::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> خطب الجمعة

 

 

تجـديدُ الإيمــان...

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان (المشرف العام)  

 

 
خطبة الجمعة بتاريخ 27 / 4 / 2012
في جامع العثمان بدمشق
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، يا ربَّنا لك الحمدُ كما ينبغي لجلالِ وجهكَ وعظيمِ سلطانك، سُبحانكَ لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نفسك.. وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، لهُ الملك ولهُ الحمد يُحيي ويميتُ وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهدُ أن سيِّدنا ونبيِّنا وحبيبنا مُحمَّداً عبدُه ورسولُه وصفيُّه وخليلُه.. اللهُمَّ صلِّ وسلِّم وبَارك على هذا النبيِّ الكريم، صلاةً تنحَلُّ بها العُقَدُ، وتَنْفَرجُ بها الكُرَبُ، وتُقْضى بها الحوائجُ، وتُنَال بها الرغَائبُ وحُسنُ الخَواتيم، ويُستسقَى الغَمَامُ بوجْهِهِ الكريم، وعَلى آلهِ وصحبهِ وسلِّم تسليماً كثيراً..
أما بَعْدُ ، فيا عباد الله: أُوصي نفسي وإيَّاكم بتقْوَى الله تعالى.. وأحُثُّكم على طاعَتِهِ والتَمَسُّكِ بكتابهِ، والالتزامِ بسُنَّةِ نبيّهِ سيدنا محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلَّم ومنهاجِه إلى يومِ الدِّين..
وأفتتح خطبتنا لهذا اليوم بقول ربنا تبارك وتعالى في سورة آل عمران: ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)) [آل عمران: ١٠٢]
حديثنا أيها الإخوة عن تجديد الإيمان، وحاجة المؤمن في كل وقتٍ وحين أن يجدد إيمانه، ويقوي ثباته على الدين، فقد جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام الطبراني في الكبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - : " إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب الخلق ، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم " . إن الإيمان ليَخْلَق في الجوف، أي: في القلب،كما يَخْلَق الثوب، والثوب يبلى وكذلك الإيمان ينقص، ويحتاج إلى تجديد وإلى بعث من جديد، حتى يعيش المؤمن في حالةٍ من التوازن على كل المستويات. وخاصةً أننا وصلنا إلى الزمن الذي أخبر فيه النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم فيما يرويه الإمام مالك في الموطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه " لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل ، فيقول : يا ليتني مكانه ". وليس معنى ذلك أنه يتمنى الموت لأن الحياة لم تعد تروق له، بل لأنه يبكي على أيامٍ مضت كان الإيمان فيها كل شيء، وكان الناس فيها يتعاونون على البر والتقوى، ويتواصَوْن بالخير والمعروف، ولكنه يعبر عن زمانٍ وصل فيه حال الناس إلى حالٍ غير مرضية. وإنْ كان هناك حديثٌ آخر يرويه البخاري في الصحيح يقول فيه النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم: " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، فإن كان لا بد متمنياً للموت فليقل:اللهم أحيني ماكانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذاكانت الوفاة خيراً لي".فلا تعارض بين الحديثيْن؛ لأن الحديث الثاني إنما هو دعوةٌ للقاء الله سبحانه وتعالى وشوقٌ إليه، والمؤمن إذا أحبَّ الله اشتاق إليه، فمن أحب لقاء الله أحبّ الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه.
وأما الحديث الأول الذي يقول فيه المؤمن لصاحب القبر: ليتني كنت مكانك.. فما هو إلا للتخلص من الفتن في زمن الفتن. فليس كل الناس لديهم القدرة على مواجهة الفتن التي تعتريهم أو تصيبهم، فبعض الناس يسقطون في الفتنة، وبعض الناس لا يبالون بوجودها، وكأنها غير موجودة، ولذلك احتاج المؤمن أن يجدد إيمانه. ولقد كان من حياة سلفنا الصالح ومنهجهم أن يقول أحدهم للآخر: تعالَ نؤمن ساعة.. ومعنى ذلك أن نُجدِّد إيماننا عملاً بقوله سبحانه وتعالى: ((يا أيها الذين آمَنُوا آمِنُوا)) [النساء: 136] أي جدِّدوا إيمانكم، فما أحوجنا معاشر المؤمنين إلى تجديد الإيمان بين الحين والآخر مع شروق كل شمس، ومع غروبها ،علينا أن نجدِّد إيماننا، ليبقى إيماننا مضيئاً متوجهاً تتنور فيه قلوبنا وأفئدتنا، ويتحقق فيه قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢] فالموت يأتي بغتة، ولا يعلم أحدنا موعد وفاته، ومن هنا كانت الضرورة أن نجدد إيماننا وخاصةً إذا كثرت الفتن.
أيها الإخوة المؤمنون: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم أمر المؤذن أن يؤذن: الصلاة جامعة، فاجتمعنا حول رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم فقال: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ، وينذرهم شرَّ ما يعلمه لهم . وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها . وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها . وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضها . وتجيء الفتنة فيقول المؤمن : هذه مهلكتي".
نعم، فخير القرون قرن النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم، المائة الأولى من حياة الإسلام، ثم الذي يلونهم التابعون، ثم الذين يلونهم عصر الاجتهاد وعصر الانتشار الفقهي الإسلامي في الأمصار، حيث اجتمعت كلمة المسلمين ولم تتفرق، وتطور الفقه الإسلامي فأصبح له مذاهبُ شتى، وعلماءُ ومفتون، وكان لكل منهم موقفٌ لا يعارضُ الآخر إلا باجتهادٍ وفق الدليل العلمي الموثق. وقد خشي النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم على هذه الأمة أن يصيبها البلاء، فقال: إن الخير جُعِل في أولها وسيصيب آخرَها بلاءً، وستجيء الفتنة تلو الفتنة ترقق بعضها بعضاً، أي تأتي الفتنة فنراها عظيمة، ثم تأتي بعدها فتنةٌ أعظم منها فترقق التي قبلها، فنقول: لقد كان ما قبلها أخفّ ضرراً علينا، ثم تأتي الفتنة بعد ذلك فتُنْسي الفتنةَ التي جاءت من قبلُ، حتى يقول الرجل: هذه الفتنة مهلكتي، أو إن هلاكي سيكون في هذه الفتنة.
أجل أيها الإخوة: إننا في زمان الفتن وفي زمن المهلكات، وقد تضاربت فيه الآراء، واختلف الناس فيما بينهم، ليس في الآراء فقط، وإنما اختلفت قلوبهم وهذا ما خشي منه نبينا صلَّى الله عليهِ وسلَّم على هذه الأمة، فقال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه البخاري في الصحيح: "فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا ، كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيكم كما ألهتهم"لم يخشَ علينا قلة المال، فالمال وفير، والخيرُ كثير ولله الحمد والمنَّـة - اللهم إنا نسألك دوام النعم، ونسألك معرفة النعم بدوامها وثباتها - إنما خشي علينا النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم هذا التفرُّق على دنيانا، هذا الشتات الذي شتَّت أمور المؤمنين وجعل أناساً في الشرق و أناساً في الغرب، وساءت أمورهم وضاعت، حتى لا يكاد الرجل يثق بكلام الرجل، وحتى تصدَّر المجالسَ من ليسَ أهلاً لها، وأصبحت الآراءُ تُؤْخذُ من الرجل الذي لا قيمة له، كما أخبر النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم، وذلك في حديثٍ صحيحٍ عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه :"سيأتي على الناس سنوات خداعات ، يصدق فيها الكاذب ، و يكذب فيها الصادق ، و يؤتمن فيها الخائن ، و يخون الأمين ، وينطق فيها الرويبضة . قيل : و ما الرويبضة ؟ قال : الرجل التافه يتكلم في أمر العامة" .التافه، أي: السفيه، ومن ليس له رأي، وليس له سند في علم أو قول حسن ثابت. الرجل التافه يتكلم في أمور العامة، يقرر لهم، يشرِّع لهم، يبدو أنه صاحب رأي وهو في الحقيقة ليس له أي شأن أو قيمة. أليس هذا زمن الفتن؟ أليست هذه هي الفتنة التي خشي علينا سيدنا محمد صلَّى الله عليهِ وسلَّم من أن نتنافس فيها. أليست هذه هي الدنيا التي يتنافس الناس فيها من أجلها؟ من أجل أشياء لا تضُرُّ ولا تنفع، ولا تُسمن من جوع. وقد كان لنا عهودٌ وعهودٌ مضت كان فيها للرجل الصالح مكانته، وللعالم العابد قوله ورأيه وشأنه، فغدونا إلى زمنٍ أصبح فيه كلام العالم لا يُصدَّق، وأصبح فيه رأي الرجل الصالح لا قيمة له، وأصبحنا نتهافت الأقوال من هنا ومن هناك، وما ذلك إلا دليل ضعفٍ في إيماننا، فما أحوجنا إلى تجديد الإيمان.
ما أحوجنا -أيها الإخوة- في هذا الزمن إلى أن نُجدِّد إيماننا، و أن نوثِّق الصلة بربنا سبحانه وتعالى، وتجديد الإيمان إنْ كان يبدأ كل يوم مع كل صباح، عندما يُشرق الصباح، فنشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله، وأن لا ملكوت في هذا الكون لسواه، وأن لا قادر عليه إلا هو سبحانه وتعالى، وينبغي أن نضيف إلى ذلك أموراً وأموراً، بأن نتقي الله، فتقوى الله هي حاجتنا التي نبحث عنها كل يوم (( اتقوا الله حقّ تقاته)) ، (( اتقوا الله ما استطعتم )). ولعل العلماء الذين قالوا في معنى تقوى الله تعالى: " أن يجدك الله حيث أمرك، وأن يفقدك حيث نهاك" ، قد يسروا علينا أمر التقوى إلى حدٍ كبير. يسروا علينا أمر تقوى الله سبحانه وتعالى، فما كان يرضِي الله فعلناه، وما كان يُغضب الله أعرضنا عنه، وأمسكنا وتركنا، وتخلينا عن كل ما يغضب الله سبحانه وتعالى.
أيها الإخوة المؤمنون: نحن في زمنٍ نحتاج فيه إلى التحقق بالإيمان كما حصل مع الْحَارِث بن مَالِكٍ الأَنْصَارِيّ ، إذ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُ: " كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثُ ؟ " , قَالَ : أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا ً، قَالَ : " انْظُرْ مَا تَقُولُ ، فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً ، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ" ؟ قَالَ : قَدْ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا , وَأَسْهَرْتُ لِذَلِكَ لِيَلِيَ ، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاعُونَ فِيهَا ، فَقَالَ : " يَا حَارِثُ ، عَرَفْتَ فَالْزَمْ " ..أي وصلت إلى حقيقة الإيمان وأعرضت عن الدنيا، ولم تجد أن الدنيا تستحقُّ أن يتنافس عليها الناس فيما يُغضب الله تعالى، فالزم ما عرفت وما وصلت وما بلغت.
اللهم إنا نسألك أن تُبلِّغنا حقيقة الإيمان، وأن تُنوِّر قلوبنا في مرضاتك، وأن تُجدِّد الإيمان في قلوبنا، كما أوصانا سيدنا رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم
 والحمد لله رب العالمين..

 التعليقات: 1

 مرات القراءة: 5759

 تاريخ النشر: 06/05/2012

2012-05-07

nana

أشكرك أستاذنا الكريم على هذه الخطبة الرائعة ... جزاك الله عنا كل خير

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 513

: - عدد زوار اليوم

7400491

: - عدد الزوار الكلي
[ 49 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan