wwww.risalaty.net


بيت العنكبوت


بقلم : الأستاذ الدكتور زغلول النجار

بسم الله الرحمن الرحيم :

"‏مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ العَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ‏ "‏ ‏(‏العنكبوت‏:41) .‏

من أقوال المفسرين :

‏ذكر ابن كثير‏ ما مختصره ‏:‏ هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله ‏,‏ يرجون نصرهم ورزقهم، ويتمسكون بهم في الشدائد‏,‏ فهم في ذلك كبيت العنكبوت في ضعفه ووهنه‏ ,‏      

وجاء في تفسير الجلالين‏ ما نصه‏: " مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ‏‏ "‏ أصناما يرجون نفعها.‏ "‏ كَمَثَلِ العَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ‏" لنفسها تأوي إليه‏. "‏ وَإِنَّ أَوْهَنَ‏ "‏ أضعف‏. "‏ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنكَبُوتِ‏ " لا يدفع عنها حراً ولا بردا‏ًً,‏ كذلك الأصنام لا تنفع عابديها‏. " لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ‏ " ذلك ما عبدوها‏.‏

ومما جاء في التعليق بالهامش :‏ العنكبوت‏‏ دويبة تنسج في الهواء‏,‏ وجمعها‏(‏ عناكب‏)‏ والذكر‏(‏ عنكب‏)‏، وفي هذه الآية إشارة إلى أن الأنثى هي التي تقوم بنسج البيت دون الذكر‏,‏ وبيتها هذا يضرب مثلاً على الضعف وعدم القوة أو المتانة‏.‏

 وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن‏ ما نصه‏: " مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء ‏... "‏ أي مثل هؤلاء في اتخاذهم الأصنام آلهة يعبدونها ويعتمدون عليها‏,‏ ويرجون نفعها وشفاعتها‏,‏ كمثل العنكبوت في اتخاذها بيتاً واهياً من نسجها لا يغني عنها في حر ولا قر‏,‏ ولا في مطر ولا أذى . . .‏

‏وجاء في صفوة التفاسير‏ كلام مشابه

العنكبوت في منظور العلم :

العنكبوت حيوان من مفصليات الأقدام ‏(Arthropoda) ,‏ يصنف في طائفة العنكبيات ‏(ClassArachnida)‏ التي تجمع رتبة العناكب‏ مع عدد من الرتب الأخرى مثل العقارب ‏‏,‏ والقراد‏. ‏والعنكبوت ‏(Spider)‏ ينقسم فيه الجسم إلى مقدمة يلتحم فيها الرأس مع الصدر‏,‏ ومؤخرة غير مقسمة تشمل البطن‏.‏ وتحمل المقدمة أربعة أزواج من الأقدام‏,‏ وزوجين من اللوامس‏,‏ وزوجا من القرون الكلابية‏(Chelicerae)‏ على هيئة الكماشة أو المخالب التي تحتوي على غدد السم‏,‏ ويفصل مقدمة الجسم عن مؤخرته خصر نحيل‏. ‏وللعنكبوت عيون بسيطة يصل عددها إلى الثماني ‏,‏ وقد يكون أقل من ذلك‏,‏ وهو حيوان مفترس يعيش على أكل الحشرات‏,‏ وله جلد سميك مغطي بالشعر‏,‏ ينسلخ عنه من سبع إلى ثماني مرات حتى يصل إلى اكتمال النضج‏.‏

وعلماء الحيوان يعرفون اليوم أكثر من ثلاثين ألف نوع من العناكب التي تتباين في أحجامها‏(‏ بين أقل من الملليمتر والتسعين ملليمترا‏)‏ وفي أشكالها‏,‏ وألوانها‏,‏ ومعظمها يحيا حياة برية‏,‏ فردية في الغالب إلا في حالات التزاوج وفقس البيض عن الذرية‏,‏ وتمتد بيئة العناكب من مستوى سطح البحر إلى ارتفاع خمسة آلاف متر‏,‏ وللعنكبوت ثلاثة أزواج من نتوءات بارزة ومتحركة في أسفل البطن لها ثقوب دقيقة يخرج منها السائل الذي تصنع منه خيوط نسيج البيت الذي يسكنه‏,‏ ولذلك تعرف باسم المغازل‏,‏ وهذه المادة السائلة التي تخرج من عدد من الغدد الخاصة إلى خارج جسم العنكبوت عبر المغازل تجف بمجرد تعرضها للجو‏,‏ وينشأ عن جفافها خيوط متعددة الأنواع والأطوال والشدة‏,‏

‏ وقد يمكث العنكبوت في بيته الذي يزاول فيه جميع أنشطته الحياتية‏,‏ وقد يتخذ له عشا أو مخبأ غير البيت يرتبط به بخيط يعرف باسم خيط المصيدة‏.‏ ويهرب إلى هذا المخبأ في حالات الخطر‏.‏

من الدلالات العلمية للنص الكريم:

- الإشارة إلى العنكبوت بالإفراد‏ :‏

الغالب أن لفظة‏(‏ العنكبوت‏)‏ اسم للواحدة المؤنثة المفردة‏ ,‏ والجمع‏(‏ العناكب‏) .‏

وتسمية السورة الكريمة بصياغة الإفراد‏(‏ العنكبوت‏)‏ يشير إلى الحياة الفردية لهذه الدويبة فيما عدا لحظات التزاوج‏,‏ وأوقات فقس البيض‏,‏ وذلك في مقابلة كلٍ من سورتي النحل والنمل والتي جاءت التسمية فيها بالجمع للحياة الجماعية لتلك الحشرات‏.‏

- في قوله  تعالى‏ : "‏ اتَّخَذَتْ بَيْتاً‏ " :‏

إشارة واضحة إلى أن الذي يقوم ببناء البيت ـ أساساً ـ هي أنثى العنكبوت‏ التي تحمل في جسدها غدد إفراز المادة الحريرية التي ينسج منها بيت العنكبوت‏،‏ وإن اشترك الذكر في بعض الأوقات بالمساعدة في عمليات التشييد‏,‏ أو الترميم‏,‏ أو التوسعة‏,‏ فإن العملية تبقى عملية أنثوية محضة‏

- في قوله تعالى :"‏ وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنكَبُوت ‏... "‏:

‏(1)‏ أن بيت العنكبوت هو من الناحية المادية البحتة أضعف بيت على الإطلاق؛‏ لأنه مكون من مجموعة خيوط حريرية دقيقة متشابكة‏‏ تاركة مسافات بينية كبيرة في أغلب الأحيان‏,‏ ولذلك فهي لا تقي حرار شمس‏,‏ ولا زمهرير برد‏,‏ ولا تحدث ظلاً كافيا‏ًً,‏ ولا تقي من مطر هاطل‏,‏ ولا من رياح عاصفة‏,‏ ولا من أخطار المهاجمين‏,‏ وذلك على الرغم من الإعجاز في بنائها‏,‏ فالخيوط من الحرير الدقيق ,‏ يبلغ سمك الواحدة منها في المتوسط واحداً من المليون من البوصة المربعة‏,‏ أو جزءاً من أربعة آلاف جزء من سمك الشعرة العادية ‏,‏ وهي على الرغم من دقتها الشديدة أقوى خمس مرات من نظيرها من الصلب‏,‏ وتتميز بمقاومة للشد أكبر من مثيلتها من الصلب، سواء نسبت تلك المقاومة لوحدة الحجوم أو لوحدة الوزن من الخيط المختبر‏,‏ بل إن الدراسات الحديثة قد أثبتت أن الخيط من حرير عنكبوت من نوع نيفلا ‏(Nephila)‏، وهو من مجموعة الحائك الدوار‏  (Orbweaver)‏ يعد أقوى ثلاث مرات من مثيله المصنوع من المادة المعروفة باسم كيفلار‏(Kevlar),‏ وهي مادة ذات أساس بترولي تستخدم في صناعة الصديرية الواقية من طلقات الرصاص‏،‏ لذلك يعد حرير العنكبوت واحداً من أقوى المواد الموجودة على سطح الأرض؛ لأنه يتحمل شدا يصل إلى‏42000‏ كيلو جرام على السنتيمتر المربع، مما يكسبه قابلية هائلة للمط (‏Stretching)،‏ وأعطاه قدرة على الإيقاع بالفريسة من الحشرات دون أن يتمزق‏,‏ خاصة وأن العنكبوت يبني بيته من ضفائر تضم الواحدة منها عدداً من هذه الخيوط المضفرة‏‏ والمجدولة تجديلاً قويا‏ًً,‏ ولذلك قال ربنا ـ‏ تبارك وتعالى‏ ـ: " أَوْهَنَ البُيُوتِ‏ ",‏ ولم يقل أوهن الخيوط‏,‏

‏(2)‏ أن بيت العنكبوت من الناحية المعنوية هو أوهن بيت على الإطلاق؛ لأنه بيت محروم من معاني المودة والرحمة ‏؛ وذلك لأن الأنثى في بعض أنواع العنكبوت تقضي على ذكرها بمجرد إتمام عملية الإخصاب، وذلك بقتله وافتراس جسده ‏,‏ وفي بعض الحالات تلتهم الأنثى صغارها دون أدنى رحمة‏,‏ وفي بعض الأنواع تموت الأنثى بعد إتمام إخصاب بيضها الذي عادة ما تحتضنه في كيس من الحرير‏,‏ وعندما يفقس البيض تخرج ‏Spider lings) ‏( فتجد نفسها في مكان شديد الازدحام بالأفراد داخل كيس البيض‏,‏ فيبدأ الإخوة الأشقاء في الاقتتال من أجل الطعام أو من أجل المكان أو من أجلهما معاً، حتى تنتهي المعركة ببقاء عدد قليل من العنيكبات التي تنسلخ من جلدها‏,‏ وتمزق جدار كيس البيض لتخرج الواحدة تلو الأخرى‏,‏ والواحد تلو الآخر بذكريات تعيسة‏,‏ لينتشر الجميع في البيئة المحيطة، وتبدأ كل أنثى في بناء بيتها‏,‏ ويهلك في الطريق إلى ذلك من يهلك من هذه العنيكبات،‏ ويكرر من ينجو منها نفس المأساة التي تجعل من بيت العنكبوت أكثر البيوت شراسة ووحشية‏,‏

- في قوله ‏: " لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ":‏

هذه الحقائق لم تكن معروفة لأحد من الخلق في زمن الوحي‏,‏ ولا لقرون متطاولة من بعده‏,‏ حيث لم تكتشف إلا بعد دراسات مكثفة في علم سلوك حيوان العنكبوت استغرقت مئات من العلماء لعشرات من السنين حتى تبلورت في العقود المتأخرة من القرن العشرين‏,‏

وعلى ذلك فإن الوصف القرآني لبيت العنكبوت بأنه أوهن البيوت‏,‏ هذا الوصف الذي أنزل على نبي أمي‏ ـصلى الله عليه وسلم‏ ـ في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين من قبل ألف وأربعمائة سنة يعتبر سبقاً علمياً لا يمكن لعاقل أن يتصور له مصدراً غير الله الخالق الذي أنزل القرآن الكريم بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه‏ ـ اللغة العربية‏ ـ‏ على مدى أربعة عشر قرناً أو يزيد‏,‏ وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .

المصدر : موقع الدكتور زغلول النجار.