::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مقالات متنوعة

 

 

لَحْظةُ الحقيقةِ أم لَحْظة الفضيحة ؟

بقلم : بشار بكور  

 

 
هل ترغب أو ترغبين بالفضيحة؟ هل فكرت فيما خلا من عمرك أن تعلن للملأ قائلاً بملء فيك: أنا سرقت و زنيت، وأحببت وكرهت، و تآمرت و فعلت وفعلت.. مما يتحامى الناسُ عادةً البوحَ به؟ ألديك مانعٌ في أن تُستَجْوَب و كاميراتُ التصوير قد وُضِعت من بين يديك ومن خلفك، توثّق بالصوت والصورة اعترافاتِك، ليتمّ بثُّها في الخافقين، ثم الاحتفاظ بها للأجيال القادمة؟ هل تروم الفضيحة بجميع أنواعها، مقرونةً بمبلغ سخيّ من المال، قد لا تحصّله في أشهر، أو في عام، أو ربما في أعوام؟    
أسئلةٌ غريبة، عجيبة، غير مألوفة، وإن قلت: مستنكرة، مستغربة، بل مستبشعةٌ، مستهجَنة، ما عدَوْت الحقَّ في كلامك. وتقول لي: حاشا لله في أن أرغب بنشر ما ستره الله، وأن أكشف من عُجَري وبُجَري ما أخفاه –رحمةً بي- عن الناس، فضلاً منه و تكرّماً، ورأفةً بعُبَيده الضعيف.
 وتسألني: لمَ خطرت هذه الأسئلة في بالك؟ ما قصتها؟ ما خبرُها؟
أقول: إنْ كنتَ أنت ممن عافاهم ربّي من الفضيحة والقبيحة، وجمّلهم بالستر، وأجابوا بـ(لا)، فإنّ أناساً-يا للأسف و يا لَلعجب- قد أجابوا بـ(نعم). دُعُوا فأجابوا، ونِيْخُوا فاستناخوا.
إن هذه الأسئلة- يا أخي- قد دارت في خلدي واعتلجت في نفسي، عندما شاهدت مصادفةً برنامجاً أمريكياً، في قناة عربية، همُّها وسَدَمُها أن تروّج للثقافة الأمريكية، بقضّها وقضيضها، وسُفْلها وعُلْوِها، و حُلْوها ومرِّها، وغثّها وسمينها. اسم هذا البرنامج The Moment of Truth    أي: "لحظة الحقيقة"، وحريٌّ به أن يسمى " لحظة الفضيحة" فهو بالفضيحة ألصق، وإليها أقرب، لأنه من يَنبوعها خرج، ومن معدِنها نَجَم.
قِوام هذا البرنامج أن يقعد المشترك على كرسيّ الاعتراف ، وأمامه المستجوِب، ومن ورائه "رقيب عتيد"،  لا من البشر ولا من الملائكة، إنما هو جهاز "كشف الكذب" الذي يقف للمشترك بالمرصاد، فإذا ما طُلب من هذا المشترِك الإقرارُ  بأنه فعل أمراً محرِجاً أو مخجلاً-وجلُّ الأسئلة محرجةٌ جداً وشخصية جداً- وحاول أن يكذب ويقول: (لا)، أدانه الجهاز وقال له: كذبت، وحينها يخسر كلَّ ما جمعه من الدولارات. أما إذا اختار هذا المشتركُ أن يصدق، (أي: أن يفضح نفسه) أجاب بـ(نعم)، فيكسب من جرّاء ذلك مبلغاً من المال، و هكذا دواليك، تراه يترقى ويترقّى ( وإن شئت قلت: يتسفّل ويتسفّل) حتى يصل إلى مبلغ نصف مليون دولار. فيقبض هذا المال متبختِراً مُدلّا بما فعل، مزهوّاً بنفسه، مقابل فضيحة عالمية، وذلٍّ و مهانة، و سقوطٍ من أعين البشر وإلى الأبد.
من هذه الأسئلة المحرجة العجيبة التي وجِّهت إلى عدد من المشتركين: هل تعتقد أنك يمكن أن تكون مخلصاً لزوجتك؟ فأجاب: (لا) وزوجته حاضرة شاهدة. هل مارست العلاقاتِ المحرمةَ مع أكثر من امرأة؟ قال وهو يبتسم: (نعم).  هل دُفِع لك مبلغٌ من المال لتمارس الفاحشة؟ فيجيب: (نعم). هل أنت نادمة على الزواج من زوجك فلان؟ فتقول بملء فيها: (نعم). هل عاشرتِ رجلاً متزوجاً؟ فتقول: (نعم) وزوجها البائس يستمع. لله درّكم ما أصدقكم!عِشْ رَجَباً تَرَ عَجَباً.
ما كنت أتخيل أن يأتي يومٌ يهتك فيه المرء سترَه و يبدي صفحَته مقابل المال، بالغاً ما بلغ. ولكن لمَ العجبُ والاستغراب من هذا الأمر طالما أنه منطوٍ على منفعةٍ مادية، مجزية، ولتذهب بعدها كرامتي إلى الجحيم. أليس هذا ما ينادي به المنطقُ البراغماتي (النفعيُّ). إنّ كل ما من شأنه أن يحقق منفعتي الشخصية فهو حقٌّ وصدق، لا بدّ من السعي وراءه. وما لم يكن كذلك فلا خير فيه. و ليس هناك حقائقُ مطلقةٌ ولا مبادىءُ ثابتة. فالحق يدور مع المنفعة الفردية حيث دارت.
إن برنامج "لحظة الحقيقة" و ما شابهه من برامج كـ"المعبود الأمريكي" American Idol، و أفلام هوليوود التي غزت العالم أجمع، بالإضافة إلى "ماكدونالد" "والكوكا كولا" جميعها ترسخ بقوةٍ واقتدارٍ القيمَ والثوابت والمبادىء التي اتكأت عليها الحياةُ الفكرية و الثقافية الأمريكية البعيدة والمتعارضة في مجملها مع قيمنا ومبادئنا وتقاليدنا، التي استقيناها من ديننا، و رضعناها مع حليب أمهاتنا. من هذه الثوابت: 1- البراغماتية التي تحدثنا عنها للتوّ. 2- الفردية المفرِطة، التي تُقْصي مبدأ الجماعة، حيث تجعل الفردَ هو الجوهرَ والنواة وقطب الرحى، لذا فالمصلحة الخاصة مقدّمة على المصلحة العامة. 3- المادية. فما يهمّ هو المادة فقط، ولا شيء غير المادة، كما في العبارة المشهور It is the matter that matters
4- حمّى التسوق والاستهلاك، التي ولع بها الناس في جميع أنحاء البسيطة. والسبب في ذيوعها هو "أنها لا تستند إلى علاقات اجتماعية حضارية معينة، أو إلى مواصفات بيئية خاصة، وإنما تحاول قدر استطاعتها أن تنفصل عن التاريخ وعن الزمان والمكان لتطرح أشكالاً حضارية متحررة من القيود...والهدف من وجود الإنسان في الأرض ليس البحثَ عن الحق والخير والجمال أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما أن يدخل الإنسانُ حلقةَ الإنتاج والاستهلاك المفرغة، فينتج ليستهلك ويستهلك لينتج." [1]
5-البقاء للأقوى، ولا مكان للضعيف. هذا المبدأ-كما هو معروف- منتزعٌ من المبدأ الدارويني القائل: البقاء للأصلح The survival of the fittest
ويمكن القول بأن هذه الثوابت الخمسة وغيرها مما لم نذكره قد تمّ صهرها وتذويبها في بوتقة الحداثة المنفصلة عن القيمة والمبدأ، التي هيمنت بصورة طاغية على المجتمع الغربي عموماً، و الأمريكي خصوصاً، ثم العالم العربي بعد ذلك.
يحدثنا  الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله في مقال "الحداثة المنفصلة عن القيمة: الأخلاق والأزياء والرياضة"حديثاً في غاية الأهمية، حيث أبرز فيه دون مواربة ولا مداهنة الخطرَ الكامن في الحداثة وما تعكسه من مبادىء، شرعت تضرب في شجرة تراثنا العربي والإسلامي بمعاولَ حادة هدّامة، فيقول: " قد هيمن نموذج الحداثة المنفصلة عن القيمة على كل مجالات الحياة المهم منها وغير المهم، المركزي منها والهامشي، وأحكم قبضتَه وأصبح هو أساسَ الخريطة الإدراكية للإنسان الغربي الحديث، وكثير من شعوب العالم الثالث، خاصة نخبها الحاكمة. وصورة الإنسان الكامنة في الحداثة المنفصلة عن القيمة هو الفرد صاحب السيادة الكاملة، مرجعية ذاته، والهدف من الوجود بالنسبة له تحقيق النفع الشخصي وتعظيم المتعة وزيادة اللذة. فهو إما إنسان اقتصادي أو إنسان جسماني أو خليط منهما، وهو في جميع الأحوال إنسان طبيعي/مادي لا علاقة له بالخير أو بالشر أو بأي قيمة تقع خارج نطاق الحواس الخمس.
وقد عبرت الحداثة المنفصلة عن القيمة عن نفسها في عدة مجالات من أهمها مجال الأخلاق، فالأخلاق إنْ هي إلا ما يجرده العلم الطبيعي من تجاربنا الحسية أو المادية، والقول بوجود شيء يسمى الأخلاق خارج هذه التجارب هو من قبيل التخريف... كما أن بعض الوظائف التي كانت توضع في قمة الهرم الوظيفي، بسبب مضمونها المثالي ومرجعيتها الأخلاقية، تفقد مكانتها وتُهمَّش بسبب انفصال الوظيفة عن القيمة.
فوظائف مثل عارضة الأزياء أو النجمة السينمائية أو المضيفة، كانت غير مقبولة في كثير من المجتمعات لأسباب مختلفة، فعارضة الأزياء تقوم بعرض مفاتنها وما ترتديه من أزياء لتشجيع النساء على شراء السلعة التي تبيعها... وكان الهدف من الرداء في الماضي هو تغطيةَ الجسد، ولكنه انفصل هو الآخر عن القيمة، وأصبح هدفه جذب الأنظار إلى الجسد وتعميق الإحساس باللذة والتسخين الجنسي، ومن هنا ظهور الميني سكيرت التي تقترب من حالة الطبيعة، و"الميكروسكيرت" التي تعلن نهاية التاريخ والحضارة والملابس. ويمكن القول إن الهامبورغر (من هذا المنظور) هو قمة الانفصال عن القيمة بالنسبة للطعام، فهو يشبه الوقود الذي يضعه الإنسان في سيارته حتى يستمر في العَدْو، فالهامبورغر مادة استعمالية عامة، لا طعم لها ولا لون ولا رائحة، فهو ظاهر دون باطن، شيء عام لا خصوصية له، مناسب تماما لذلك الإنسان الطبيعي/المادي الذي يقذف به في جوفه." [2]
و من هنا تكمن الخطورة في استنساخ مثل هذه البرامج واستيرادها إلى الوطن العربي والإسلامي بحجة التسلية والترفيه. لأن هذه البرامج إنما تنقل معها-شئنا أم أبينا- أنماطاً من الثقافة و الأخلاق، بينها و بين ثقافتنا وأخلاقنا بونٌ شاسع. إن كل من يتابع باهتمام أمثال هذه البرامج الغربية، متعرّضٌ لهجوم ثقافيّ خطير، يتدسس في أعماق النفس،  ويستقرّ في حناياها، مزحزِحاً -عن طريق اللاوعي- الثوابتَ العربية والإسلامية الأصيلة، ومهمّشاً لجميع ما يتصل بها من عادات، وتقاليد، وأخلاق باسقة، نَعِمْنا بها ونعمت بنا دهراً.    
و إن شئت الوقوف على مثال واحد يوضح لك هذا البون، فوازنْ بين هذين الحديثين الشريفين، الذين يؤكادن على ضرورة أن يستر المرءُ ذنوبَه و عيوبه عن البشر، وبين ما مرّ بك عن برنامج "لحظة الحقيقة". قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كُلُّ أُمَّتِى مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَاهرة أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ » . [أخرجه البخاري، كتاب الأدب- باب: ستر المؤمن على نفسه. رقم:   6069. وأخرجه مسلم، في كتاب الزهد-باب: النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه. انظر شرح النووي 18/119] و جاء في موطأ الإمام مالك رحمه الله أَنَّ رَجُلًا اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَوْطٍ فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ. فَقَالَ: فَوْقَ هَذَا، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ، لَمْ تُقْطَعْ ثَمَرَتُهُ، فَقَالَ: دُونَ هَذَا، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ رُكِبَ بِهِ وَلَانَ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُلِدَ. ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ اللَّهِ. مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِي لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ. [الموطأ، كتاب الحدود- باب ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزنا. 2/825 طبعة محمد فؤاد عبد الباقي، نشر دار الحديث، عام 1985].
 
اللهم أسدل علينا سترك الجميل في الدنيا و الآخرة، ولا تفضح عوراتنا وسوآتنا، آمين
 
 
 
 
 


[1] من مقال مهم للمفكر المصري المشهور الدكتور عبد الوهاب المسيري برّد الله مضجعه، بعنوان "حضارة الهامبورغر والإنسان" المنشور في موقع الجزيرة  
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/9C4C9A0D-503B-4DFA-BDAF-316DB895DBD4.htm
 
[2]http://www.aljazeera.net/NR/exeres/066AF030-23B1-4280-8BF7-82FC12BC7D30.htm

 التعليقات: 1

 مرات القراءة: 4979

 تاريخ النشر: 25/09/2011

2011-09-25

نور الهدى

جزاك الله عنّا كل خير يا شيخنا الكريم فعلا أصبحنا نرى هذه الاعمال الساقطة امام اعيننا..ونسمع ذاك الكلام الشنيع... بارك الله فيك يا شيخنا على اختياراتك الصائبة. "اللهم استرنا فوق الارض وتحت الارض ويوم العرض عليك يا ارحم الراحمين"

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 668

: - عدد زوار اليوم

7469419

: - عدد الزوار الكلي
[ 77 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan