wwww.risalaty.net


العذر المحل والمخفف في جرائم الشرف في الشريعة والقانون


بقلم : ماهر محمد الهندي

العذر المحل والمخفف في جرائم الشرف

في الشريعة والقانون

لا يزال الدفاع عن المقدسات وصيانة الحرمات ديدناً متواصلاً وشغلاً شاغلاً لعلماء هذه الأمة وفقهائها يخطبون ويحاضرون، يحققون ويكتبون لتبقى معالم الشريعة الغراء منارات هداية صالحة لكل زمان ومكان.

وهذه المقدسات هي كل ما يتصل بالدين أو الأرض أو النفس أو العرض أو المال فمن إساءة بالرسوم إلى امتهان للقرآن الكريم، ومن الاحتلال والعدوان إلى إثارة الفتن وسلب الأمن، مع ما يتصل بذلك من ثورة جنسية حارقة، إلى أزمة مالية خانقة ، وإلى شبهات في العقول وشهوات في الفروج، وتزوير في وقائع التاريخ، وتحريف في حقائق الدين، ونسخ للمبادئ، ومسخ للأخلاق. 

وصرت إذا أصابتني سهام      تكسرت النصال على النصال

        إلا أن كل هذه الحرمات تقف متواضعة خجلى أمام الهجوم على القضاء والقانون والمراودة المتكررة لتغيير أو تعديل القوانين والنظم في بلادنا العربية والإسلامية من خلال إملاءات خارجية وإيحاءات شيطانية، فبعد الجرأة الصريحة بالمطالبة لتغيير قانون الأحوال الشخصية الذي هو البقية الباقية من معالم الشريعة الإسلامية في البلاد العربية التي كانت قديماً تحُكَم بقانون متكامل من الشريعة الإسلامية عموماً ومن المذهب الحنفي خصوصاً، مع ما يرافق ذلك من صيحات تقول: إن الشريعة غير صالحة لهذا الزمان فهي تعيق التطور لأنها موروث قديم هرم لا يساير موكب الحضارة والعمران والعلم الحديث.

        وما إن وضعت هذه الغارة أوزارها حتى ظهرت صيحة جديدة تنادي بتغيير المادة 548 من قانون العقوبات السوري لعام 1949م المعدل بالمرسوم التشريعي /52/ لعام 1979م الصادر في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد رحمه الله. الذي يحلُّ أو يخفف من العقوبة لمرتكب جريمة القتل بدافع الغيرة والدفاع عن الشرف.


        وسأبدأ هذا البحث بقراءة نص المادة 548من قانون العقوبات:    

1-     يستفيد من العذر المحل من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر فأقدم على قتلهما أو إيذائهما أو على قتل أو إيذاء أحدهما بغير عمد.

2-     يستفيد مرتكب القتل أو الأذى من العذر المخفف إذا فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في حالة مريبة مع آخر.

ونستطيع أن نستخلص من هذه المادة المفردات التالية:

1-     لم يأمر القانون بالقتل أو الإيذاء للزناة بل  يمنح عذراً بظروف معينة وضوابط مشروطة وفق تحقيقات وقرائن وأدلة واضحة على سلامة المقصد.

2-             الاستفادة من هذا العذر مرهونة بقناعة القاضي العدل النزيه وتقصيه لضوابط هذه المادة.

3-     المادة تنص على قيد المفاجأة التي تتضمن التلبس والمباشرة دون التبييت والعزم وخصوصاً أن ذيل المادة يقول: (بغير عمد).

4-     كلمة (من) اسم موصول وضع للذكر والأنثى والواحد والجماعة وليس هذا العذر محصوراً بالرجل عموماً أو بالزوج خصوصاً بل إنه حق للرجل والمرأة على حد سواء حتى إنه يتناول الأصول و الفروع، وكلمة زوجه تصدق على كلٍ من الرجل والمرأة فكل منهما زوج للآخر.

5-     أن القتل قد يقع من الرجل على كل من الرجل والمرأة ومن المرأة على كل من المرأة والرجل فهي نص في المساواة بين الرجل والمرأة.

6-     العذر المحل منوط بجرم الزنا أو الصلات الفاحشة وأما العذر المخفف فبالحالة المريبة وهذا بقناعة القاضي العادل النـزيه لا بدعوى القاتل الجاني.

7-     العذر المحلل والمخفف ليس قاصراً على القتل للدفاع عن الشرف بل هو عذر ممنوح لعدد من الجنايات كالقتل للدفاع عن المال أو النفس أو ضد البغي و قطع الطريق كما في المادة 549 من قانون العقوبات.

8-     نصت المادة 242 من قانون العقوبات على أن يستفيد من العذر المخفف فاعل الجريمة الذي أقدم عليها بسورة غضب شديد ناتج عن عمل غير محق وعلى جانب من الخطورة أتاه المجني عليه.

9-     القانون يأمر بضبط النفس واللجوء إلى القضاء ويكفل لمن ادعى واثبت دعواه أن ينزل بالآخر العقوبات الرادعة، ولا يسمح بأن يحصل الإنسان على حقه بيده.

وبعد هذه القراءة في نص المادة نصغي إلى رأي المطالبين بتغيير المادة أو تعديلها وتحفظهم على هذه المادة ونجمل ذلك بالنقاط التالية:

1-            في هذه المادة مخالفة للشريعة الإسلامية من وجوه:

- أن فيها افتئاتاً على الحاكم بتنفيذ حد الزنا، مع أنه حق مفوض إلى القاضي إثباتاً وتنفيذاً، ولا يحق لأحد أن ينوب عن الحاكم إلا بإذنه.

- أن الفقه الإسلامي يفرق بين زنا البكر والثيب فحد الأول الجلد مئة وأما الثاني فحده الرجم وهذه المادة لا تفرق بين الوصفين في إيقاع عقوبة واحدة.

- أن الفقه الإسلامي شرع اللعان لدفع الحد عن القاذف إذا كان زوجاً لمعالجة مثل هذه الحالة، ولم يأذن رسول الله r بغير اللعان عند عدم الشهود الأربعة.

- أن الزنا لا يثبت إلا بإحدى وسيلتين الإقرار على النفس مع كامل الأهلية، أو بشهادة أربعة شهود عدول رجال عاينوا الفاحشة كالميل في المكحلة، وليس للقاضي نفسه لو أنه رأى الفاحشة في زوجه إلا أن يلجأ إلى قاض آخر ليثبت عنده الزنا بشهوده الأربعة أو يلاعن حتى يدرأ عن نفسه حد القذف، فكيف يعذر الزوج بالقتل والحالة هذه.

- أن الإنسان معصوم النفس والعرض فلا يباح الاعتداء على عرضه بالقذف والرادع له الحد ثمانون جلدة، فالردع عن قتل النفس بالقصاص وعدم تخفيف العقوبة أولى فضلاً عن الإعفاء منها.

- أن مبدأ سد الذرائع يقضي بأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح وفي هذا القانون مصلحة للقاتل بدفع القصاص عنه ولكن فيه مفاسد كثيرة من التذرع بالدفاع عن الشرف لاقتراف جرم القتل العمد لنيل ميراث أو تصفية أحقاد وضغائن.

2- أن في هذه المادة تعارضاً مع حقوق الإنسان لأن فيها تسليطاً على قتل النفس أو إيذاء البدن بدون حق مشروع.

3- أن هذا القانون مستمد من القانون اللبناني المستقى من القانون الفرنسي.

4- أن في هذه المادة انتقاصاً لحقوق المرأة بعدم مساواتها مع الرجل ؛ لأن نظمها جاء بضمير المذكر: (يستفيد، من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته، فأقدم على قتلهما).

5- أن في هذه المادة تمييزاً في الجرم الواحد بين الرجل والمرأة، فزنا الرجل معفوٌّ عنه بينما زنا المرأة معاقب عليه.

6- أن هذه المادة غير منضبطة في بعض صورها كما ورد فيها: (الصلات الجنسية الفاحشة، أو في حالة مريبة) فإن تقديها يختلف من شخص لآخر تبعاً للأعراف والعادات.

وبعد الاستماع إلى وجهة نظر هؤلاء المعترضين على هذه المادة يحسن بنا شرح وجهة نظرنا في الدفاع عنها من خلال الجواب على هذه الاعتراضات على ضوء من الفقه الإسلامي والقانون السوري.

لابد للتشريع أن ينسجم مع أمرين اثنين انطلاقه من الواقعية وارتقاؤه إلى المثالية، ومزجه بين درء الظلم وإقامة العدل.

وعندما وضع القانون السوري الحديث عقب الاستقلال 1949م تم بناؤه على القانون الفرنسي مع مراعاة الشريعة الإسلامية وخصوصاً في قانون الأحوال الشخصية.

فلذلك نجد تقاطعاً كبيراً بين الشريعة والقانون في كثير من مواد هذا القانون.

ومضى العمل بهذا القانون وتعديلاته إلى يومنا هذا إلا أن هذه المادة لم يطرأ عليها أي تعديل أو اعتراض من قبل العلماء والقضاة والمفتين منذ عام 1949م وإلى يومنا هذا إلا التعديل الذي كان عام 1953م في تعديل لفظة الجماع إلى الصلات الجنسية الفاحشة مما يزيد القانون شدة وقوة رغم التعديلات الكثيرة التي طرأت على القانون.

 فينبغي أن نتفق على أن الأصل في القانون الثبات والاستقرار ولا يجوز اللجوء إلى تغيير القانون أو تعديله إلا لمقتضٍ يسوغ هذا التبديل فهل ترتقي هذه الانتقادات لمادة 498 لاقتراح التعديل أو التبديل.

أما مخالفة هذا القانون للشريعة الإسلامية فالجواب عنه من وجوه:

1- الأحاديث والآثار الواردة في ذلك:

- روى مسلم في صحيحه (2771) باب براءة حرم النبي r من الريبة، عن أنس t: (أن رجلاً كان يُتهم بأمِّ ولدِ رسولِ الله r ، فقال رسول الله r لعلي: اذهب فاضرب عنقه ، فأتاه علي فإذا هو في ركي يتبرد فيها فقال له علي: اخرج، فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب ليس له ذكر فكف علي عنه).

وفي رواية عن علي t قال أكثر الناس على مارية أم إبراهيم في قبطي ابن عم لها يزورها ويخـتلف إليها فقال رسول الله r : (خذ هذا السيف فانطلق فإن وجدته عندها فاقتله) قال علي: قلت يا رسول الله أكون يا رسول الله في أمرك كالسكة المحماة لا يثنيني شيء حتى أمضي إلى ما أمرتني أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ، قال رسول الله r : (بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب) فأقبلت متوشحاً السيف فوجدته عندها فاخترطت السيف فلما رآني عرف أنني أريده فأتى نخلة فرقى فيها ثم رمى بنفسه على قفاه ثم شال برجله فإذا به أجب أمسح ما له من قليل ولا كثير فأتيت رسول الله r فأخبرته فقال: (الحمد لله الذي صرف عنا أهل البيت).

- أخرج البخاري في صحيحه (6454) و(6980) باب من رأى مع امرأته رجلاً فقتله: عن المغيرة قال : قال سعد بن عبادة: لو رأيت مع امرأتي رجلاً لضربته بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك النبي r فقال: ( أتعجبون من غيرة سعد والله لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن).

- أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" (27881) 5/449 عن الشعبي أن رجلاً علم أن رجلاً في بيت أخيه مع زوجته فصعد فأشرف عليه وهو معها على فراشها ينشد شعراً فوثب إليه فضربه بالسيف حتى قتله ثم ألقاه فأصبح قتيلاً بالمدينة، فقال عمر t : أنشد الله رجلاً كان عنده من هذا علم إلا قام به فقام الرجل فأخبره بالقصة فقال: سحقٌ وبعدٌ.

- وأخرج عبد الرزاق في "المصنف" (17921) 9/435 عن الثوري عن المغيرة بن النعمان عن هانئ بن حزام أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فقتلهما فكتب عمر بكتاب في العلانية أن أقيدوه وكتاباً في السر أن أعطوه الدية.

2- نصوص الكتب المعتمدة في المذاهب الفقهية:

- مذهب الحنفية: أن القتل من باب التعزير للأمر بالمعروف لا من باب الحد لذلك لم يقيد بشرط الإحصان وإن أمكن أخذهما بغير قتل كان أولى من القتل، وفرقوا بين الزوجة وغيرها إن كانت زوجة أو محرماً مع آخر قتلهما بغير زجر وإن كانت غير زوجة أو محرم زجرهما أولاً فإن لم ينزجرا فله قتلهما.

1- قال في فتاوى البزازية: 6/432: لو رأى في منزله رجلاً مع أهله أو جاره يفجر بها وخاف إن أخذه أن يقهره فهو في سعة من قتله، ولو كانت مطاوعة قتلهما.

2-  قال خاتمة المحققين العلامة ابن عابدين في "رد المحتار" 3/177-180[12/213] في (باب التعزير: ويكون التعزير بالقتل كمن وجد رجلاً مع امرأة لا تحل له وظاهره أن المراد الخلوة بها وإن لم ير منه فعلاً قبيحاً إن كان يعلم أنه ينزجر بصياح وضرب بما دون السلاح وإلا لا يكون بالقتل وإن كانت المرأة مطاوعة قتلهما).

وأطلق القتل دون قيد إذا وجده مع زوجه ومحرمه في حال الزنا وفصل في الأجنبية كما في "الدرر والغرر" 1/362.

قال ابن عابدين: الشرط المذكور إنما هو فيما إذا وجد رجلاً مع امرأة لا تحل له قبل أن يزني بها فهذا لا يحل قتله إذا علم أنه ينزجر بغير القتل، أما إذا وجده يزني فله قتله مطلقاً.

3- قال في فتاوى الخانية([1]): رجل رأى مع امرأته رجلا يزني بها أو يقبلها أو يضمها إلى نفسه وهي مطاوعة فقتله أو قتلهما لا ضمان عليه ولا يحرم من الميراث إن أثبته بالإقرار أو البينة.ولو رأى رجلاً مع امرأة في مفازة خالية أو رآه مع محارمه هكذا ولم ير منه الزنا ودواعيه قال بعض المشايخ حل قتلهما بلا شرط إحصان لأنه ليس من الحد بل من الأمر بالمعروف.

قال ابن عابدين: وحاصله أنه يحل ديانة ولا يحل قضاء فلا يصدق إلا ببينة.

 ونقل السندي أنه لا يحتاج إلى بينة هنا واليمين تقوم مقام البينة ولا يفعل إلا عند فوران الغضب وهذا أوسع.

- مذهب الشافعية: اشترط الشافعية لهدر الدم أن يكونا ثيبين ويجوز قتلهما ديانة لا قضاء.

1- قال الشافعي في "الأم" 6/29: ويسعه فيما بينه وبين الله قتل الرجل والمرأة إذا كانا ثيبين، وعلم أنه قد نال منها ما يوجب القتل ولا يصدق بقوله فيما يسقط عنه القود أيهما قتل إلا أن يشاء أولياؤه أخذ الدية أو العفو.

ولو ادعى على أولياء المقتول منهما أنهم علموه وقد نال منها ما يوجب عليه أو عليها القتل على أيهما ادعى ذلك عليه أن يحلف ما علم ، فإن حلف فله القود وإن لم يحلف حلف القاتل وبرئ من القود والعقل.

2- قال الشيرازي في "المهذب" 2/225: وإن وجد رجلاً يزني بامرأة ولم يمكنه المنع إلا بالقتل فقتله لم يجب عليه شيء فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه قتله بحق.

فإن ادعى أنه قتله لذلك وأنكر الولي ولم يكن له بينة لم يقبل قوله، فإذا حلف الولي حكم عليه بالقود.

3- واشترط الغزالي في"الوسيط"6/531 والنووي في"الروضة"10/186-190:التدريج في كيفية الدفع.

4-وجعله في "إعانة الطالبين" 4/171 من باب إزالة المنكر وقال: ومحل مراعاة الترتيب أيضاً في غير الفاحشة فلو رآه قد أولج في أجنبية فله أن يبدأه بالقتل وإن اندفع بدونه لأنه في كل لحظة مواقع لا تستدرك بالأناة .

وأما غيره فالمتجه أنه لا يجوز قتله إلا إن أدى الدفع بغيره إلى مضي زمن وهو متلبس بالفاحشة.

- مذهب الحنابلة: ويرى الحنابلة رأي الشافعية والحنفية لا يختلف عنهم كثيراً وقيل يكفي في البينة شاهدان وقيل أربعة شهود.

1- واستدل ابن قدامة في "المغني" 10/33 لذلك بما رواه سعيد بإسناده عن إبراهيم أن قوماً قالوا لعمر: يا أمير المؤمنين إن هذا قتل صاحبنا مع امرأته فقال عمر: ما يقول هؤلاء؟ قال: ضرب الأَخِرُ فخذ امرأته بالسيف فإن كان بينهما أحد فقد قتله. فقال له عمر: قالوا ضرب بسيفه فقطع فخذي المرأة فأصاب وسط الرجل فقطعه باثنين فقال عمر: إن عادوا فعد.

2- وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه المسألة في الفتاوى 34/168 فأجاب: الحمد لله إن كان قد وجدهما يفعلان الفاحشة وقتلهما فلا شيء عليه في الباطن في أظهر قولي العلماء وهو أظهر القولين في مذهب أحمد وإن كان يمكنه دفعه عن وطئها بالكلام.

ومن العلماء من قال: يسقط القود عنه إذا كان الزاني محصناً سواء كان القاتل هو زوج المرأة أو غيره كما يقوله طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد.

- مذهب الشيعة: لايختلف الحكم عندهم بل إن الأمر أشد فقد صرحوا بوجوب القتل ولو بالحيلة.

1- قال الطوسي في " الخلاف" 5/399: مسألة 24: إذا وجد رجل قتيلاً في دار رجل، فقال صاحب الدار: وجدته يزني بامرأتي فإن كان معه بينة لم يجب عليه القود، وإن لم يكن معه بينة فالقول قول ولي الدم، سواء كان الرجل معروفاً بذلك أم لم يكن معروفاً به بلا خلاف.

2- قال في" الدر المنضود" 1/491: والرخصة مقصورة على وجدان الزوج ذلك بالمشاهدة وأما البينة فسماعها من وظيفة الحاكم.

 

- أما قولهم أن في القتل افتئاتاً على الحاكم فإن القتل لم يكن لإقامة الحد حتى يكون افتئاتاً، بل هو للدفاع عن العرض حال المباشرة أسوة بدفع الصائل والسارق والباغي وقاطع الطريق وقد نص العلامة ابن عابدين في حاشيته3/180: وفي "المجتبى" (الأصل أن كل شخص رأى مسلماً يزني أن يحل له قتله، وإنما يمتنع خوفاً من أن لا يصدق أنه زنى) وعلى هذا القياس المكابر بالظلم، وقطاع الطريق، وصاحب المكس وجميع الظلمة بأدنى شيء له قيمة وجميع الكبائر والأعونة والسعاة يباح قتل الكل، ويثاب قاتلهم ا.هـ.

- وكذلك قولهم إن حد الثيب أشد من حد البكر فكيف يجملهما بعقوبة واحدة فإن القتل لهما لم يكن عقوبة ولا حداً حتى يلزم العدل بل من باب رد الاعتداء على العرض وتغيير المنكر باليد كما تقدم.

- وأما أن الفقه شرع اللعان في مثل هذه الحالة ولم يأذن بالقتل وطالب النبي r بأربعة شهود أو حد القذف في الظهر، فهذا ما ندب الشرع إليه ولم يأذن بالقتل ولكن ليس هذا مما نحن بصدده ، فإن المادة ليس فيها إذن بقتل الزناة ولكنها تمنح العذر المحل أو المخفف بدافع الغيرة، والأفضل للزوج أن يضبط نفسه ويلجأ إلى القضاء فهو خير له من القتل حال ثورة الغضب.

- وقد روى البخاري في صحيحه (4745) عن سهل بن سعد t أن عويمراً أتى عاصم بن عدي وكان سيد بني عجلان، فقال: أرأيت يا عاصم لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل، فسل لي عن ذلك يا عاصم رسول الله r فسأل عاصم رسول الله r فكره رسول الله r  المسائل وعابها حتى كبُر على عاصم ما سمع من رسول الله r  فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال يا عاصم ماذا قال لك رسول الله r  قال عاصم لعويمر لم تأتني بخير قد كره رسول الله r المسألة التي سألته عنها قال عويمر والله لا أنتهي حتى أسأله عنها فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله r وسط الناس فقال يا رسول الله أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل فقال رسول الله r  قد نزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها، قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله r فلما فرغا قال عويمر: كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله r قال بن شهاب: فكانت سنة المتلاعنين.

 وفي رواية لأبي داود وابن ماجه فقال النبي r : ( كفى بالسيف شاهداً) ثم قال: ( لا إني أخاف أن يتتابع في ذلك السكران والغيران).

- وروى البخاري أيضاً (4747) عن ابن عباس t: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي r  بشريك بن سحماء فقال النبي r : "البينة أو حد في ظهرك" فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة فجعل النبي r يقول "البينة وإلا حد في ظهرك" فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهرى من الحد فنزل جبريل وأنزل عليه: "والذين يرمون أزواجهم - فقرأ حتى بلغ - إن كان من الصادقين" فانصرف النبي r فأرسل إليهما فجاء هلال فشهد والنبي r يقول: "إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب" ثم قامت فشهدت فلما كان في الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة قال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت فقال النبي r " أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء" فجاءت به كذلك فقال النبي r "لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن"

- قال الإمام أحمد حدثنا يزيد أخبرنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت "والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا" قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار: "أهكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله r : "يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟" فقالوا يا رسول الله: لا تلمه فإنه رجل غيور والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرا وما طلق امرأة قط فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته فقال سعد: والله يا رسول الله إني لأعلم إنها لحق وإنها من الله ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لى أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء فوالله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته - قال فما لبثوا إلا يسيرا - حتي جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينيه وسمع بأذنيه فلم يهيجه حتى أصبح فغدا على رسول الله r فقال: يا رسول الله إني جئت على أهلي عشاء فوجدت عندها رجلا فرأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله r  ما جاء به واشتد عليه واجتمعت عليه الأنصار وقالوا: قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة الآن يضرب رسول الله r  هلال بن أمية ويبطل شهادته في الناس فقال هلال: والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجا. وقال هلال يا رسول الله فإني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به والله يعلم أني لصادق. فوالله إن رسول الله r  يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل الله على رسوله r  الوحي وكان إذا أنزل عليه الوحي عرفوا ذلك فى تربد وجهه يعني فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي فنزلت "والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله" الآية فسري عن رسول الله r  فقال: "أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا" فقال هلال: قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل فقال رسول الله r "أرسلوا إليها" فجاءت فتلاها رسول الله r عليهما فذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا فقال هلال: والله يا رسول الله لقد صدقت عليها فقالت: كذب فقال رسول الله r : "لاعنوا بينهما" فقيل لهلال: اشهد فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فلما كانت الخامسة قيل له: يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم قيل للمرأة: اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين وقيل لها عند الخامسة اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت: والله لا أفضح قومي فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله r  بينهما.

فهذه الحكمة النبوية في معالجة مثل هذه الحالة ولكن لم يرد أن رسول الله r أقام القصاص على من قتل زوجه في مثل هذه الحالة فليس في قضية اللعان دليل للمسألة المختلف فيها.

- أما إثبات الزنا بالشهود أو الإقرار فهذا من اختصاص القاضي في إقامة الحد وقدمنا أن مسألتنا هذه من باب التعزير بالقتل ودفع الصائل وليس من باب الحدود.

