهل المدينة المنورة الأنصار كيف يزرعون محبة النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب أبنائهم الصغار، لقد جعلوا من شخصيته عليه الصلاة والسلام المثلَ الأعلى، والقدوة، والمثال الكامل الذي يُقتدى به. هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام كان النموذج الأبرز لأهل المدينة المنورة، لذلك هيّؤوا أطفالهم لاستقبال هذا النبي الكريم، ومعنى ذلك أنهم أعطَوا أبناءهم درساً من نعومة أظفارهم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم مثالهم الذي يُحتذى به، وقدوتهم التي يقتدون بها، وما أروع هذا الدرس الذي نستفيده منم هذا المشهد. فعلينا أن نتعلم كيف نصنع لأطفالنا نموذجاً حسناً، قدوة صالحة يقتدون بها، وهل هناك أروع وأعظم وأحسن وأكمل وأفضل من شخصية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

أ- ظهور منافس للقدوة في عصرنا:

        أيها الإخوة! نحن في عصر تنافسَ فيه المثل الأعلى مع المتنافسين. ظهر الآن في مجتمعاتنا مطربون ومطربات، ممثلون وممثلات، لاعبون ولاعبات، ظهر لأطفالنا وشبابنا وبناتنا من ينافس هذه الشخصيات، وللأسف أنا أستخدم مصطلح المنافسة هنا، الأصل أنه لا يصح أن ينافسَ أحدٌ سيدَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة الكرام رضي الله عنهم، أبطالَ الصحابة وشبابهم الفاتحين، الذين نشروا العلم والمدنيّة، ونشروا الحضارة في الدنيا، نقلوا إلى العالم أخلاق الإسلام الكريم؛ الحلم، العلم، السماحة، العدالة، الجود، السخاء، الكرم، حسن الضيافة، حسن الرعاية، الأدب مع الكبير، العطف على الصغير، احترام الأيتام... ماذا نعدّد من هذه الأخلاق الكريمة التي نشرها أولئك الأبطال المسلمون من الصحابة ومن أبنائهم رضي الله تعالى عنهم؟!

ب- خطر شديد يهدد أبناءنا:

        إذاً.. حينما تتعلق قلوب أبنائنا وبناتنا باللاعب الفلاني أو الممثل الفلاني أو المطرب الفلاني... علينا أن ندرك أن هذا الأمر خطر شديد يهدد مستقبلهم، وثقافتهم، وبنيتهم التركيبية السلوكية الخُلُقية، وأن هناك اختراقاً واضحاً قد دخل إلى عُمْقِ بيوتنا، فعلينا أن ندقّ ناقوسَ الخطر والحذر من هذه الظاهرة. علينا أن نربي شبابنا وأطفالنا وبناتنا الصغار على حب القرآن، وحب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، علينا أن ندرّبهم ونعلمهم ونعوّدهم على قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.

جـ- واجبنا في تعليم أبنائنا السيرة النبوية:

        الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى يقول: "كنّا نعلم أبناءنا مغازيَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما كنا نعلمهم الصفحةَ من القرآن". لقد كانوا يعلمون أبناءهم غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وفتوحاته؛ تاريخ الغزوة، ماذا وقع فيها، ما هي الأحكام المستفادة منها؛ كالأحكام الفقهية والمسائل التشريعية والقضايا السلوكية، فكان التابعون يعلّمون أبناءهم هذه الأمور ويربّونهم على هذه الأخلاق العظيمة القويمة.

ء- أعداء الدين يتربّصون به:

        آن لنا الأوان أن نتنبّه إلى الخطر الذي يداهم أبناءنا وبناتنا، خاصة مع انتشار الفضائيات التي تتكاثر وتتعاظم في كل يوم. هناك من احترف مهنةَ التشكيك في الثقافة الإسلامية والتاريخ الإسلامي، هناك مَن سَخَّر أمواله، وهناك من سخَّر وقته، وهناك من سخر سياسات عالمية لضرب الإسلام في عمقه، وتشويه صورة المسلمين، سواء كان من خلال الإعلام المرئي أو المسموع أو المقروء، أو بكل الوسائل التي يستطيعون أن يضربوا بها هذا العملاق العظيم الذي سمَّوه فيما مضى "المدّ الأخضر"، وقالوا: "بعد أن أوقفنا المد الأحمر[2] فقد آن الأوان لكي نوقف المد الأخضر". هم يدركون أن الإسلام خطر عليهم وعلى عدوانيتهم وانتهازيتهم؛ لأن الإسلام جاء بالعدالة، والرحمة، والتسامح، والمحبة فيما بين الناس، وليس أَدَلَّ على ذلك مما فعله النبي صلى الله عليه وسلم حينما دخل المدينة المنورة وبنى المسجد، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وكتب الوثيقة (الدستور)؛ وهو النظام الذي يتعامل به المسلمون فيما بينهم، ويعاملون به مع المشركين العرب، ومع اليهود الذين كانوا يسكنون المدينة المنورة آنذاك.

هـ- واجبنا في صناعة أبنائنا صناعة صحيحة:

        إذاً.. من خلال مشهد استقبال النبي صلى الله عليه وسلم صغاراً وكباراً من أهل المدينة، ومشاركة الأطفال الصغار، ندرك أن علينا أن نحتذي ونقتدي بما فعله الأنصار في المدينة، فنجعل من شخصية النبي عليه الصلاة والسلام مَثَلاً أعلى يُقتدى به، ونموذجاً للكمالات الروحية والنفسية والخُلُقية، نربي أبناءنا عليها. كل شيء اليوم في هذا المجتمع أصبح يُصنَعُ صناعة، حتى الإعلام أصبح صناعة، السياحة أصبحت صناعة، الثروة أصبحت صناعة، التربية ينبغي أن تكون صناعة، أي أن تحسن صناعة ولدك وتربية ابنتك، أن تصوغ شخصيتهما صياغة صحيحة، من حيث العقيدة والسلوك والفِكر والانتماء، فلا يفكّر هذا الطفل الصغير إلا باتجاه واحد هو اتجاه هذا الدين الكامل الذي جاء لنا بما يكفل لنا السعادة في الدنيا والآخرة.

        الدين أيها الإخوة ليس فقط ديناً أخروياً نعمل لكي نفوز بالجنة يومَ القيامة، ورد في السلسلة الضعيفة للألباني: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا"إذا صليت فصلِّ صلاة مودّع، لكن إذا أكرمك الله تعالى ببركة في العمر فعليك أن تسعى وتكسب وتَجِدَّ في هذه الحياة. يقول الله تعالى:[]قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا...[] سورة العنكبوت (20). هذا السير والنظر والتفكر والتدبر في آلاء الله سبحانه وتعالى أمر مشروع دعا إليه القرآن الكريم في آيات كثيرة. يقول سبحانه وتعالى:[]وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ...[] سورة التوبة (105). هذا العمل ينقسم إلى قسمين؛ عمل دنيوي لما يصلح شؤون الحياة الدنيا من عمل وكسب ورزق وتجارة وبيع وشراء ودراسة وعلم وتفوّق وغير ذلك، وعمل أخروي لما يصلح شؤون الحياة الآخرة، ويؤدي بنا إلى الفوز بالجنة والنجاة من النار وإدراك الفردوس الأعلى الذي أمرنا به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوسَ". صحيح البخاري. إنما تسألون عظيماً، حينما تسأل الله سبحانه وتعالى فأَعظِمْ في الطلب.

        مما يُروى في تاريخنا العربي أن رجلاً قصد الحجاج بن يوسف الثقفي، والحجاج كان رجلاً أميراً ذا مهابة، يمتلك شخصية قوية جبارة، طرق عليه الباب أحد فقراء الناس يستأذن بالدخول عليه فأُذِن له. قال: يا أمير! أريد منك حويجية. فقال الحجاج: "انطلق فاطلب لها رُجَيلاً، فإنما تسألُ أميراً!". عندما تسأل ملكاً عظيماً فلا تسأله قضية سخيفة أو متواضعة، وإذا كنت تسأل الله سبحانه وتعالى فَسَلْهُ الفردوسَ الأعلى، ومرافقةَ النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، والنظرَ إلى وجه الله تبارك وتعالى، فهي الحُسنى وزيادة التي أخبرنا عنها النبي صلى الله عليه وسلم.

        هذا درس عظيم نستفيده من استقبال الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم عند وصوله إلى المدينة المنورة، وقد وضعوا أبناءهم وبناتهم الصغار في مقدمة الرَّكب، ليعطونا بذلك درساً كيف نعلّق قلوب أبنائنا وبناتنا بشخصية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

^ بناء مسجد قباء:

أ- الهدف من بناء المساجد:

        وصل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء، وزفي قباء قام بعمل جليل؛ حيث بدأ عليه الصلاة والسلام ببناء المسجد، وهو أول مسجد أُسِّسَ في الإسلام نزل فيه قول الله سبحانه وتعالى:[]...لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ[] سورة التوبة (108). هذه الآية جاءت في فضل بناء المساجد على التقوى، فحينما نبني المسجد ينبغي أن يُرادَ ببنائه وجهُ الله سبحانه وتعالى، وأن يكون الهدف والغاية من بنائه جمع المسلمين فيه على الصلوات الخمس، وصلاة الجُمَع، وصلاة العيدين، والصلوات الأخرى؛ كصلاة الاستسقاء، وصلاة الاستغاثة، وغير ذلك من العبادات والطاعات والنوافل والقُرُبات التي نتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى. ولا يجوز أن يكون الهدف من بناء المساجد المفاخرة أو المباهاة، أو أن نجعل منه سبباً في التفرقة بين المسلمين، فينبغي أن يخلص الناس في نيّاتهم عندما يشرعون في بناء المساجد أن يساهمون في بنائها، فيكون الهدف من بنائه تقوى الله سبحانه وتعالى.

ب- ضرورة المحافظة على الطهارة ونظافة المساجد:

        هذا المسجد (مسجد قباء) بناه النبي صلى الله عليه وسلم، وساعده أهل قباء، وقباء قرية تبتعد عن المدينة المنورة حوالي 4كم فقط، يتميز أهلها بالنظافة والطهارة، لذلك لمّا نزل قول الله سبحانه وتعالى:[]...فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ...[] سورة التوبة (108). قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أهل قباء! ماذا فعلتم حتى أثنى الله عليكم كل هذا الثناء؟". فقالوا: "يا رسول الله! كنا إذا تطهّرنا نجمع إلى الحجارة الماء، ونخالف اليهود، وننظّف أفنيتنا". كانت عنايتهم بالنظافة ظاهرة، والنظافة من الإيمان، خاصة في الأماكن العامة، ونظافة المساجد ينبغي أن تكون نظافة متميزة. وهنا لنا عتب على أنفسنا؛ حينما ندخل إلى الموضّآت والحمّامات التابعة للمساجد، نجد بعض المساجد تتميز بالطهارة وحسن الإعداد للموضآت والحمامات كأنما أنت في قباء؛ لأن من زار مسجد قباء وتوضّأ في موضّآته سيلحظ هذه الميزة، لا يزال أهل قباء إلى يومنا هذا يتميّزون بطهارتهم ونظافتهم وعنايتهم بخدمات المسجد. وبعض المساجد الأخرى تدخل إلى حمّاماتها وموضّآتها فلا تطيق أن تتوضّأ فيها؛ لما فيها من روائح كريهة ومناظر مزعجة!! لماذا أيها الإخوة؟؟! أليس هذا المسجد لنا؟! أوليست هذه الخدمات قد صُنِعت من أجل طهارتنا ونظافتنا، وهُيِّئَتْ أحسن تهيئة حتى نتوضأ وضوءاً كاملاً وصحيحاً ثم نُقبِل على الصلاة ونحن في حالة من الإشراق الرّوحي؟!

جـ- همسة في أذن المنفقين في سبيل الله تعالى:

        هي لفتة لنذكّرَ أنفسنا أن نُعنى ببيوت الله سبحانه وتعالى، بطهارة حمّاماتنا وموضّآتنا، خاصة التابعة للمساجد، وهي لفتة للإخوة المحسنين والنفقين في سبيل الله تعالى أن ينظروا إلى المساجد التي لا يوجد فيها موضآت كافية، أو لا يوجد أماكن للوضوء تساهم في تيسير الصلوات وخاصة في الأسواق التجارية والأماكن المزدحمة، هي لفتة لهم أن يسعوا في بناء موضآت كبيرة وواسعة، فهي من أهم وأولويات بناء المساجد في عهدنا هذا.

        المعروف أن المساجد تُغلَق بعد الصلوات بزمن يسير، لذلك يحتاج الإنسان أن يأتي إلى المسجد قبل الأذان أو عنده، فإن لم يجد مكاناً ليتوضأ، أو حمّاماً ليقضي حاجته فربما يتباطأ في الصلاة. فليكن لكم أيها الإخوة المحسنون فضل السبق في نيل الأجر والثواب في بناء الموضآت والحمامات للمساجد، سواء كانت قريبة أو بعيدة أو نائية.

        إذاً.. أقام النبي صلى الله عليه وسلم في قباء بضع عشرة ليلة، أسس المسجد على التقوى، صلى فيه عدة أيام، ثم ركب راحلته "القصواء"، وسار باتجاه المدينة المنورة ليبدأ بتأسيس المسجد النبوي الشريف.

        لقد كان وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة يوماً تاريخياً عظيماً، كان يوم فرحٍ وبهجة لم ترَ المدينة المنورة مثله على الإطلاق، لبس الناس أحسنَ ثيابهم وكأنه كان يوم عيد، وفي الواقع كان قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة يومَ عيد. لاحظوا أن النشيد الذي كان يردده أهل المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليهم:

جـاءَ نبيُّ اللـــه     جـاءَ نبيُّ اللـــه

وكلما سمع أحد بهذا النشيد خرج من بيته حتى تكاثروا والْتَفُّوا حول النبي صلى الله عليه وسلم مرحبين به أحسن ترحيب. أتدرون أيها الإخوة لماذا كان يومُ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم يومَ عيد؟ لأن الإسلام انتقل من الحيّز الضيّق في مكة المكرمة إلى الرحاب الواسعة، إلى أماكن الذيوع، إلى المكان الذي هيّأه الله سبحانه وتعالى مكاناً للهجرة لكي يشعّ منه نور الإسلام، ولكي تكون المدينة المنورة أول عاصمة إسلامية في الدنيا ينتقل منها الإسلام إلى سائر بقاع الأرض.

        أحسّ أهل المدينة بهذا الفضل الكبير والشرف العظيم الذي اختصهم به ربنا سبحانه وتعالى، فقد صارت مدينتهم مكاناً لإيواء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته المهاجرين رضي الله تعالى عنهم، ثم أصبحت موئلاً لنصرة الإسلام والمسلمين، وموطناً لأول نظام إسلامي يقوم على وجه الأرض.

        وورد في صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى: عندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صعِد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرّق الغلمان والخدم في الطرق ينادون: يا محمد يا رسول الله! يا محمد يا رسول الله!". هذا الاستقبال الجماهيري الذي لم يرد مثله في تاريخ الإنسانية كان استقبالاً بديعاً عظيماً، جبر خاطر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كُسِر خاطره في مكة المكرمة حينما أُخرِج منها، وعاد الله تعالى ليجبر خاطره من جديد في فتحها في العشرين من رمضان، فعاد إليها منتصراً من غير أن يُشهِرَ السلاح في وجه أهلها، وحينما سمع أحد الصحابة المقاتلين يقول: هذا يوم الملحمة، قال: "لا! اليوم يومُ المرحمة".

^ بروك الناقة واختيار المنزل:

        بعد أن استُقبِل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاستقبال الجماهيري الكبير بدأ الناس يرجون ويتمنون ويتطلعون إلى استضافته صلى الله عليه وسلم، فلم يكن عنده عليه الصلاة والسلام بيت في المدينة المنورة، كان أصحابه ومن حوله يقولون: يا رسول الله! تعال إلينا في العُدَّةِ والعدد. فكان يقول لهم صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها مأمورة". وكان الهدف من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أمرَ نزوله في أحد بيوت أهل المدينة متروكاً إلى اختيار الناقة؛ حتى لا يظنَّ أحد من أهل المدينة أنه ميّز أو فضّل أحداً على أحد.

        في هذا المعنى رسالة عظيمة؛ فلا يصحّ التمييز بين والعائلات، وخاصة للدعاة وأهل العلم، لا يجوز أن تُحابيَ أو تنصر فلاناً على حساب فلان، أن تنصر فلاناً وتُقصيَ آخر، أن تجعل فلاناً من خاصّتك وفلاناً تبعده عنك، بل عليك أن تفعل كما فعل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما دخل المدينة المنورة، فجعل الأمر لوحي من الله سبحانه وتعالى، كلما أراد أحد أن يمسك بخطام الناقة يقول: "خلوا سبيلها فإنها مأمورة".

        أخيراً وقفتْ قُبالةَ بيت من بيوت أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: "أيُّ بيوتِ أهلِنا أقرب؟". فقال سيدنا أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه: "أنا يا نبي الله! هذه داري وهذا بابي يا رسول الله!". فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إذاً فانطلقْ، فهيّئْ لنا مَقيلاً".

        هنا ندرك هذه الحفاوة وهذا الاستقبال الذي استُقبِل به النبي صلى الله عليه وسلم بعد رحلة طويلة ومعاناة كبيرة من السفر من مكة المكرمة ومطاردة أهلها له عليه الصلاة والسلام. آن له الأوان أن يرتاح، وأن يُستقبَل هذا الاستقبال تكريماً لرحلته عليه الصلاة والسلام التي هي بدايةٌ جديدة لنور الإسلام، وإشعاعٌ جديد لهداية الإسلام.

        الآن سيبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بوضع الأسس والدعائم لقيام المجتمع الإسلامي الجديد، هذه الأسس والدعائم تألّفَتْ من ثلاثة أمور؛ أولها: بناء المسجد، ثانيها: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وثالثها كتابة الوثيقة؛ وهي الدستور الذي يتعامل فيه المسلمون فيما بينهم، والمسلمون مع مشركي العرب ومع اليهود الذين كانوا يسكنون في المدينة المنورة.

^ دعاء:

        اللهم! انصر الإسلام والمسلمين، اللهم! انصر دينك، اللهم! انصر شريعتك، اللهم! انصر سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم! فرّج عن إخواننا المستضعفين في العراق وفلسطين، وفي غزة الصامدة برحمتك يا أرحم الراحمين! بارك لهم في أقواتهم، وفي أموالهم، وفي أسلحتهم. اللهم! وكن لهم عوناً ومُعينا، وحافظاً وناصراً وأمينا، برحمتك يا أرحم الراحمين! فرِّج عنا وعنهم يا فارج الهم! يا كاشف الغم! يا مُجيبَ دعوةِ المضطرّين! يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما! أنت ترحمنا، فارحمنا رحمةً من عندك تُغننا بها عن رحمة مَن سواك، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 



[1] الحَرَّة: هي الصخرة المرتفعة في مدخل المدينة المنورة، أو ما يعرَف بثنيَّة الوداع، حيث كانوا يستقبلون المسافرين ويودّعونهم من هذا المكان.

[2] يرمزون بذلك إلى الاتحاد السوفييتي الذي استطاعوا أن يفككوا وحدته.

 

 

 

 

 

 

 التعليقات: 4

 مرات القراءة: 29373

 تاريخ النشر: 13/02/2011

2013-11-12

مصطفى محمود صابر العسيرى

طلع الـبدر علـينا مـن ثنـيِّةِ الـوداع وجـب الشكرُ علينا مـا دعــا لله داع أيهـا المبعـوثُ فينا جئت بالأمـر المطاع جئت شرَّفـتَ المدينة مرحباً يا خيرَ سـاع أخي العزيز انشاد هذا النشيد في هذا الموطن غير صحيح لان ثنية الوداع في الشام والرسول لم يقدم من الشام وان صحت فهي يوم عودته من تبوك راجع الرحيق المختوم للمباركفوري وكذللك النافلة في الاحاديث الضعيفة والموظوعة للحويني

 
2013-04-01

aya sounokrot

انا مسلمة طاهرة عفيفة محجبة ونحن نحب الرسول <صلى الله عليه وسلم > .

 
2012-11-03

ابو جعفر

طلع الـبدر علـينا مـن ثنـيِّةِ الـوداع وجـب الشكرُ علينا مـا دعــا لله داع أيهـا المبعـوثُ فينا جئت بالأمـر المطاع جئت شرَّفـتَ المدينة مرحباً يا خيرَ سـاع أخي العزيز انشاد هذا النشيد في هذا الموطن غير صحيح لان ثنية الوداع في الشام والرسول لم يقدم من الشام وان صحت فهي يوم عودته من تبوك راجع الرحيق المختوم للمباركفوري وكذللك النافلة في الاحاديث الضعيفة والموظوعة للحويني

 
2011-11-12

fathi ben

رائع

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1368

: - عدد زوار اليوم

7403923

: - عدد الزوار الكلي
[ 51 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan