::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مقالات متنوعة

 

 

الحجاب بين الفكر والفقه

بقلم : الأستاذ محمد عصام عيدو  

 

تتعرض قضية الحجاب في الوقت المعاصر لكثير من الإشكالات التي لها مايبررها لأول وهلة ولكنها ما تلبث أن تتداعى إذا أمعنا النظر في شرعة الحجاب ودراسة هذا المفهوم الذي ينتمي إلى الحيز الاجتماعي في الفقه الإسلامي .

ودراسة مسألة كهذه تفرض علينا تفقيرها بما يتناسب مع الطريقة التي ستتم فيها مناقشتها

ودون مقدمات طويلة في شرح فلسفة الحجاب وعلاقته بالناحية الإيمانية في حياة المسلمة يمكن لنا أن نحدد المحاور المشكلة في هذه القضية وهي :

أولا : موقع هذا الحكم وموضعه في البناء الفقهي .

ثانيا : علاقة هذا الحكم " الحجاب " بالناحية الإيمانية وأنه فرع لأصل .

ثالثا : العلاقة الكامنة بين الحجاب والحياء .

رابعا : دخول حكم " الحجاب " في حيز قاعدة " تغير الإحكام بتغير الأزمان " .

خامسا : هل الحجاب ظاهرة أو أصل متجذر في فكر البشر وطبيعتهم ؟ .

أولاً : إذا أمعنا النظر في الحجاب ، وإلى أين ينتسب هذا الحكم ، وماالحيز الذي ينتمي إليه , فلا أشك أنه يوجد خلاف في تمركز هذا الحكم في الحيز الاجتماعي للفقه الإسلامي وهل الداعي وراء فلسفة الحجاب إلا تحديد لعلاقات اجتماعية ضل الإنسان فيها طريقه كثيرا فجاءت شرائع الله تبين أهمية الستر وتحدد أمرا وسطا في رسم هذا الحكم وهو أنه لا إفراط ولاتفريط . فلا إفراط في الحجاب كي لا يكون هناك غلو في الستر متكلف خارج عن الطبيعة البشرية التي أرادنا الله أن نحياها في كل الأزمان وليس في زمن دون زمن ، ولاتفريط فيه حتى لايكون هناك دواع للخروج عن الفطرة البشرية التي أرادنا الله أن نستظل بظل جمالها

وما أمر الحجاب في الشريعة الإسلامية إلا رسم لتلك العلاقة الاجتماعية غير الواضحة بين الرجال والنساء وإذا كان هناك تشدد في رسم تلك العلاقة فهو للوهلة الأولى يبدو تشددا ولكن إذا نظرنا في انسياق البشرية الدائمة نحو الانحراف عن الوجهة الصحيحة سندرك أن هذا الحكم حكمة إلهية اقتضت الوقوف عند ذلك الحد . لأن ربقة الحياء إذا انخلعت من قلب الإنسان وفكره فإن هناك دمارا وتخبطا سيجعل الأمة تخرج عن مسارها الصحيح باسم الحياء نفسه الذي دعا إليه الإسلام ، وما أغرب أن يكون الدليل على صحة أمر هو الدليل في الوقت نفسه على فساد هذا الأمر ، أليس هذا بغريب ؟ ( سأوضح هذا عندما أبين علاقة الحجاب بالحياء )

نخلص من هذه العجالة البسيطة إلى أن الحجاب شرعة تتعلق بحياة الإنسان الاجتماعية وإذا كان هذا متفقاً عليه فإن هناك من الاجتماعيات ما يتغير ومنها ماهو ثابت وإذا سألنا السؤال التالي : ما هو التوصيف الاجتماعي للحجاب ؟ هل هو من الأمور المتغيرة التي تخضع لتغيرات المجتمع وحركاته الفكرية ؟ أو هو من الأشياء الثابتة التي عبر عنها الشرع بأنها من الفطرة الإنسانية التي تعبر عن الواجهة الاجتماعية لحياة الإنسان ؟

ودعونا نفصل أكثر : دعونا في البداية نقل افتراضاً إن الحجاب من الأمور المتغيرة التي تتبع فكر المجتمع وأنماطه المعرفية وبناء على هذا فلا مشكلة في شكل الحجاب إذا كان هناك حياء يحيط به ويغمره ، وهل الحياء أمر يختلف من إنسان إلى إنسان ، أم إنه هوهو قيمة أخلاقية تدل على شعور الإنسان وانفعالاته الداخلية وبالتالي فلا مشكلة في أي لباس كان المهم هو الحياء فالبس ماشئت ولكن كن حييا وإذا شئت فلا تلبس المهم أن تكون حييا وما المانع في ذلك إذا كان هناك حياء ينطوي عليه عملك !!!!!

أظن انه لن يوافقني أحد في هذا الكلام وأنني ابتعدت كثيرا عن المقصد المراد وأنه ليس هذا مرادنا الذي نبحث عنه وإنما الذي نبحث عنه هو أنه لامانع أن تخرج المرأة بلباس ساتر ولكن دون حجاب للرأس مع الحياء المراد ، ولكن يحق لي أن أسأل هنا : من يحدد هذا اللباس الساتر ؟ وهل هناك قانون واضح له ؟ ومن الذي له سلطة الحكم في هذا ؟ وهل هناك شيء مسلم بيني وبين كل إنسان في الاتفاق على هذا الشيء ؟

الجواب : سيكون لاطبعا ، إذا فاجعلونا نصغي لكلام يعتبر ميزانا في ذلك ( طبعا إذا كنا مؤمنين بهذا الدين الذي نتخذه منهج حياة لنا ) فشرعة الله تقول لا بد من حجاب الرأس لأن مواطن الإثارة كلها تنطوي في هذا المخلوق الجميل ومن منا لا يقر بهذا ولكنه الاعتياد والاستمراء في عدم العمل بهذا الحكم هو الذي جعلنا نرى هذا شيئا عاديا وربما يجرنا ذلك فيما بعد للقول وما المانع في كشف الصدر مادام الحياء موجودا وهل الصدر إلا تلك القطعة العادية من ذلك الجسم وهلم جرا ..... إلى مالانهاية حتى نسوغ لأنفسنا شرعة عري باسم الحياء

ثانياً : نحن إذ نناقش هذا الفرع المهم في الشريعة الإسلامية إنما نذكره على أنه فرع لأصل إيماني مستقر في النفوس ، بمعنى أنه لامحيد عن الالتزام بهذه الشرائع الفرعية إذا كان هذا الأصل موجودا وكيف يكون لهذا الإنسان العاقل أن يقبل شرعة كاملة بأصولها ثم يتناقض مع نفسه ويقول هذا لايتفق وهذا يتفق فنكون كالذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض وأولئك هم أصحاب المصلحة الخاصة الذين لاتروق لهم الأحكام إلا في نطاق ما يصب في مصلحتهم الخاصة

وبالتالي فإن الحجاب هو الحياء الإيماني والحياء الذي هو الخير إنما هو الحياء العام الذي لاينتمي لي أو لك أو لأي إنسان إنما هو الحياء الذي وصف في الحديث بأنه من الإيمان وأن البذاءة من الجفاء

وبالتالي فإن الحياء هو وصف إيماني وليس وصفا عائما يخضع لفكري الخاص أو فكرك الخاص

ثالثاً : وإذا كان الحجاب ينطوي على هذه العلاقة القوية بالحياء فأقول إنه ليس من الممكن أن تتغير قيمة أخلاقية من زمن إلى زمن بسبب التيارات الفكرية التي نعيشها كل يوم ، فالكذب كرذيلة أخلاقية سيبقى رذيلة أخلاقية أبد الآبدين والشجاعة كفضيلة أخلاقية ستبقى فضيلة اخلاقية أبد الآبدين والحياء بوصفه قيمة أخلاقية وصفت في الحديث على أنها من فروع الإيمان ستبقى قيمة أخلاقية عليا في حياة كل المجتمعات ولكن ماالذي تغير في مجتمعنا هذا حتى سوغنا لأنفسنا وقلنا إن الحياء بوصفه قيمة أخلاقية قد تغير وأن الآخرين في الزمن الماضي لم يكونوا يفهمون هذه القيمة بشكلها الصحيح والشكل الصحيح لها إنما هو شعور داخلي باطني في نفس الإنسان يدفعه ليعمل أشياء مختلفة وبالتالي فإن الناس في الزمن الماضي عندما كانوا يسترون الرأس كانوا لا يعرفون معنى الحياء وإنما كان تشددا فارغا منهم ليبرهنوا على حياء مصطنع غير مراد في هذا الدين

دعونا نفكر قليلا أليس كل قيمة أخلاقية شعورية أو لاشعورية داخل الإنسان تدفعه لأفعال ظاهرية تدل على هذه القيمة الباطنة ، وفيما يخص الحياء فإن المظهر الخارجي له إنما هو اتباع كامل لهذا الإيمان الذي يعتلج في دواخلنا لنعلن تبعية كاملة وانتماء خالصا لأحكام هذا الدين

رابعاً : إن من الأحكام ما يتغير بتغير الأزمان ومنها مالايتغير وإذا أردنا أن نؤصل هذه المسألة في القواعد المتبعة في هذا الدين فإن ما يتغير من الأحكام إنما هو الأحكام المستندة على العرف والعادة وليست الأحكام المنفكة عن هذه العادات لأنه بتغير الأزمان تتغير حاجات الناس وبناء على هذا يتبدل أيضا العرف والعادة وبتغير العرف والعادة تتغير الأحكام بخلاف الأحكام المستندة إلى الأدلة الشرعية وإذا أردنا أن نحدد المجال الذي ينتمي إليه حكم الحجاب هل هو من الأحكام المبنية على العرف والعادة أو هو من الأحكام المنفكة عن هذه العادات ؟ لاأظن أن هناك أحداً يوافق على أن الحجاب إنما شرع في عصر رسول الله لأن العادة كانت تقتضي ذلك و أن الناس في ذلك الوقت كانوا يحتاجون للحجاب لأنهم رأوا مصلحة كاملة فيه ، بل العكس تماما هو الصحيح لأن العادة كانت تقتضي أن يبقى الناس على ما هم عليه وماالمصلحة في الحجاب وما الحكمة الكامنة وراءه إذا كانت النساء في ذلك الوقت كلهن غير متحجبات أليس هناك تحكم مصطنع وغير مرغوب فيه من الشريعة في عادات الناس وأعرافهم ؟؟؟ أليس الجدير بالشريعة الإسلامية وهي الحريصة على مصلحة الناس أن تقول للناس ابقوا على ماأنتم عليه ولاتغيروا شيئا في أعرافكم ولكنْ هناك أمر لا بد منه وهو الحياء فهذا أمر من الصعب التنازل عنه فياأيتها الفتاة ابقي على ماأنت عليه ولكن إياك والحياء فهو أمر لابد منه ، ولكن الشريعة لم تفعل كل هذا وقالت بمفهوم إشارتها وصريح عبارتها إن الحياء لن يكون إلا من وراء هذا الحكم وهو " الحجاب " وبالتالي فإن الأمور تحددت

ويمكن أن يقال هنا ومافائدة الحجاب إذا لم يكن هناك حياء وهو مانشاهده عند بعض النساء فاالمسألة ليست مسألة حجاب وكفى .

ويمكن أن يرد على هذا بالقول وما فائدة إعلان الإسلام إذا كان هناك في الداخل نفاق وفساد كبير في نفس الإنسان ، أي أن المراد في الشريعة الإسلامية هو تحديد الأحكام وضبطها وتوظيفها وماوراء ذلك هو الإيمان بالحكم والتطبيق الأمثل له وهنا يأتي دور الحياء الذي نريده قيمة أخلاقية في حياتنا

خامسا : الحق الذي يشهد به تاريخ الأمم أن الحجاب – بصرف النظر عن كيفيته ومقوماته –كان موجودا قبل الإسلام في التشريعات الوضعية وفي الأديان السماوية ولم يكن الإسلام وحده هو مبتكر الحجاب ومشرعه ، ففي المدنيات القديمة كان الحجاب موجودا في بابل و آشور كما يدل عليه قانون " حمورابي " ففي لوحات فنية طينية اكتشفت في آشور القديمة ترجع إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد وجد نظام للحجاب مطبق على الحرائر دون الإماء وإذا أراد الرجل أن يعطي لامرأته صفة الزوجة يضع عليها حجابا أمام شهود ويقول إنها زوجتي ، وعرف الحجاب عند العبرانيين وظل معروفا إلى مابعد عهد إبراهيم بل إلى أن ظهرت اليهودية والنصرانية وقد تكررت الإشارة إليه وإلى البرقع في غير موضع من كتب العهد القديم والعهد الجديد ففي سفر التكوين في الأصحاح الرابع و العشرين" عن رفقة أنها رفعت عينها فرأت إسحاقا فأخذت البرقع وتغطت " . وفي الأصحاح الثامن والثلاثين :" مضت وقعدت في بيت أبيها ولما طال الزمن خلعت ثياب ترملها وتغطت ببرقع وتلففت" وفي الأصحاح الثالث من سفر أشعيا" أن الله سيعاقب بنات صهيون على تبرجهن والمباهاة برنين خلاخيلهن" .

فحقيقة الأمر أن الإسلام لم يكن بدعا في فرض الحجاب على المرأة المسلمة وإن كان الحجاب في القديم عادة فلا ريب أن الإسلام أصلح به أمر المرأة وجعله أدبا خلقيا هدفه منع الغواية والمحافظة على الحرمات

والله سبحانه وتعالى أعلم ...

 التعليقات: 2

 مرات القراءة: 4683

 تاريخ النشر: 13/06/2008

2008-07-13

محبك

ما شاء الله ... إحاطة و بيان مفيد .ز جزاك الله خيراً يا أستاذ عصام .. كتابتك هادئة متل شخصيتك . نفعنا الله بك

 
2008-06-17

شام

شكراً للكاتب الأستاذ عصام على هذه الإضاءة الرائعة والقراءة المتأنية لقضية الحجاب ، ونشكر إدارة الموقع على هذا التنويع في المواضيع المطروحة وفي أسماء الكتاب .

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 459

: - عدد زوار اليوم

7475481

: - عدد الزوار الكلي
[ 81 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan