::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> قطوف لغوية

 

 

الصَّمتُ

بقلم : نور محّمد فتحي السّرايجي  

 

 
 
لغةٌ تتكلَّمُ من غيرِ كلام ....     تؤثّرُ من غيرِ أصوات ....
تناجي من غير أثير....       تنادي من غيرِ ضجيج...
تلجُ الأعماق...تحاكي الصّدور... تعبّر عمّا يجولُ في العيون ...تصرخُ بكلِّ هدوء
من غيرِ بذلِ أيِّ جهدٍ من شخوصِ الوجود...
تُرى ماهي؟أصُراخُ الأكباد أم اصطفافُ النَّبضات أم زئيرُ الأنفاس
أم هديرُ سريان الدِّماء ؟؟؟
محاكاةُ أرواح ...مناجاةُ قلوب...مبادلة ُنظرات...
نحيبٌ بنحيب   وأنينٌ بأنين وضياعٌ بضياع ...نعم إنّه الصَّمت...
لغةٌ إن أحكمتِ النّفاذ فلن تحكمَ الاختراق
وإن استطاعت الولوج فلن تجيدَ الخروج
عبادٌ توارثوهُ صنعة ً ...وتبادلوه بضاعة ً...واحتسَوا كأسه خلسة ً ...علّه يبثُّ كلمةً ...بعيدة ًقريبة ... ممتلئةً مجوفة ً...صاخبةً ًساكنة ً ...ساخنة ً باردة ً...
أندادٌ اتخذوه ُ سلعة ً .. يحلّون من خلاله معضلةً أو يحجّمون مشكلة ً...
أحبابٌ جعلوه واسطةً ..فأداروا فيما بينهم نظرةً ..
ماإن تروحُ و تجيء حتّى تكون حرقةً ...قد سبّبتْ ربّما أزمةً...
صمتٌ وياله من صمت يكتنف جوانحي...يُداعبُ أفئدتي....يناجي آهاتي .يحاكي زفراتي... متخذاً الشاعر مانع سعيد العتيبة معبراً عن حقيقته :
لا يَصْمِتُ إلاَّ مُقْتَدِرُ إِنْ حَلَّ بِسَاحَتِهِ القَدَرُ
وَيهَدْهِدُ بِالبَسْمَةِ دَمْعاً مِنْ عَيْنيْ قَلْبٍ يَنْحَدِرُ
يَحْمِدُ خَالِقَهُ في ثِقَةٍ مَا زَحْزَحَهُ عَنْهَا الكَدَرُ
 
تغيبُ العباراتُ في لُججه..وتتضخّمُ المعاني أمامَ غموضه ...ويغرق الرّائي بينَ طيّات أمواجِه...ويذوب الدَّاعي في سرادقاتِ هدوئه...
فلا تكادُ تسمعُ إلا صمتاً...ولاتنطقُ شفتاك إلا حرفاً... مفاده أن كُفَّ ...فيعتلي حرفُ الصَّاد المزيَّن تاج كلامك...ويتصدَّرُ بريق شعورك ؛ ليقول:"فقط " أمام الكمّ الهائل من الآخر، وأن "هيَّا "مع نفسك فهي لن و لن تذهب عنك ولن تذهب عنها
 فأنتما معاً إلى الأبد...
لكن كيف و متى و أين و ...؟!
هنا تتربَّع ُ الأدوات ُ ملتحمةً مع بعضها علّها تبثُّ ضجيجَ نفسٍ قد  طال خموده ...
وتثير  شعورَ داخلٍ قد امتدَّ إحساسه....
فتنضمُّ الأجوبةُ وتتّحدُ مع بعضها البعض لتصلَ إلى مركزٍ هو المعنيُّ برسم تلك الدّائرة التي ما تنفكُّ تبدأ حتى تنتهي ،وما تنفكُّ تنتهي حتى تبدأ ....
أهازيجُ روح لا تدري ولستُ إخال أدري أستدري ؟!
أصوات نفس ٍ تهذي ...أنين جسدٍ يبكي...
سابقاً كنت أتّخذُ الكلامَ وسيلةً للتعبير عما يجول في خاطري ؛ لبثِّ ما يحرِّكُ وجداني ...لتخفيفِ عبءِ صدمة قد حاكتْ ضميري ...
لردِّ كلمةٍ قد جرحت أشجاني ...لإغلاقِ بابِ حرفٍ قد زلزلَ كياني ...
لكن وبعد أن علمتُ أذى سهام الكلام  ،وكيف أنّه وسيلةٌ مزدوجة ُ المضرَّة تحوَّلتُ عنه إلى صنعة أقلَّ تكلفة ً ...وأكثر فائدةً ...وأقوى أزراً ...وأشدَّ شكيمةً ...وأحلى حديثاً ...وأطيب ملاذاً ...وأزكى رائحةً ..وأبهى حلّةً ...
وحسبنا قول فاروق جويدة :

تغير كل ما فينا...تغيرنا.....
وأعجب من حكايتنا ..تكسر نبضها فينا...
كهوف الصمت تجمعنا ...دروب الخوف تلقينا


صنعةٌ ما إنْ تجرّبها حتى تتمرّس بها فتتقنها وتحتسبها رصيداً لك تجده في المآزق ...وتختبئ وراءه عند المحكّ ...وتحوّره عند الحاجة ...دون أيّ تبرير أو تزوير ...هو هو لأنَّ ثلّةً من يتقن لغته ...ومنْ يستوعبُ وقته ...ومن يتفنَّنُ في فهمه..
فتبقى أنت أنت الآمر النّاهي ....العالم الجاهل ...المتكلّم الصّامت ...الثائر الهادئ ...وحدك المتقن لهذا الوضع...
فتؤثرُ التمسّكَ بهذه العادة ؛ لتحقّق أقلَّّ ما يمكن من خسائر ؟؟ مستحضراً قول السّباعي :" العادة تبدأ سخيفة ثم تصبح مألوفة ثم تغدو معبودة ".
لكن هل نضحي بأنفسنا في سبيل غيرنا؟
قانون حياتيّ يقتضي النّجاة لأيٍّ منَّا ؛ إمَّا أنا و إمّا أنت...إمَّا نحنُ و إمَّا أنتم وربّما هم..
لكن آلصمت واحد أم مختلف من شأن لشأن؟ تطبيقاً لقولهم :
كنت أحبّه في صمت وكان يرفضني في صمت ،فنطق صمتي يوماً ففضحني و قد نطق صمته يوماً فقتلني....
الصمت صمت صعد أم نزل...خرج أم دخل ...ظهر أم اختفى ....فرح أم حزن ... ومكنوناتكم النفسية كفيلة في فهم أبعاده فهو مترجم لعّدة  لغات ؛ يملك الصلاحية لتأويل أيّ شيء برموز لا يفقهها إلا لبيب ٌ حاذقُ واع ٍ ماهر فطن .... ويساندنا قول أحلام مستغانمي : ((تعلّموا أن تميّزوا بين صمت الكباروالصمت الكبير، فصمت الكبار يقاس بوقعه، و الصمت الكبير بمدّته )).
والسؤال الذي يطرح نفسه : متى نلجأ إلى هذه اللغة ؟
أعندما تتزاحمُ الأمور أم عندما تتآزرُ الهموم أم عندما تصيحُ الكروب أم عندما
عندما نصلُ إلى أوج الشّعور فنجدُ أنفسنا في قِمَّة القُمَّة ...متجاهلين سببَ وجودِنا ...متناسين صحوة عقولِنا ...غارقين في خضمِّ إيقاع قلوبنا ...
متبحِّرين في سكرة تفكيرنا ...منتشين خمرةَ كلمةٍ أُلصِقت في أفكارنا ...مستحضرين إيماءات إنسان لطالما حُفرتْ في أفلاذنا ...كاشفين ذبذبات أوردة اختلجت مع أكبادنا ...ففضَحَتْ مكنوناتنا ...بعد أن تحرَّكت نبضاتُنا ...وبدأت تروي علينا قصَّتنا ... تلك التي نحن أهمّ شخوصها ...والتي كنّا محورَ حديثها ...ومبدأ جوهرها ...وعنصر بدايتها ...ومنتهى خاتمتها ...ومختصر روايتها ...
هم هم ...ونحن أمامهم ؟؟؟ هم شيء ونحن شيء في هذا الشيء أو ربما لاشيء في هذا الشيء
ذوبانُ شمعة ٍ ...وانخمادُ نارٍ ... وانطفاء نور...وذبول وردة ٍ ...وانغلاقُ بابٍ ...ألا يضطرُّنا كلُّ ذلك إلى الصَّمت ؟؟
وفي الختام لايسعنا إلا أن نقول َ : إنّنا نحتاج لهدوء رغم أنّ ماحولنا مشبع بصمت يشبه الموت ؛ بيد أنّه ثمَّة شيء حولنا لا يهدأ ...
وهذه الحركة لابدَّ أن تترجم مع الأثير ؛ ليطيب لها الوصلُ مع وقع الفؤاد...لتعتلي صهوة الأفكار ...لتعانق تعجّبات الأرواح ...لتواجهَ شتّى ضروب الكلام ...
لتزيلَ عبءَ ترنيمات الصَّدى ....
لتتشخَّص في قالب الورى....
فترتقيَ مع طيَّات الفضا....
لتبحرَ مع قطرات النّدى ...
علّها تصلُ بصاحبها إلى ما يُسمّى بالهدى ....

منْ منطقٍ في غيرِ حينِه
الصمت ُ أزيـنُ بالفتـى
فِي القول عندي من يمينه
والصدقُ أجملُ بالفتَى

 
 
 
 
 
 
 

 التعليقات: 4

 مرات القراءة: 3551

 تاريخ النشر: 05/01/2012

2012-02-01

رؤى

أستاذة نور أشكرك على كلماتك المؤثرة و خاطرتك المعبرة ، لكن برأيك كيف أعالج حالة من ثورة المعاني المتفجرة شوقا أو حنينا ... هل أقابلها بالصمت ؟ أم أكتب في مذكراتي آمالي و أعبر عن أشواقي و أحزاني ؟ و هل الصمت علاج يكبت الشوق و يداوي ألم الفراق عن الأحبة ... آمل أن أجد لديك الجواب ...

 
2012-02-01

سعاد بيهم

الصمت في حرم الكلام كلام ...

 
2012-01-16

نور السرايجي

جزيتم خيرا ولكنني أودّ رأيكم النقدي في الخاطرة....شاكرة تعاونكم

 
2012-01-05

Ola Sabbagh

جزاك الله خيراً... ما أحوجنا إلى هذه الأفكار في هذه الأيام.

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1750

: - عدد زوار اليوم

7405451

: - عدد الزوار الكلي
[ 73 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan