wwww.risalaty.net


الرؤى والأحلام في الميزان الشرعي


بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان "المشرف العام"

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللّهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

^ مقدمة:

تشغَل الرؤى والأحلام كثيراً من الناس؛ لأنه ما من يوم إلا ويستيقظ فيه الناس على أحلام، وقد تكون هذه الأحلام مزعجة وقد تكون مريحة، قد تكون مبشرة وقد تكون منفّرة، بعض الناس يؤوّل هذه الرؤى تأويلات خاطئة، وبعضهم يؤولها تأويلات بعيدة عن مضمونها ومحتواها. بعضهم يعيش حياته كلها على الأحلام وينتظر أن يرى في منامه ما يعطيه مبشِّرات أو ما يدله دلالات واضحة على قضية من القضايا، ومن الناس من يخاف من النوم؛ لأنه يرى في نومه رؤى مزعجة ومشوّشة.

ما حقيقة «الرؤيـا»؟ وما موقف الإسلام منها؟ وهل للرؤى مشروعية في القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة؟ وهل يملك أي إنسان أن يعبّر رؤانا وأحلامنا ويتحدث عن الرؤيا حسب هواه وبما يحلو له؟

^ ما هي الرؤيا؟

الرؤى والأحلام تعطي الإنسان صورة لكيانه الخفي وحقيقته الروحية والنفسية، وهي صورة لمعدنه وجوهره، وفي الوقت نفسه هي إثبات لعالَم الروح المبثوث في حنايا الجسم والتي تتلقى أنواراً إلهية وإلهامات وإشراقات ربانية وكشوفات نافعة في مجالات الدين والحياة...

^ مشروعية الرؤيا في القرآن والسنة:

أ- في القرآن الكريم:

أما في القرآن الكريم فالرؤيا مبسوطة مبثوثة في كثير من الآيات من أبرزها رؤيا سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام.

1- رؤيا سيدنا يوسف عليه السلام:

سيدنا يوسف له رؤيا عظيمة حدث بها أباه فقال:[]...يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ[] سورة يوسف (4). هذه الكواكب هم إخوته الذين يناصبونه في البداية العداء حسداً وبغياً، ثمّ في النهاية يكونون من أتباعه ويفتخرون به عندما يصبح ملكاً على مصر ويتولّى خزانتها، ويكونون بالنسبة له كالوزراء من حوله في خدمته وصحبته، وقد تحقّق هذا فيما بعد كما قال الله سبحانه وتعالى:[]وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا...[] سورة يوسف (100). هذه هي الرّؤيا الحق، يراها الإنسان فتتحقق له ولو بعد حين.

2- رؤيا عزيز مصر:

كذلك تحدث القرآن الكريم عن رؤيا ملك مصر:[]وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ (44)[] سورة يوسف. لاحظوا أنهم حكموا على رؤيا ملك مصر أنها أضغاث أحلام، بينما سيدنا يوسف عليه السلام عندما أوّلها لملك مصر دلّه على أن هذه الرؤيا سيكون لها في المستقبل آثارٌ عظيمة، أولها سيدنا يوسف فقال:[]...تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)[] سورة يوسف. فبعد قدوم سبع سنوات من القحط تعود الخيرات من جديد وتتجدد العطاءات، وهكذا أول سيدنا يوسف هذه الرؤيا تأويلاً حسناً، وتحققت كما أولها عليه الصلاة والسلام.

ب - في السنة النبوية الشريفة:

إن ما يراه الإنسان أثناء نومه إن كان شيئاً يسّره الله سبحانه وتعالى فهي رؤيا صادقة وصالحة ومبشرة على نمط ما كان يرى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كان من هدي النبي عليه الصلاة والسلام حضُّه المؤمنينَ على تبشير بعضهم برؤيا يرونها لبعضهم، أما الرؤيا المزعجة فلا ينبغي أن يحدث المؤمن بها، ولْيصرفها عن نفسه فإنها من الشيطان. فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لم يبقَ من النبوة إلا المبشرات". صحيح البخاري. وكذلك قوله: "إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله تعالى، فليحمدِ الله عليها وليحدّثْ بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذْ من شرها ولا يذكرْها لأحد فإنها لا تضره". صحيح البخاري. وورد في الحديث أيضاً: "الرؤيا على جناح طائر كما تُؤوَّل تقع".

أثبت الله سبحانه وتعالى لنا في القرآن الكريم أن البشرى تكون للمؤمنين في قوله:[]لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ...[] سورة يونس (64). وقد سأل سيدُنا أبو الدرداء رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال: "ماذا تقول في هذه الآية؟" فقال عليه الصلاة والسلام: "ما سألني عنها أحد قبلك. يا أبا الدرداء! هي الرؤيا الحسنة يراها المؤمن وتُرى له".

* رؤيا النبي عليه الصلاة والسلام:

رؤيا النبي عليه الصلاة والسلام هي رؤيا مشروعة كما ورد في الحديث عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه: "مَنْ رآني في المنَامِ فَسَيَرَانيِ في الَيَقَظَةِ ولا يَتَمثَّلُ الشَّيْطانُ بي". صحيح البخاري. فإذا رأى شخصٌ ما النبيَّ عليه الصلاة والسلام في الرؤيا بصورته؛ صورة الكمال التي ورد ذكرها في شمائله عليه الصلاة والسلام فهي رؤيا حق؛ لأن الشيطان لا يملك أن يتشبه بالنبي عليه الصلاة والسلام.

بدأ الوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرؤيا الصالحة، فكان يرى الرؤيا وتتحقق عياناً، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وهو ما عبر عنه عليه الصلاة والسلام بقوله: "رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة". متفق عليه. وهي إشارة إلى أن النبوة بدأت بسن الأربعين وانتهت بعد ثلاث وعشرين سنة مع وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. واستمر معه ذلك إلى قُبيل نزول جبريل عليه السلام وذلك لمدة ستة أشهر، ولو قسّمنا مدة النبوة التي دامت ثلاثاً وعشرين عاماً إلى ستة وأربعين جزءاً لكان نصيب الرؤيا منها 1/46.

 

^ أنواع الرؤيا:

ثبت في صحيح الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قسّم الرؤيا إلى ثلاثة أقسام: الرؤيا الحق، والرؤيا التي تنتج عن تلاعب الشيطان وحديث النفس، وأضغاث الأحلام.

والأحلام لها أنواع متعددة من هذه الأنواع:

أ- الرؤيا الحق:

وهي الرؤيا الصادقة التي يجعلها المَلَك في مخيّلة الإنسان المؤمن، وتكون من المبشّرات، وهي رؤيا تتحقق فيما بعد أو يكون لها ثمرة طيبة كرؤيا الشاعر شرف الدين البوصيري لمّا أصيب بالشلل ولزم فراشه زمناً طويلاً وبدأ نظم قصيدة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم مطلعها:

أمِن تَـذَكُّرِ جيـرانٍ بِذي سَـلَمِ       مزجْتَ دمعاً جرى من  مُقلةٍ بِـدَمِ

أم  هبّتِ الريـحُ من  تِلقاءَ كاظمةٍ      وأومضَ البرقُ في الظلماءِ من إضَمِ

ولما وصل إلى قوله:

ومَبلَـغُ العِـلمِ  فيـهِ أنُّهُ بشـرٌ       ................................

سكتَ فلم يستطع أن يكمل البيت، فنام فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرؤيا قد زاره في بيته وسأله عن حاله، فاشتكى إليه البوصيري من عدم تمكنه من إتمام هذا البيت، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم أكمله هكذا:

................................       وأنـهُ خيـرُ خَلْـقِ اللهِ كُلِّهِـمِ

ثم ألبسه النبي عليه الصلاة والسلام بُردة، ومسح المكانَ المشلولَ بيده الطاهرة، فقام البوصيري من نومه دهشاً مسروراً وقد شفاه الله تعالى من مرضه، فسمّى القصيدة بـ "البردة". ذكر هذه القصةَ كثيرٌ من العلماء والفلسفة والمتصوّفة، وأخذوا بها على أنها نموذج للرؤيا الصادقة التي يراها المؤمن، كـ"ابن خلدون" و"ابن رشد"، و"ابن سينا" المشهور بتأويل الرؤى، والشيخ العارف بالله "عبد الغني النابلسي" رحمهم الله تعالى أجمعين، كلهم نقلوا هذه القصة وعوّلوا عليها بأنها من الرؤيا الصادقة المبشّرة التي يراها المؤمن.

فالرؤيا الحق هي رؤيا لا شك فيها ولا خلاف أبداً، وهي من المبشرات ولها تأويل، وهي كشف روحي باطني، وإلهام رباني، ولا تكون للإنسان إلا عندما ينـزه باطنه (قلبه ونفسه) عن الرذائل والغفلات، وتفنى سرائره عما سوى الله، فيرى الفاعل الحقيقي في هذا الوجود والمتصرف في شؤون الخلق هو الله سبحانه، فتأتي الرؤيا لتكون له نوراً يسدد طريقه ويكشف له الغامض من الأمور، وتكون لها ثمرة في حياة المؤمن.

والرؤيا الصالحة تكون عوناً للإنسان عند الشدائد واليأس، فتكون له قوة وتمكيناً على مواجهة الشدائد والصعوبات.

ب- الرؤيا الصادقة:

كرؤيا ملك مصر و تفسير سيدنا يوسف لها. هذه رؤيا وافقت الواقع ونصَّ عليها ربنا سبحانه وتعالى في القرآن الكريم.

والأحلام أنواع:

جـ- الأحلام الرمزية:

وهي تعمل على تحقيق رغبة مكبوتة في الأعماق، و أوضح مثال لها رؤيا سيدنا يوسف عليه السلام.

ء- وسوسة النفس:

وهي أحلام من تلاعب الشيطان، لا تفسير لها؛ لأنها رغبات نفسية لم تتحقق للإنسان في الواقع فيراها في المنام، كأن يرى الجائع في نومه أنه يأكل طعاماً يشتهيه، وكأن يرى العاشق الذي عذبه البعد من يحب ويهوى.. وحديث النفس هذا هو أشياء يلقيها الشيطان في مخيلة الإنسان حتى يتصور بعض الأوهام. فهي لا تُؤَوَّل ولا تُعَبَّر، إلا أنها تريح صاحبها نفسياً.

هذا النوع لا بأس به، لكن في المشكلة في الأحلام التي تأتي نتيجة الوسوسة فتتحول إلى كوابيس، لذلك عندما يرى الإنسان رؤيا نتيجة وسوسة النفس وحديثها، وربما نتيجة تفكّره ببعض الأشياء قبل النوم، عليه عندما يرى ما يُنَفِّر أن يَتْفُل ثلاثاً عن شماله، وأن يتحول إلى جنبه الأيمن، ويُفَضَّل لهؤلاء الناس أن يناموا دائماً على وضوء، وأن يُكثروا من تلاوة القرآن والمعوِّذات وسورة الإخلاص، وأن يقرؤوا آية الكرسي وسورة الفاتحة، ولا يناموا إلا على أورادٍ وأذكار ليتخلصوا من تلك الوسوسة وتلك الكوابيس.

هـ- أضغاث الأحلام:

هي كل ما هو بعيد عن المنطق العلمي أو عما يمكن أن يتحقق في حياة الناس اليومية، وهي الخلط والالتباس والتشويش، وهي أحلام غير منطقية لا يقبلها العقل، وأسطورية لا تحدث في الواقع، وعشوائية لا تستند إلى دليل علمي، ولا وزن لها، ولا تؤول أو تعبَّر.كأن يرى الإنسان النجومَ تطلع في وسط النهار، أو أن يرى شجراً ينبت في السماء وهكذا.

فأضغاث الأحلام هذه لا قيمة لها أبداً، وعلى الإنسان أن يستعيذ من الشيطان الرجيم عندما يرى أحلاماً من هذا النوع ويشعر أنها بعيدة المنال، وبعيدة عن الواقع.

و- الأحلام الحسية:

وهي أحلام تأتي نتيجة إحساس معين. كأن يكون اللحاف فوق فم النائم فيأتي الإحساس ليضخم هذه الحالة حتى يراها النائم عدواً جاثماُ فوق صدره يحاول أن يخنقه، وربما تدور بينه وبين ذلك العدو معركة خطيرة... وفي النهاية يرفع اللحاف عن رأسه فينتهي المنام. وربما يكون الإنسان أحياناً يعاني من حر شديد أثناء النوم، فيرى نفسه يحترق، أو يرى أنه في حالة صقيع شديد عندما يكون الجو بارداً.

وهذه الحالات الحسية أيضاً لا تؤثر في التعبير والتأويل ولا قيمة لها، وإنما هي  نتيجة إحساس معين يعيشه الإنسان في تلك اللحظة.

ويُفترض أن يميز الإنسان أنواع الأحلام، فيميز الأحلام التي لا تُؤَوَّل؛ كأضغاث الأحلام أو أحلام الوسوسة أو الأحلام الحسية، عن الأحلام التي تؤول ويكون لها صدى وتأثير؛ الأحلام التي تكون من المبشرات، حيث ينام الإنسان المؤمن على طهارة، وقد قرأ أوراده وأذكاره، وتأتيه في الرؤى علامة على أنه سيتحقق له في المستقبل أمر ما، فمِثل هذه الرؤى هي الرؤى التي يستبشر بها المؤمن، أما ما يكون من تلاعب الشيطان فليس لها دلالات وليس لها أي قيمة.

يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا صلى الفجر واستدار نحو أصحابه سألهم: "هل رأى أحدٌ منكم رؤيا؟". صحيح البخاري. فيخبره من رأى رؤيا ويفسرها له النبي عليه الصلاة والسلام، وكثيراً ما كان عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه: "لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له". صحيح ابن حبان.

^ الشروط الواجب توفرها في مُعبِّر الرؤى:

يفترض في مؤوّل الرؤى أن يتميز بالعلم لواسع، والمعرفة والثقافة والاطلاع وقراءة القرآن، والمعرفة بحديث النبي عليه الصلاة والسلام، والتمكن من اللغة والشعر والأمثال، فلا يجوز ولا يصح أن نعرض الرؤى على إنسان لا خبرة له في التأويل، أو إنسان جاهل، وربما يكون مشعوذاً يضحك على الناس فيؤول لهم حسب هواه.

أبرز من اشتهر بتعبير الرؤى في التاريخ الإسلامي الإمام "محمد بن سيرين" ثم جاء بعده الإمام العارف بالله "عبد الغني النابلسي" رحمهما الله تعالى.

جاء رجل إلى الإمام ابن سيرين رحمه الله تعالى فقال له: "يا إمام! إني رأيت في الرؤيا أني أؤذن". فقال له الإمام: "أنت تحج في هذا العام". وجاء رجل آخر فقال له: "يا إمام! إني رأيت في الرؤيا أني أؤذن". فقال له: "أنت سارق". فقال الناس للإمام ابن سيرين: كيف أوّ!لت الرؤيا نفسها لرجلين تأويلين مختلفين؟!. فقال: "أما الأول فكان رجلاً عليه سيما الصلاح والتقوى، فأخذت تأويلها من قول الله تعالى:[]وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا...[] سورة الحج (27). وأما الثاني فكان مشهوراً بالخداع والكذب وسيرته ليست طيبة، فأوّلتها من قول الله تعالى:[]...ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ[] سورة يوسف (70). قيل: وقد ضُبط هذا الإنسان في سرقة، وأما الأول فقد رُئِيَ يحج إلى بيت الله الحرام.

رأى الخليفة العباسي المهدي رأى رؤيا عَجَز المعبرون عن تأويلها. قال لهم: "إني رأيت في الرؤيا أن وجهي قد اسودّ". فلم يجدوا له من يؤول هذه الرؤيا إلا رجلاً يقال له "إبراهيم الكرماني". فقال له: "أيها الخليفة! "تولد لك بنت". قال: "وكيف عرفتَ ذلك؟". قال استنتجته من قول الله تعالى:[]وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ[] سورة النحل (58). فأعطاه الخليفة ألف درهم جائزةً له، فلما ولدت زوجته وكانت المولودة أنثى دعا ذلك الرجل وأعطاه ألفاً ثانية تكريماً له على تأويله الصادق الدقيق.

جاء شخصان إلى ابن سيرين رأى كل منهما في منامه كلباً، ففسر للأول تفسيراً يختلف عن الثاني وقال: "أما الأول فكان راعياً، فالكلب بالنسبة إليه عنصر ضروري وأساسي في عمله، وهو حيوان أليف يتميز بالوفاء ويقوم بالحراسة، ويساعده في رعاية أغنامه، وأما الثاني فكان من أهل المدينة لا يحتاج للكلاب، والكلب في نظره حيوان مزعج لا يصدر عنه إلا النباح والإزعاج والعض والأذى". فكان التأويل للأول يختلف عن الثاني وفقاً للمحيط الذي نشأ فيه الرائي.

فالتأويل إذاً يحتاج إلى إنسان خبير بحال الرائي وبمحيطه أيضاً حتى يؤوِّل له تأويلاً صادقاً ودقيقاً. ويحتاج إلى خبرة ومعرفة ومواصفات دقيقة، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام لمّا كان يؤول الرؤى لأصحابه رضي الله عنهم كان يستند في تأويله إلى حال الرائي. فمثلاً ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "بينما أنا نائم رأيت عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرّه في المنام"، فقالوا: "يا رسول الله! ماذا أوّلته؟" فقال: "الدين". متفق عليه. لأن اللباس في النوم هو الدين، واللباس يحفظ صاحبه من الحر والبرد كما أن الدين يحفظ صاحبه من عذاب الدنيا والآخرة، وبما أن سيدنا عمر رضي الله عنه كان شديداً وصلباً في الدين، فإن النبي عليه الصلاة والسلام رأى أن سيدنا عمراً يجر لباسه من ورائه، أي أن الدين قد استمسك بسيدنا عمر وأحاط به، وأنه سينجيه يوم القيامة، فهو أحد الصحابة المبشَّرين بالجنة، ومن أوائل من يدخلها بعد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالتأويل يستند للمعرفة بالقرآن الكريم، والحديث الشريف، والأمثال والحِكم والشعر، ومعرفة عامة بالألفاظ العربية؛ لأن الثقافة العامة والمعرفة بهذه الخصائص تترك أثراً كبيراً في النفوس ومعرفة عامة لدى المؤوِّل.

فمثلاً العرب تستعمل في الشعر "طويل النَّجاد" بمعنى الكرم، فإن رأى الإنسان نفسه أنه طويل النجاد ويجلس تحت خيمة مرتفعة فهذا كناية عن الكرم.

وإن رأى قوساً فالقوس عند العرب تعني المرأة، فالمرأة كالقوس إن قوّمته كُسر، فالتأويل يعتمد أحياناً على المعنى، وأحياناً على الألفاظ.

 رؤية النرجس في المنام تدل على الزوال والذهاب؛ لأن النرجس يذبُل بسرعة ولا يدوم.

بينما رؤية شجر الآس تدل على الثبات والدوام؛ لأنه طويل العهد وباقٍ بقاءً مستمرا.

 رؤية الخيط أو الخيّاط في الرؤيا تدل على الألفة؛ لأن الخياط أو الخيط مهمته التأليف بين الثياب، فرؤيته تدل على ألفة ستحصل بين الناس.

رؤية الجدار في النوم تعني الإنسان الثابت.

ورؤية السقف تدل على الرجل عالي السمعة، رفيع المكان، صاحب الشأن العظيم، وفي ذلك دلالة على الاتساع والارتفاع.

^ الرؤى لا يُؤخذ منها أحكام شرعية:

في الختام علينا أن نوضّح مسألة مهمة، وهي أن الرؤى والمنامات لا يُؤخذ منها أحكامٌ شرعية، ولا يمكن أن تُعد قراراً ثابتاً بنص شرعي من القرآن، أو السنة، أو مما أجمع عليه السلف الصالح، أو من الأحكام الشرعية المبيَّنة في كتب الفقهاء، إنما الرؤيا تكون بالاستئناس، وتكون من المبشرات، وفيها فرحة للنفس، فعندما يرى الإنسان شيئاً يبتهج به ويفرح ينعكس على نفسه خيراً وبِشراً وتوفيقاً إن شاء الله تعالى. فلْنحذر من أولئك الذين يكذبون علينا في تأويلهم، ومن الذين يكذبون في رؤاهم، فالذي يكذب في الرؤيا إنما يكذب على المَلَك الذي أمره الله سبحانه وتعالى أن يضرب في مخيّلة الإنسان المؤمن رؤيا صالحة تكون له من المبشرات.

^ دعاء:

نسأل الله تعالى أن يفقّهنا في ديننا، وأن يعلّمنا التأويل ويلهمنا رُشدنا، وأن يجعلنا ممن يتبعون القول فيتّبعون أحسنه، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.