wwww.risalaty.net


الخطـاب الدينـي وتحدّيـات العصـر


بقلم : رازق سرياني

      مكتبـة الإسكندريـة

 المؤتمر السادس للإصلاح العربي

"العالم العربي بين الحاضر والمستقبل"

محور الثقافة والإعلام في العالم العربي

          2 آذار 2009

 

الخطـاب الدينـي وتحدّيـات العصـر

 

تحتلّ مسألة الخطاب الديني ركناً أساسياً في سياق الحديث عن دور الأديان في تطوير المجتمعات. إذ إنّ للخطاب الديني تأثيراً بالغاً في توجيه وتشكيل فكر الناس ووجدانهم وسلوكهم في مجتمعاتنا العربية، وخصوصاً تلك التي يشكّل الدين فيها مكوّناً بارزاً من مكوّنات الهوية الفردية والجماعية. والخطاب الديني هو شكل من أشكال الاتصال مع الناس في ظلّ مجتمعات عربية تُعتبر في غالبيتها متدينة. وليس غريباً أن يكون الحديث عن الخطاب الديني ذا أهمّية فائقة في وقتنا الراهن، وخاصّة أنّه يقوم أيضاً بصقل ثقافة الناس الدينية، وبالتالي القيم والمبادىء والسلوكيات الاجتماعية. أمّا الدعوات لتجديد الخطاب الديني وإصلاحه فهي ليست أمراً جديداً بل قديم، ولكنّه صار مطلباً داخلياً وخارجياً نتيجة الأحداث العالمية والتحوّلات الحضارية التي يشهدها عالمنا المعاصر.

 

عناصر الخطاب الديني:

وبشكل عام، توجد في الخطاب الديني أربعة عناصر أساسية هي:

المُرسل الذي يعلن ويوصل الرسالة، والمستقبِل الذي توجّه له الرسالة ويستقبلها ويستوعبها ويسعى ليطبّق ما تلقّاه، والرسالة التي تحتوي على مضمون ما يريد المُرسل أن يوصله إلى الآخرين، وأخيراً وسيلة الاتصال التي قد تكون شفوية أو مكتوبة، وقد تكون معلنة بوسائل الإعلام المرئية والمسوعة، أو عن طريق شبكة الإنترنت الإلكترونية، أو عبر المؤسّسات الدينية التقليدية.

وفي هذه العناصر كلّها هناك تأزّمات وإشكاليات نعايشها في عصرنا الحالي تثير جدلاً عامّاً حول فحوى الخطاب الديني وضرورة تجديده ليتماشى مع متطلّبات العصر ويناهض الفكر التعصّبي والتطرّفي السائد، وينشر تعليماً وفكراً معاصراً مستلهماً التعاليم الإلهية والقيم الروحية في نشر ثقافة إنسانية تدعو إليها جميع الأديان دون استثناء. وفي الأحوال كلّها، يستند الخطاب الديني أساساً إلى نصوص كتابية ووحي إلهي وتقليد ديني وفكر لاهوتي.

 

أزمات الخطاب الديني في الشرق العربي:

في هذا الإطار يتّفق الباحثون على أنّ أزمات الخطاب الديني في عصرنا الحالي لا تنبع فقط من فحوى هذا الخطاب وبنيته، إنّما تنبع أيضاً من صاحب الخطاب أي الشخص المُرسل الذي على كاهله تقع مسؤولية نقل فحوى الخطاب، بعقلية وفهم وتوجّه، نجد من الصعب أحياناً السيطرة عليه أو التحكّم به. ومن المهمّ أن نذكر هنا، أنّ المصادر والمراجع الدينية واللاهوتية التي يستقي منها صاحب الخطاب مادّته هي مصادر موثوقة لا لبس فيها، لا بل إنّها ثوابت دينية لا تحريف فيها. وأذكر هنا بعض الأزمات:

1)   أزمة العقل: يبدو أنّ ما يعيشه الشرق العربي من صراعات سياسية وطائفية واجتماعية وثقافية، ومن انتشار للتعصّب والأصولية والتطرّف، إنّما سببه هو أزمة في العقل المشرقي الذي يخشى، وبصفة عامّة، مسألة الحداثة والتجديد في التفكير، فيلجأ إلى الهروب من الواقع والانفصام عن أوضاع المجتمعات المعاصرة، والاحتماء المطلق بالدين والنصوص الكتابية، وتفسيرِها وشرحِها باجتهادات ورؤية شخصانية أحياناً. لا بل جعلها وسيلةً لترهيب عقول الناس بتهمة المروق من الدين. لا يزال العقل العربي عاجزاً عن أن يسخّر طاقاته لخدمة الدين والعكس صحيح. وهو يبحث دائماً عن الأصول، ولكنّه لم يستطع أن يوفّق بين الأصالة والمعاصرة، وبين الفكر الأصولي والحداثة. ويبدو أنّه لم يخرج بعد من صدمة اللقاء مع الغرب والحداثة وانفتاح العالم على ظاهرة العولمة والانثقاف. ولم يستطع التكيّف مع الواقع والمستجدّات الجديدة في المجتمعات العربية، بل ما زال يقبع في ردهات القمع والتهميش الفكري، والقوقعة المذهبية والطائفية، والفكر التكفيري. وفي السياق ذاته، ما زال الخطاب الديني الحاضر هو خطاب تقليدي يسخّر في مفرداته حالة من التمييز الطائفي والديني والإثني والمذهبي، تجعل من الالتزام المطلق بالنصّ الديني وتطبيقه بالحرف خياراً يؤدّي في المحصلة إلى نتائج كارثية على مجتمعات اصطبغت بالتعدّدية بكلّ أشكالها. ولكنْ، لدينا في التاريخ المسيحي والإسلامي نماذج لمدارس لاهوتية وفقهية سعت إلى التوفيق بين أصول الدين والواقع، وأفسحت في المجال أمام العقل لكي يتعامل بحرّية مع النصّ الديني، أمثال مدرسة الإمام محمد عبده. وفي المسيحية أيضاً هناك عدّة مدارس لاهوتية بعضها يعتمد التفسير الحرفي لنصوص الكتاب المقدس، وبعضها الآخر يعتمد التأوين والتأويل وصولاً إلى التطبيق الحياتي والتعامل مع الإنسان من خلال واقعه المتجدّد. في جميع الأحوال، الفكر في حاجة دائماً إلى التجديد ويجب أن يحاكي بيئته وعصره وإلاّ بات فكراً جامداً.

 

2)   أزمة مخاطبة الإنسان بكليّته: يشير عدد من الباحثين إلى أنّ الخطاب الديني يعاني من أزمة فقدان منطق التعامل مع الإنسان بكليّته، على أنّه كائنٌ متكاملٌ غير مجزّأ، فيه الجسد والروح والعقل والإحساس والوجدان والإرادة والفطنة. إذ يُهمل الخطاب الديني في كثير من الأحيان جانب الواقع الحياتي الإنساني ومعاناته اليومية، وما زال مهتمّاً بشكل كبير بشرح النواحي العقائدية والطقسية والآبائية التي هي صيغ تعبّر عن الإيمان. إلاّ أنّ الأزمة تنبُع عندما يتعامل الخطاب الديني مع العقائد بطريقة مصالحية تلبية لحاجة أنانية ظرفية، أو بطريقة مجرّدة من إطارها ومحيطها الإنساني، فيتحوّل إلى خطاب جامد نمطي لا يجد سبيلاً له للتواصل مع مشاكل وتطلّعات الناس والمجتمع. في المسيحية مثلاً هناك عقائد كثيرة تتحدّث عن جوهر السيد المسيح وغير ذلك من العقائد. إلاّ أنّ كلّ هذه العقائد، على أهمّيتها في تثبيت الإيمان، يجب أن تتعلّق في نهاية المطاف بالإنسان الحاضر، وبعلاقته مع الله، ومع أخيه الإنسان في ظرف تاريخي حاضر. ولكنّه أيضاً متجدّد ولا يجوز أن يبقى الماضي ماضياً مجرّداً من أن يكون له علاقة ُ صلةٍ وتجسّدٍ بالحاضر وبالمستقبل. وهكذا، فالخطاب الديني متأزّم في ربطه بين الماضي والحاضر، بين العقيدة ومفعولها المتجسّد في الحياة الواقعية، الحاضرة للإنسان، والتي لها في الوقت ذاته بُعد روحي صاعد إلى الأعلى لملاقاة الله في الحياة الآتية. إنّه خطاب يهتمّ بالشكليات والمحرّمات أكثر ممّا يهتمّ بأولويات تطبيق العدالة الاجتماعية وتحقيق الكرامة الإنسانية.

