wwww.risalaty.net


رمضان يطرق الأبواب .. فلا تفتحوا له


بقلم : د . أحمد خيري العمري

رمضان يطرق الأبواب .. فلا تفتحوا له

 

ـ من بعيدٍ يأتي ليزورنا، وكل آتٍ قريب، يقطع الوديان والجبال والسهول. يتجاوز الحدود والبحار والمحيطات. يتجاهل التأشيرة والتعرفة الجمركية، لا يُلقي بالاً لتقلبات الأوضاع السياسية والتحشدات العسكرية ..

من بعيدٍ يأتي ليزورنا، وكل آت قريب ..

ننتظره أحياناً بلهفة، وأحياناً نُفاجأ به في غمرة انشغالنا. مرة نفرح به ونستعد لزيارته لنا، ومرةً نضيق ونتبرم، ونتمنى لو أخَّرها يوماً واحداً، وإن كنا نخفي ذلك أدباً وتأدباً.

من بعيدٍ يأتي ليزورنا، وكل آت قريب..

لا يخلف موعد زيارته أبداً، لكن موعده يختلف بيوم أو يومين. يأتينا في السنة مرة مثل مغترب مشتاق. فيمكث عندنا شهراً – وأحياناً شهراً إلا يوماً – كما المغتربين المشتاقين، لكن المستعجلين، يأتي إلينا محملاً بالحقائب والأمتعة، فنهرول إليها، ولا نكاد نُسلِّم عليه ونؤدي الواجب، حتى نلتفت إلى الحقائب، فنبعثر محتوياتها وهداياها الغالية، نتفحصها ونُقَيِّم أثمانها، ونتخاصم حول تقاسمها، ونثرثر حول ذلك طوال الوقت، ونصدع رأسه بخصوماتنا.

 

وعندما يذهب، تكون حقائبه فارغة إلا من مشاكلنا وطلباتنا. لو كان مثل كل المغتربين لأقسم ألا يأتي في السنة القادمة، لكنه لا يفعل ذلك أبداً، سيأتي في كل الأحوال...

رغم شبح الحرب الذي يروح ويجيء بالقرب من حدودنا، رغم صدودنا، رغم عقوقنا، رغم نسياننا، ورغم جحودنا، يظل يأتي إلينا ويزورنا...

إنه هناك ... لعله الآن في الشارع المجاور، أو البيت المجاور. لعله الآن قد هبط من السيارة محملاً بحقائبه.. من بعيد يأتي إلينا وكل آت قريب ..

رمضان على الأبواب، يكاد يطرقها.. فلا تفتح له ...

 

*    *    *    *    *    *

ليس خطأً مطبعياً..

أقول لك: هذه المرة لا تفتح له..

نعم، هذه المرة عندما يأتي رمضان، لا تفتح له أبوابك، أوصدها جيداً. ارفع مستوى تحصيناتك، زِدْ من الأقفال والمتاريس، اقطع الكهرباء عن جرس الباب، وأحكم إسدال الستائر، وضع القطن في أذنيك، حتى لا تشعر بتأنيب الضمير.

ولا تفتح له ..

أقول لك : لاداعي، لا تفتح له.

صدِّق ما أقول: لا تفتح له.

 

*    *    *    *    *    *

إذا كنتَ ستفعل به ما فعلته في المرة السابقة ، لا تفتح له..

إذا كان سيمر على حياتك كما مرَّ في السنوات السابقة، لا تفتح له ..

لا داعي لذلك ..

إذا كان سيكون مجرد رمضان آخر؛ مجرد ضيف آخر يزورك كل سنة مرة، ويمكث شهراً ثم يمضي دون أن يترك أثراً، فلا تفتح له..

إذا كان سيكون شهراً آخر تجوع وتعطش فيه قليلاً، ثم تتخم وتمتلئ فيه بطنك كثيراً، فمن الآن أقول لك : لا تفتح الأبواب.

إذا كان سيكون شهراً آخر تستقبله وأنت تشترط عليه ألا يشترط عليك، تستقبله وأنت تقرر أن لا عهود ومواثيق دائمية معه، فلا تفتح الأبواب.

إذا كان سيكون مجرد شهر قمري آخر، يبتدئ برؤية الهلال وينتهي برؤيته أو عدم رؤيته!

فأقول لك : لا تتعب نفسك ولا تكلفها.. ولا تفتح الباب.

.... أقول لك : رمضان على الأبواب. يكاد يطرقها فأطرق برأسك، وفكِّر، قبل أن تفتح الباب أو لا تفتحه.

 

*    *    *    *    *    *

ولأن القضية خاسرة، إذ إنه سيتسلل في كل الأحوال من الثقوب والمسامات وفتحات الشبابيك، وربما مواسير الماء، فإني أقترح عليك اقتراحاً آخر..

افتح له .. ولكن ليس بالضرورة الأبواب.

في كل مرة كنت تستقبله فيها، كأي ضيف آخر، كنت تفتح له الباب.

أقول لك: ما دام الأمر سيان، فلا داعي، إنه سيدخل ويتجاوز الأبواب في كل الأحول، ولن يبالي إذا وجدها مغلقة بإحكام أو مُشرعة مفتوحة على مصاريعها.

ولن يعاتبك على أصول ( الإيتيكيت ) .

إنه لا يريد منك أن تفرش له السجاد الأحمر، أو تضيء له الأنوار الساطعة في الخارج.

إنه سيدخل في كل الأحوال.

فافتح له فتحاً مختلفاً هذه المرة.

وليكن فتحاً مبيناً....

 

*    *    *    *    *    *

الناس أيضاً تفتح لرمضان أبوابها..

أول ما تفتح جيوبها ومحافظها، وأحياناً خزائنها، وهذا معلوم، لا شيء يمكن أن يهز تقاليد الطعام العتيدة في هذا الشهر...

ثم إنها تفتح أشداقها وأفواهها، وهذا مفهوم طبعاً.

ثم إنها وبعد ذلك تفتح أعينها، على اتساعها، في اجترار ما تبثه القنوات من مسلسلات وبرامج وتسال رمضانية، ويحدث ذلك في أثناء عملية فتحٍ للأفواه أخرى تشمل طحن المكسرات التي تزدهر في رمضان ...

كما ترى، الناس يفتحون لرمضان فتوحاتٍ مختلفة ..

لكني أتحدث عن فتحٍ آخر، عن فتحٍ كبيرٍ ومبين.

يا صديق...

في قلبك مغارات ومغارات ...

وفيه أيضاً كهوفٌ مغلقة، وأرض مجهولة وبقاع سرية .

في قلبك أماكن لا يعرفها أحد، ولا أنت، بل أنت ذاتك لا تعرفها.

وفيه كواكب ومجرات لم تطأها قدم إنسان.. وفيه غرف سرية لا يعرف مداخلها أحد ..

وفيه صحارى وغابات عذراء، وفيه قارات مجهولة غاطسة تحت قاع البحر، وفيه كواكب ونجوم لم يرصدها ( تلسكوب ) بعد، ومجرات لا تزال تتوالد، وتتراكض في كون متمدد باستمرار..

وفيه أهم من ذلك كله، وقبل ذلك كله، أنت : حفنة من هموم ومشاكل، عقد ومخاوف، هواجس وذكريات ...

ماضٍ مليء بالمتاعب، ومستقبل ملبد بالغيوم..

وفيه أيضاً الكثير من الدخان؛ دخان السجائر التي ينفثها قلبك باستمرار، حتى صار يبدو مثل محرك معطوب ..

وفي قلبك قفل، وعلى القفل متراس ومزلاج ..

وعليه أيضاً بيت عنكبوت، وعش حمامة ..

لم يقترب من القفل أحد ...

وأقول لك : افتح لرمضان قلبك ..

اترك عمليات الفتح التقليدية الأخرى، وهذا ( الرمضان ) افعل شيئاً استثنائياً وافتح قلبك لرمضان.

 

مختارات من كتاب ( الذين لم يولدوا بعد )

للدكتور / محمد خيري العمري