wwww.risalaty.net


عندما يكون الحمار مطرباً ..!!


بقلم : د. أحمد الفاضل

 

  ما قول السادة القراء في أن يكون الحمار مطرباً وموسيقياًّ ؟!.

  لعل بعضهم يستبعد ذلك وينكره، ويعده من العجب العُجاب ويقول: دون ذلك خَرْط القَتَاد، فالحمار حمار، وبينه وبين الطرب والغناء ما بين المغرب والمشرق من البعد، وما بين الثرى والثريا من الفرق..

  هذا رأيهم في الموهبة الغنائية الحمارية، وهم – لا ريب – معذورون في هذا الرأي الذي ارتأوه؛ فأحداقهم لم تقع على حمار علا خشبة المسرح، يغني بين جمهور من الناس، وقد أصغوا له وأنصتوا.. ثم إن آذان هذه الطائفة – أعني منكري الموهبة الحمارية – قد اعتادت الاستماع لنمط خاص من الغناء الذي يسمى ((الغناء الأصيل)).

  هذا الغناء الذي تميز بألحان دقيقة وطبقات خاصة، لها ضوابط وقواعد نُقلت عن المختصين في هذا الفن جيلاً بعد جيل.. فلا يمكن لهؤلاء أن يتصوروا حماراً مطرباً بحال من الأحوال.. وهم يقولون: إن استحال القارُ إلى حليب، وشبَّ ابن الخصيِّ، وشاب الغرابُ، نكاد نصدق بوجود مثل هذا الحمار.. وإلا فالحديث حديث خرافة.

  وهناك ثلة أخرى أَلِفَت آذانها الاستماع إلى المطربين والمطربات من المدرسة الغنائية الحديثة التي تختلف عن الغناء (الكلاسيكي) كل الاختلاف، وتناقضه كل التناقض..

  هذه الثلة لا تصغي إلى هذا الغناء القديم؛ لأنها تراه تراثاً مهترئاً، قد أكل عليه الدهر وشرب، وإذا ما اتفق ولا مسَ أسماعَهم شيءٌ من هذا الغناء، جعلوا أصابعهم في آذانهم حذرَ التأذِّي ..

  هؤلاء ليس عندهم من وجوه الغرابة وجه في أن يغدو الحمار مغنياً من أعظم المغنين، وموسيقياًّ من ألمع الموسيقيين، بل ربما نعتوا مّن ينكر ذلك بأنه فاسد الذوق، وثقيل الظل، ومريض الأذن، وقُرُونيُّ الفكر.. (نسبة إلى القرون الوسطى).

وللإنصاف أقول: ما ينبغي لعاذلٍ أن يعذلهم، ولا لمقرِّعٍ أن يقرعهم فيما جنحت إليه سفينة أفكارهم من رأي؛ إذ كيف يُلام مَنْ شُغف بأصوات لا تفترق كثيراً عن أصوات الحمير، بل ربما حاكتها في بعض الأحيان، فتلمّس العذر محمود مطلوب؛ ((فلعلَّ له عُذْراً وأنت تلوم)).

  وأنا أقول مدافعاً عن الحقيقة لا عن الحمار المظلوم: إن للحمار خصائص وفرائد تخوله ليكون مطرباً مبدعاً، يُشار إليه بالبنا ، يفوق كثيراً (ما) يُقال لهم اليوم: فنانون وفنانات..

  فمن فرائده: ذلك النهيق الذي إنْ شدا به، أبكمَ لجماله وروعته البلابل والعنادل التي تضحي أصواتها أمام صوتها أشبه بالنُعاق والنُعاب بل إن بعض النغمات التي يصدح بها، لتذكرنا بأصوات أولئك الذين نتحدث عنهم..!

  وأكثر ما يكون رخيماً و(مَخْملياً) إذا كان يغني في مَجْمع كبير من الأُتُن (أنثى الحمار) وقد اجتمعن حوله في زينتهنَّ الفاتنة، واشتركوا جميعاً في رقص صاخب، وضحك ماجن، وعض ونهش ونتشٍ ورفسٍ ولكمٍ ولطم ووكز وصفع، ونطحٍ وشدٍّ ونطٍّ وقفزٍ وفرٍ وكرٍ...!

  ومن خصائصه: تلك الأذنان الطويلتان الجميلتان اللتان تتحركان في كل جهة من الجهات الست، وتهتزان اهتزازاً متناسقاً على أنغام الموسيقا الراقصة، وهذا يكسب الحمار سمعاً قوياً وحساً مرهفاً وذوقاً فنياً متميزاً يمكنه من تقليد أصوات غيره من خُلَّانه وإخوانه..

  ومنها: كونه من ذوات الأربع؛ لأن ذلك يمنحه قدرة هائلة، فيضرب ضرباً شديداً على الأرض، وخاصةً عندما يغني الأغاني الغربيَّة (الرُّوك) التي تحتاج إلى هياج مسعور وضرب عنيف بالحوافر على الأرض..!

  وهو يقدر بقائمتيه الأماميتين أن يصفق ويصافح بهما المعجبين والمعجبات على التناوب.. وأما الخلفيتان، فللدفاع المشروع عن النفس إن أراد أحد أعداء الطرب الحماري إسكاته أو إيذاءه، فيتمكن بهما من رفس المعتدي وهزيمته هزيمة نكراء دون أن ينقطع عن غنائه وإقباله على جمهوره ومحبِّيه..

  ومن فوائد كون الحمار على أربع، أنه ربما سكر وهو يغني، فيستعين بها لئلا يترنّح ويسقط على الأرض مغشيَّاً عليه..

ولما كان الحمار كذلك – أعني من ذوات الأربع – كان مكِبَّاً على وجهه، وهذا الانكباب، جعله قريباً من عشاقه، فحظوا منه بالقُبلات..

  وأما ذيله الطويل، فيتخذه لستر ما يكره أن يُرى منه أمام الناظرين، فهو يستحي أن يتعرَّى، ويعد ذلك من أحابيل إبليس اللعين، وربما ساءه أن يُبصر ذلك السفور السَّافر من بعض أترابه في (الوسط الفني)...

  وأمَّا فمه فحدث ولا حرج عن ذلك الثغر الرائع الذي يفترُّ عن أسنانٍ لؤلؤية، ونواجذ فضية، وأنياب مِعْوَليَّة (نسبة إلى المعاول)، يتجلى جمالها وحسنها بعد قهقهة مدوِّية أو ابتسامة عريضة أخاَّذةٍ تُوقع في شَرَكها المغفلات من الأٌتن اللاتي يُخدعن بنظرة أو بسمة أو كلمة معسولة تُغرقهُنَّ في مستنقع الغواية والعمَاية .. 

خدعوها بقولهم : حسـنـاءُ         والغـواني يغـرهُنَّ الثنـاءُ

نـظرةُ فابتسـامةُ فسـلام           فـكلامُ فموعـدُ فلقــاءُ

ومن خصائص الحمار الجمالية : أنه (بعيد مهوى القُرط) أي طويل الرقبة. وهذه الخصيصة الجمالية التي تضفيها الرقبة السامقة، تزداد تألقاً وجمالاً إذا ازدانت الرقبة بعقد فريد نُظمت حباته من الألماس المتلألئ البراق..!!

  ولا أظن أن أحداً ينفي أنَّ ما يُقال له (المقاييس الجمالية) غدا الشرط الأول في المسابقات الغنائية؛ فهو المعيار الذي يقدَّم على الصوت والثقافة واللغة وسائر الشروط الأخرى..

  وبعد: فعوداً على ما بدأنا به من عنوان لم يتم، نتمّه فنقول: عندما يكون الحمار مطرباً، فالحياة الثقافية والفنية في أحسن حال، وهذا ما تقر له العين، وينشرح له الصدر، ويطمئن له الفؤاد...