wwww.risalaty.net


السُّورة العجيبة (لمن شاء الحجَّ بقلبه ودمعته)


بقلم : عصام بن صالح العويِّد

 

بسم الله الرحمن الرحيم
 
أنزل الله سبحانه في كتابه العظيم سورتين تبينان للناس كيف يكون الحج إلى بيته المعظم، هما: سورة الحج وسورة البقرة، أما سورة البقرة وهي الثانية نزولاً فهي سورة (أوامر ونواهي) ولذا جاء التأكيد فيها على الأقوال والأفعال وأحكام الإتمام والمنهيات والكفارات، وبدأت بزمن الحج (الأهلة) وختمت بذكر الله في الأيام المعدودات، وتأتي الإشارة فيها للتقوى تنبيهً على هذا الأصل العظيم.
وأما سورة الحج فهي (سورة قلبية) فآيات الحج فيها غالبها عن حج القلب ((لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى منكم))، ((ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ))، ((ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)).
فمن جمع بينهما في حجته جمع الخير كله، ومن انتقص منهما أو من أحدهما اُنتقص من حجه بقدر نقصه، وإنَّ مما تظاهرت النصوص في الدلالة عليه أن كمال أو نقص (حج القلب) أعظمُ أثراً في قبول الحج أو رده من أثر (أعمال الجوارح) مع الضرورة لهما جميعاً، ولكن ((قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا))، فليس الكمال في تعظيم القلب لهذه الشعائر كالكمال في سنن الطواف والسعي والرمي ونحوها، ولا الخدش في لباس التوحيد كالخدش في لباس الإحرام، ولا تطهير القلب من الرياء والعجب والحقد والحسد كتطهير اللسان من العبث وتطهير البدن من التفث والثياب من الوسخ. وكلاهما دين قد تعبدنا الله به لكن الأول أصل والثاني فرع له، وبينهما تلازم ظاهر إلا في حال صلاح الظاهر مع فساد الباطن.
وما أحسن قول القائل في شأن المسير إلى الله:
قطع المسافة بالقلوب إليه لا    بالسير فوق مقاعد الركبان
 
@ السورة العجيبة (سورة الحج):
تتابع الأئمة ابن سلامة البغدادي وأبو بكر الغزنوي وابن حزم الأندلسي وابن تيمية الحراني ـ رحمهم الله ـ على وصفها بأنها: من أعاجيب سور القرآن.
وقد تدبرتها دهراً ليس بالقليل، ونظرت في تفاسير السلف وأئمة المحققين من المتأخرين فما ركنتُ إلى وصف يخصها إلا أنها "سورة الأحبار" لعمق معانيها، وصعوبة الربط بين سياقاتها، وكثرة الخلاف العالي بين الفحول في أوجه تفسيرها.
فمن خصائص هذه السورة:
- أنه لم يجتمع في القرآن كلِّه: المكي والمدني والليلي والنهاري والسفري والحضري والحربي والسلمي والناسخ والمنسوخ والمحكمُ والمتشابه والشتائي والصيفي إلا في سورة الحج.
- ولا يُدرى أهي مكية أو مدنية والخلاف فيها بين الجُلة من الصحب الكرام.
- ولم تسمَ سورة باسم ركن من أركان الإسلام إلا "الحج"، ولا يعرف لها غير هذا الاسم.
- ولم تجتمع سجدتان في سورة من القرآن إلا فيها، روى الإسماعيلي في مستخرجه: أن عمر رضي الله عنه قال: فضلت سورة الحج بسجدتين.
- ولم تفتتح سورة في النصف ألأخير من القرآن بـ "يَا أَيُّهَا النَّاسُ" إلا سورة الحج.
- وفي القرآن بضع وستون مثلاً لم يقل الله عز وجل (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) إلا في مَثَل سورة الحج.
- وفيها ذكر القلوب الأربعة: الأعمى والمريض والقاسي والمخبت الحي المطمئن إلى الله، ولم تجتمع هذه الأربعة إلا في سورة الحج.
- وفيها الآية التي لم تترك خيرًا إلا جمعته ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)).
فهذه ثمانُ خصائصٍ تميزت بها عن أخواتها من سور القرآن .
@ مقصود السُّورة :
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن مقصودها: تضمنت منازل المسير إلى الله، بحيث لا يكون منزلة ولا قاطع يقطع عنها.
وكلام هذا الإمام يحققه أن السورة سميت باسم الحج، والحج في اللغة: هو القصد إلى معظم، وأعظم مقصود هو الله العظيم سبحانه، والناس كلهم سائرون إلى هذا العظيم في جلاله وجماله ورحمته وعذابه جل في علاه.
فهي علامات ومنارات للسائر، في أي طريق يسلك؟ ثم كيف يسير؟ وما هو زاده؟ ومن أي شيء يحاذر؟
وأول هذه العلامات في السورة:
هو الأدب في أسلوب الخطاب حتى مع الكافر، فإن النداء بـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) إنما يراد به المشركون كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا ظاهر فعلى كثرة النداءات في القرآن لم يأت الخطاب بـ (يا أيها المشركون) ولا (يا أيها الذين أشركوا) في القرآن كله، بل جاءت آيتان فقط (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، بينما تكرر الندء بـ (يا أيها الذين آمنوا) في تسعة وثمانين موضعاً ، وتكرر أيضا النداء بـ (يا أهل الكتاب) و(يا بني إسرائيل) وغيرها كثير، والقرآن خطاب للمشركين كما هو لغيرهم ولا يوجد نداء لهم إلا (يا أيها الناس) فكان كما قاله ترجمان القرآن رضي الله عنه.
وقد عَددتُ في الوجه الأول فقط من هذه السورة العظيمة عشر علامات لمن أراد المسير إلى ربه وهي: التلطف في الخطاب.. والقوة فيه.. والعناية بالقلب أولاً.. واستعمال التخويف بالآخرة.. والتفصيل في هذا.. والتحذير من أهل الذكاء وأصحاب الألسنة إذا مارَوا وموهوا وزخرفوا الباطل بما أُوتوا من دهاء وخِلاَبَةٍ فهولاء أتباع الأكابر مِن (كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ).. وضرورة اليقين الماحي لأدنى ريب بالبعث.. والاستدلال بالرؤية البصرية للرؤية القلبية.. ودلائل قوة الجبار في خلقه.. وضعف الإنسان في خلقته.
وامض في هذا ستجد عجباً من هدايات السورة ودلالاتها.
 
@ الحاج مع سورة الحج:
الحاج قاصد للبيت العتيق ولابد له في مسيره هذا من علامات تهديه حتى يصل إلى مقصود، فجاءت علامات ودلالات القرآن للحاج ظاهرة تلوح في السورة ، فأقولها لكل حاج ـ صادحاً بها ـ: عجباً لحاج يقصد الحج ولم يتدبر سورة الحج!!
فهي تجمع بين مسير الحاج إلى البيت العتيق بقدميه وبين مسيره إليه بقلبه، تجمع بين تلبية القلب وتلبية اللسان، تجمع بين رميه الجمار بيديه ورميه بقلبه، بين نحره الهدي بيديه وبين نحره مع حضور قلبه.
فإن سألت: كيف نحج بقلوبنا مع جوارحنا؟
فالجواب ـ والعلم عند الله ـ أن رحى آيات هذه السورة العجيبة يدور على (التعظيم)، فمن أراد ذلك فعليه أن يُدخل في قلبه تعظيم ما عظم الله فيها بكثرة النظر والتدبر في آياتها وبما أمرت به أن يُعظّم، ويجتهد في قلبه أعظم الاجتهاد لتحقيق ذلك فيه، ويصبر ويصابر ويقطع الساعات والليالي ويطيل الفكرة ويذرف الدمعة في الخلوة حتى يُفتح له، وهذه أمور قلبية ليس لها إلا طول المجاهدة.
والسورة تؤكد على تعظيم أمور ثلاثة:
الأول: تعظيم الله رباً ومعبوداً، والخلوصُ إليه والثقة الكاملة به بحيث لا يشوب ذلك نقصٌ ولا كَدَر بأي وجه من الوجوه، وتأمل هذه الآيات فيها:
- ((يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ))
- ((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))
- ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ))
- ((حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ))
- ((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ))
- ((أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ))
- وفي ختام السورة ذلك المثل العجيب ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ))، والطالب هنا يشمل من دعا غير الله ومن يطلب الذبابة ليستنقذ منها حقه، والمطلوب يشمل من دُعي من دون الله وأيضاً الذبابة المطلوبة، فالكل وإن كان ملَكا أو رسولاً أو ملِكاُ أو غيرَهم هم ضعاف في جنب القوي القاهر جلّ وعلا.
وأذكر في حجة مضت أن حاجّةً حُشرت عند الحجر الأسود فخافت على نفسها فصاحت وكررت بصوت عالٍ وبينها وبين بيت الله أشبار تقول: (يا بدوي خلصني ... يا بدوي خلصني ... يا بدوي خلصني ...)
ألم تقرأ هذه في سورة الحج والله يقول: ((يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيد)).
وبعض الناس يدعو الله عند الكعبة وبين الصفا والمروة وفي عرفة ومزدلفة ومنى وهو يجرب ربه ليس بواثق ولا موقنٍ من إجابة من دعاه فتقول له آياتها:
- ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)) (11)
- ((مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ)) (15)، على أحد المعنيين المشهورين للآية وكلاهما صحيح.
الثاني: تعظيم اليوم الآخر، وآيات سورة الحج تهز القلوب والجوانح هزّاً شديداً:
- فمطلعها ((إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)).
و(المرضعة) بالتاء هي التي حالها أنها الآن ترضع صغيرها، فهي ترمي به في وقت مَصِّه لثديها ، ويا سبحان الله شجرةٌ لن تُحاسب وبعوضةٌ لن تُسأل ونملةٌ لن توزن وهرةٌ لن تعرض على جنة أو نار؛ فلأي شيء أجهضت هذه جميعاً حملها ((وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ))؟!
- وفي وسط السورة ((هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ)) (21) .
ولعلك أن تتأمل لِمَ قدم الله عز وجل البطون على الجلود هنا، وهذا أبان عنه السلف رضوان الله عليهم فأخرج ابن أبي حاتم عن السُّدي قال: يأتيه الملك يحمل الإناء من شراب النار فإذا أدناه من وجهه يكرهه، فيرفع مِقْمَعَةً معه فيضرب بها رأسه فيَفْدَغ دماغه، ثم يفرغ الإناء من دماغه فيصل إلى جوفه من دماغه.
فكان والحالة هكذا ـ عياذاً بالله ـ وصوله إلى البطون أسرع منه إلى الجلود.
- وأما المؤمنون فوعده الجميل لهم ((إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ))
والآيات في هذا المعنى في السورة كثيرة.
الثالث: تعظيم شعائر الله وأركان دينه العظام كالصلاة والزكاة والحج والجهاد ونحوها.
وقد تكررت الآيات في هذه السورة العظيمة على وجوب تعظيم شعائر الحج:
- (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (32)
- (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) (30)
وبيان أن هذا التعظيم أصله في القلب:
- (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (37)
- (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) (34)
ومن أعظم ما يقطع مسيرَ الإنسان إلى الرحمن، ومسيرَ الملبين إلى البيت العظيم، قلةُ تعظيم شعائر الله، ولذا أبان الله في هذه السورةِ العظيمة وكرّر وأكدَ وجوبَ تعظيم المسجد الحرام وتعظيمِ البيت والحجر، والركنِ والمقام، والصفا والمروة، ومنى وعرفةَ والمزدلفة، والجمراتِ والهدي التي لا تراق دماؤها إلا لله، ولا يعني تعظيمها أن يُتبرك بها أو يُظن أنها تنفعُ أو تضر من دون الله، ولكن ليَعلم الناس أن هذا بيتُ الله أضافه إليه تشريفاً وتعظيماً له.
 وقد جعل الله للبيت مسجداً، وجعل للمسجد حَرَماً وحمىً محرمةً يأمن فيها الإنسان والحيوان والشجر ففي الصحيحين "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ ‏ ‏مَكَّةَ ‏ ‏يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَهِيَ حَرَامٌ بِحَرَامِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي وَلَمْ تَحْلِلْ لِي قَطُّ إِلَّا سَاعَةً مِنْ الدَّهْرِ لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا يُعْضَدُ ‏‏شَوْكُهَا وَلا ‏يُخْتَلَى ‏خَلَاهَا‏".
وجعل للحمى المحرمةِ مواقيتَ لا يتجاوزُها قاصد البيت إلا وقد خلع مخيطه وكشف رأسه وأعلن بالتلبية توحيدَه الخالصَ لربه،كلُ هذا تعظيماً لبيت الله، ولذا ثبت في الحديث ‏عند أحمد وغيره "‏لاتَزَالُ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِخَيْرٍ مَا عَظَّمُوا هَذِهِ الْحُرْمَةَ حَقَّ تَعْظِيمِهَا فَإِذَا ضَيَّعُوا ذَلِكَ هَلَكُوا".
وقد أدرك الصحابة معنى قول الله (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)، فمن عجائب تفسير ابن عباس رضي الله عنهما قوله: لو لم يحجَّ الناسُ هذا البيت لأطبق الله السماء على الأرض. أخذ هذا من قوله تعالى ((جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ)) أي به قوام أمور دينهم ودنياهم.
بل أدركت ذلك ‏البهائم ففي صحيح البخاري عن ‏ ‏الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ ‏قال: "‏خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏زَمَنَ ‏ ‏الْحُدَيْبِيَةِ ‏‏حَتَّى إِذَا كَانَ ‏بِالثَّنِيَّةِ ‏ ‏الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ‏.. فَأَلَحَّتْ،‏ ‏فَقَالُوا‏: خَلَأَتْ ‏ ‏الْقَصْوَاءُ ‏ ‏خَلَأَتْ ‏ ‏الْقَصْوَاءُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:‏ ‏مَا ‏خَلَأَتْ ‏‏الْقَصْوَاءُ وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا ، ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ".
فيا لله من قوم لم يدركوا عظمة هذه الشعائر بينما ناقة قد أدركت ذلك!
وقد قال الله في سورة الحج مهدداً (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (25)، وقد ضمَّن فعل (يُرِد) ههنا معنى (الهَمِّ) أي أنه سبحانه سيجازى على مجرد الهَمِّ بالظلم حتى لو لم يرتق ذلك في نفسه إلى الإرادة , ولهذا عداه بالباء فقال (بِإِلْحَادٍ) فدلت الباء على الفعل المُضمَّنِ المناسب لها وهو (هَمَّ) كما هي طريقة البصريين في تضمين الأفعال بدلالة حروف التعدية.
ولو أن الحاجّ تدبر (سورة الحج) وسار في حجه بقلبه وجوارحه معاً لرأينا حجاً روحانياً تلُفه السكينة والوقار، وتغشاه الرحمة والألفة، وتُعطِّر كلَّ أرجائه كلمات التسبيح والتكبير والتلبية ، وترطب القلوبَ فيه الخشية والدمعة، ولم نرَ ما نرى من مظاهر الخلل في الأمر الدقيق والجلل.
- فكم نرى من نواقض ونواقص التوحيد والتفريط بترك الصلوات في الحج؟!
- وكم نرى من الظلم والسرقة والغش والكذب والسب واللعن والغيبة والنميمة والسخرية بالناس وغير ذلك حول بيت الله وفي شعائر الحج؟!
- وكم نرى من كشف العورات والتساهل في الحرمات في الحج؟!
- وكم نرى من التدخين ورمي القاذورات وأذية الحجاج لبعضهم؟!
فكل هذا إنما يحدث لضعف تعظيمنا للعظيم سبحانه وشعائره العظام.
أخي زائر البيت الحرام.. قد شرف الله أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام بأن يعمل مُطهِّراً ومُنظِّفاً للبيت العتيق من أدران الشرك والنجاسات (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (26) .
أفلا نسير على خُطى أبينا الخليل فنطهر الحطيم والحرم وعرفة ومنى وسائر الشعائر من كل شرك وقذر؟
هذه بعض منازل تلك السورة العجيبة العظيمة..
فاحملها بين جنبيك في حجك وحياتك..
عسى الله أن يجعلني وإياك من أهلها، وأن تكون حُجة لنا لا علينا..
وصلى الله وسلّم على خير مَن لهذا الشعائر عظَّم....