 

3)   أزمة التشدّد والتعصّب: يتفق الباحثون في شأن الخطاب الديني أنّ هذا الخطاب لم يستطع أن يرقى في منطقتنا العربية إلى مستوى تحصين الشعوب من أمراض التطرّف والتعصّب الديني والمذهبي الشاذّ، والتشدّد الفكري، ورفض الآخر، والشحن الطائفي، وتغذية الصراعات الداخلية. بل نرى على العكس ازدياداً في هذه الظواهر على حساب نشر ثقافة المواطنة والتنمية الشاملة والتسامح الديني والعيش المشترك. فما زالت بعض الخطابات الدينية لا تقبل مناخات التعدّدية الدينية والإثنية والعرقية، والحرّية في المعتقد، جهلاً منها أنّ الخالق خلق الكون بتـنوّع وتناغم في آن معاً. وأنّ الاختلاف في الشكل واللون والجنس واللغة والعرق، هي إرادة إلهية في أساس خلق الكون. فالجنس البشري واحد بغضّ النظر عن انتمائه الديني. وبعض الخطابات الدينية ما زالت في عصرنا الحالي تحفّز وتشجّع على نبذ الآخر وإساءة الظنّ فيه ورفضه، لا بل تكفيره أحياناً، وبالتالي عدم قبوله ونفيه من الوجود.  

وإذا كنّا نتحدّث عن الخطاب الديني في خضمّ تحدّيات العصر، فلا بدّ أن نحدّد ما هي هذه التحدّيات؟ وما الذي يمكن أن يساهم فيه الخطاب الديني درءاً لأخطار هذه التحدّيات عن الناس؟ وهل ارتقى الخطاب الديني إلى مستوى يستطيع معه أن يخاطب الإنسان بما يجمعه مع الله وما يجمعه مع أخيه الإنسان؟

 

تحدّيات العصر التي تواجه الخطاب الديني:

1.   الانفتاح على الثقافة الإنسانية العالمية: يعاني الخطاب الديني من مسألة الانغلاق على الذات، ورفض الأفكار في الثقافة العالمية، وإغلاق الباب في وجه التبادل الثقافي والفكري والإنساني مع العالم. فالعولمة الفكرية والثقافية باتت تتحدّى مضمون الخطاب الديني التقليدي في شرقنا العربي. ومواقع شبكة الإنترنت والدردشة تقتحم كلّ منزل وكلّ فكر. ولا بدّ للخطاب الديني من أن يطوّر نفسه ليصبح خطاباً دينياً يحاكي المستجدّات والتطوّرات الدينية والثقافية والإنسانية العالمية. أي أن يرقى هذا الخطاب إلى مستوى العالمية والشمولية في التفكير. وأن يكون مرآة تعكس الواقع المحلّي بمنظور عالمي، ويكون أثر المحلّي واضحاً في العالمي. فالانعزالية لم تعد تنفع في عصر الانفتاح وسقوط الحواجز الفكرية والثقافية بين الناس والمجتمعات. إنّ مشكلة الخطاب الديني السائد أنّه لم يصل إلى مرحلة من التطوّر ليستطيع معها مخاطبة عقلية الغرب بلغة يستطيع الغرب أن يفهمها بعيداً عن أسلوب الوعظ، وليستطيع أن ينقل أفكاراً وفقهاً وتراثاً ولاهوتاً يؤثّر في الذهنية الغربية ويزيل الفكر النمطي السائد حالياً عن شعوبنا العربية، ويتحدّث عن غنى التراثات الشرقية الدينية وقيمها السامية. 

 

2.   الحوار وقبول الآخر: إنّ ما نلاحظه هو أنّ أغلب الخطابات الدينية هي خطابات إنشائية فيها شيء من نبذ الآخر وعدم قبوله، وفيها شيء من التشدّد والتعصّب المذهبي والطائفي تغذّيه أفكار بعيدة عن حقيقة الدين وتعاليمه. فما زالت الخلافات المذهبية الداخلية بين أبناء الدين الواحد تأخذ حيّزاً هامّاً من فحوى الخطاب الديني، تؤجّجه العصبية الطائفية من جهة، والتأويلات الخاطئة عن الآخر من جهة أُخرى، وربّما بعض التيّارات الفكرية الغربية المغرضة. وفي التراث الديني المسيحي هناك قصص إنسانية تتحدّث عن الصراع وعدم قبول الآخر مثل: قاييل وهابيل، ويوسف وإخوته وغيرهما. والقارىء لهذه القصص يرى أنّ مسألة قبول الآخر والاعتراف به هي مسألة قديمة في التاريخ ولكنّها متجدّدة في سياق أحداثه. يتحدّث الكتاب المقدّس عن مسألة قبول الآخر في قول السيد المسيح: "فكلّ ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم" (متى 7: 12).  فقبول الآخر لا يعني بالضرورة أن يكون الآخر مماثلاً ومشابهاً ومطابقاً لي، بل يعني القبول به على ما هو عليه من شكل ولون وعرق ودين وفكر وثقافة وانتماء. وهذا بحدّ ذاته تحدٍّ يواجه فحوى الخطاب الديني السائد الذي ينفي الآخر، ولا يقبل بالتعدّدية، ولا بالحوار مع الآخر لمجرّد أنّه مختلف. ويفترض أيضاً تنشئة الخطباء على هذه المفاهيم السامية لدفع الناس إلى التفكير والإبداع.

 

3.   التخلّف الحضاري: وهذا تحدٍّ آخر يواجهه الخطاب الديني في وقتنا الحالي حيث إنّ تراجع الحالة الثقافية والعلمية والفكرية وصلت إلى مراحل غير مسبوقة في تاريخ العرب. وازداد عدد الجهلة والأمّيين والمتزمّتين الذين يشكّلون جماعات عنف وتطرّف. أضف إلى ذلك الصراع الفكري السائد بين أنصار التحديث اعتماداً على تجارب الغرب، وبين أنصار الاكتفاء بما هو محلّي خوفاً من ضياع الهوية الثقافية والدينية. وقد يصل هذا الصراع أحياناً إلى شكل من أشكال التجاذب والتصادم والحرب المعلنة وغير المعلنة بين التيّارين الفكريين، يؤدّي بالنتيجة إلى تشتّت فكر الشخص المستقبِل، وأحياناً أُخرى إلى نفوره من الخطاب الديني.    

 

شكل الخطاب الديني لمواجهة التحدّيات:

بعد أن ذكرت عدداً من التحدّيات التي تواجه الخطاب الديني، لا بدّ من الوقوف عند بعض التوجّهات التي تصوغ المسار المفترض للخطاب الديني كي يستطيع أن يخاطب وجدان الإنسان ويوجّهه نحو حياة تسودها ثقافة السلام وحرّية المعتقد والانفتاح والاعتراف بالآخر كشريك في الحياة.

1.   خطاب إنساني حواري:

إنّ تعزيز مبدأ الحوار مع الآخر في الخطاب الديني هو أمر في غاية الأهمّية في عصرنا الحالي، حيث العصبيات والطائفيات والتطرّف والانغلاق على الذات وإلغاء الآخر يسود جماعات كثيرة في مجتمعاتنا العربية. فالحوار الجادّ والملتزم يغيّر الكثير من المفاهيم المغلوطة عن الآخر ويبعث الأمل في النفوس نحو عيش في مجتمع تسوده المودّة والإخاء والعدل والمساواة والحرّية بين أبناء الوطن الواحد. إنّنا بحاجة اليوم أكثر ممّا مضى إلى خطاب ديني يعزّز الشراكة في الحياة وفي الأوطان، ويزيل أسباب الخوف والنفور من الآخر، لأنّ واقع التعدّدية الدينية والإثنية والثقافية في بلداننا العربية ليس حديث العهد ولكنّه وليد تاريخ طويل من العلاقات بين الأديان وشعوبها لا يمكن اختزاله في صفحة من صفحات خطابات المحرّمات والممنوعات. خطاب يؤمن بواقع الاختلاف بين الناس في المجالات السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية، وحقّ الآخر في اعتقاده. فالخالق لا يسمح باختزال الآخر، لأنّ الكلّ هم مخلوقات الله عزّ وجلّ. يقول سفر التكوين في الكتاب المقدّس: "إنّ الله خلق آدم على صورته، ذكراً وأنثى خلقهما". وتتحدّث الكتب السماوية كلّها عن علاقة الله بالمخلوقات، وخاصّة الإنسان الذي وضعه الله بمنزلة أسمى من باقي المخلوقات. والخالق لا يرضى عن النكران لكرامة الناس أو التمييز بينها على أساس الدين أو المذهب أو الانتماء. فالانتماء إلى الله الواحد والإنسانية المشتركة هما الرابط الأساس بين البشر. كما أنّنا نتطلّع إلى خطاب يعزّز حالة الحوار الحياتي والحضاري الذي يؤمّن مناخاً للتوافق حتى على المتناقضات، آمناً لإزالة الأحكام المسبقة عن الآخر، وتبيان القواسم المشتركة بين الأديان. فالخطاب الذي يشجّع على الحوار إنّما يؤكّد مبدأ الخروج من الذات لمعرفة الآخر وفق ما هو عليه، لا كما أريد أن أتصوّره.

 

2.   خطاب شمولي عالمي:

يحتاج الخطاب الديني في عصرنا إلى أن يتماشى مع متطلّبات الإنسان في العصر الحالي بدون التنازل أو المساس بجوهر الدين وأصوله. فيكون خطاباً منفتحاً على الأديان والثقافات العالمية، متواصلاً معها، لا يخشاها، ولا يصطدم معها، ولا يذوب فيها، بل يرتقي إلى نقدها بدون الوقوع في فخّ التحفيز على الكراهية، وممارسة العنف المعنوي والفكري اعتماداً على تفسيرات خاصّة للنصوص الكتابية. يحتاج الخطاب الديني إلى أن يسمو إلى منطق الحفاظ على الكرامات والحرّيات والعدل والمساواة. ويستطيع الخطاب الديني أن يعاصر الحدث دون أن يتأثّر بالمضمون ودون أن يخاف من الأفكار المستوردة. فالتكنولوجيا الحديثة هي ثورة عالمية لا يمكننا أن نتعامل معها بمنطق التجاهل، بل بمنطق الحكمة والدراية من أجل المنفعة العامّة. كما أنّه لا يجوز لنا أن نسخّرها من أجل إثارة العداوات وردود الأفعال السلبية. ومن ناحية أخرى، على الخطاب الديني أن لا يتجاهل قضايا الأوطان المصيرية من جهة الضغوطات الخارجية والتيّارات الغربية التي تؤثّر في وحدة الوطن ووحدة أبنائه، وتعيث فساداً في الأرض، وتسعى لطمس هويته الدينية والثقافية والفكرية. ولكنّه في الوقت ذاته يستطيع أن يخاطب الغرب بلغة يستطيع الغرب أن يفهمها، كما سبق وأشرت، ممّا يساهم في شرح الفكر الديني المشرقي العربي وتوضيحه، وتصحيح الصور النمطية عن الأديان وشعوبها في الشرق.

 

3.   خطاب استنهاضي متجدّد: 

تحتاج شعوب المنطقة العربية إلى خطاب ديني يحاكي مشكلاتها وتحدّياتها وواقعها وفكرها انطلاقاً من فكر ديني يجعل من العقل وسيلة لتحصيل الإيمان الصحيح، دون أن يتعارض مع التقدّم العلمي والتكنولوجي الحاصل في العالم. فالمجتمعات العربية بحاجة إلى نهضة فكرية علمية دينية اجتماعية وثقافية، تعيد لها أمجادها الماضية المجيدة في الإسهام الفعّال في بناء الحضارة العالمية. إنّ التحلّي بأدوات العلم والمعرفة وبالإيمان القويم هما السلاحان الأقوى لمواجهة التحدّيات المعاصرة. إذ يستطيع الخطاب الديني بتأثيراته المختلفة على الناس أن يكون وسيلة متجدّدة من وسائل التنمية البشرية بكلّ أشكالها. وأن يستنهض الواقع الشعبي العربي، فيعزّز من انتماء المواطن لوطنه ومجتمعه، وتماسكه ووحدته، ويبيّن له الإيجابيات المتوفّرة في حضارته العربية ليستخلص منها الدروس والعِبر في إصلاح الحاضر واستشراف المستقبل بناءً على أمجاد الماضي.

 

4.   خطاب إيماني:

أي خطاب يلتزم بالعقيدة الإلهية وبالتقليد وبالتراث الديني، وبتسليم الأمانة من جيل إلى جيل في تواصل منتظم. وتكون مرجعيته خالق الكون وتعاليم الأنبياء والكتب السماوية. وتتناقل هذا الإيمان الأجيال لتطبعه بطابَعِها الخاصّ وفهمِها، وبتعبير متجدّد منها لا يخالف الجوهر والأصل، ولا يردّد النصوص الإلهية بطريقة جامدة نمطية بدون فهم أو استيعاب. إنّنا نتطلّع إلى خطاب لا يكتفي بالشرح والتفسير للنصّ أو العقيدة، بل ينطلق من ذلك إلى المقصد الحياتي.

 

في الختام: إنّ أيّة أزمة يمرّ بها الخطاب الديني إنّما هي انعكاس لأزمة في تفسير الدين وعيشه. وبالتالي يجدر السؤال هنا: ما هو دور الدين في حياة الناس في مجتمعاتنا العربية؟ وماذا نريد من الدين في أن يضطلع بدور في تشكيل هوية الناس وسلوكياتهم وتوجّهاتهم في الحياة العامّة؟ هل نريد الدين فقط على شكل ممارسات طقسية وفروض، أم نريده حجر أساس في بناء الإنسان الحضاري الشامل؟

إنّ الإجابة عن هذه التساؤلات تحدّد لنا نمط الخطاب الديني الذي نريده ونتمنّاه من أجل بناء مجتمعات السلام والتآخي والعيش المشترك.     

                                                          رازق سريـاني

                                                  حلب - سورية