- وأما مبدأ سد الذرائع فإنه يقضي بأن يبقى القانون على ما هو عليه ليبقى رادعاً لكل ذي نفس مريضة تسول له أن يتعدى على العرض والشرف أو تتساهل في عرضها وشرفها وعندما نفوض الأمر إلى القاضي فإننا نتكلم عن القاضي النزيه العادل الغيور على الحرمات، وإن فساد القضاء في بعض الصور لا يبرر تبديل القانون بل تبديل القاضي الفاسد وإلا لكان من الممكن أن يتطرق التبديل إلى كثير من مواد القانون الوضعي والشرعي بداعي فساد القضاة.

- أما زعمهم أن في هذه المادة انتقاصاً لحقوق الإنسان فليس كذلك فإن للمعتدى عليه أن يدافع عن نفسه وعرضه وماله وولده بل إن الذي اعتدى على العرض والشرف هو الذي أهدر دمه وعرض نفسه للقتل كالذي يتجسس على قوم من ثقب الباب كما روى ابن حبان في "صحيحه" (6002) عن أبي هريرة t : عن النبي r قال: (من اطلع إلى دار قوم بغير إذنهم ففقؤوا عينه فلا دية ولا قصاص).

- ولا ضرر أن يكون هذا القانون متفقاً مع قانون وضعي آخر أو مستمداً منه وخصوصاً أنه موافق لأقوال الفقهاء عامة في الشريعة الإسلامية، وليست هذه المادة وحدها مستمدة من قانون وضعي آخر فليت هؤلاء إذ أخذتهم الغيرة على الشريعة أن يطالبوا بالحكم بها عامة في بلاد الإسلام وخصوصاً فيما يخالف الشريعة الإسلامية من القانون الوضعي بدلاً من الخوض في ما هو موافق للشريعة من القانون.

- أما أن هذه المادة فيها تمييزاً بين الرجل والمرأة وأنها لا تساوي بينهما فقلنا إن نص المادة لا يفرق بين رجل وامرأة بل يمنح العذر لكل منهما على حد سواء ولا مانع أن يضاف على هذه المادة شرح أو تفسير يؤكد على المساواة بين المرأة والرجل.

وقد نص العلامة ابن عابدين أن المرأة إذا اعتدى عليها رجل فلها قتله ودمه هدر للدفاع عن الشرف فهذا قتل المرأة للرجل.

وورود المادة بصيغة المذكر كما ورد في الاعتراضات فلأن الأصل هو خطاب المذكر وتدخل النساء في خطاب الرجال تبعاً كما في خطابات القرآن الكريم ومنها: يا أيها الذين آمنوا ، يا أيها الذين هادوا.

وإن قال قائل: إن الرجل الزاني قد اعتدى على عرض القاتل فما بال المرأة؟

الجواب: أن المرأة التي لا تصون نفسها عن الفاحشة فإنها أيضاً قد اعتدت على عرض زوجها.

- ولا نوافق العرف بالتفريق بين زنا الرجل وزنا المرأة فهما من وجهة نظر الشرع والقانون سواء حتى شملهما خطاب واحد في قوله تعالى: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان تواباً رحيما} [النساء: ].

وإنما قدمت الزانية على الزاني في مطلع سورة النور في قوله تعالى: { الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة} [ النور:2]. لأن الزنا غالباً ما يبدأ من المرأة ولكنه لا يتم أبداً إلا بمطاوعتها ورضاها فإن لم تكن مطاوعة فلا يحل قتلها بل لها أن تقتل المعتدي عليها دفاعاً عن شرفها، على أن تثبت ذلك عند القاضي بالبينة والدليل الواضح.

- وإذا كان في بعض فقرات المادة توسعاً وعدم انضباط فلا حرج بل ينبغي أن يضاف إلى المادة ما يجعلها أكثر انضباطاً ودقة وشفافية.

وختاماً فإننا نستخلص من هذه العجالة في هذا البحث:

- أن مادة القانون عادلة بل موافقة لنصوص الشريعة الإسلامية وأقوال الفقهاء ولا تتعارض معها أبداً.

- لا تعارض بين الشريعة والقانون وبين حقوق الإنسان أو المرأة فإن كلاً من الشريعة والقانون إنما كانت لصيانة الحقوق بالتوازي مع إعطاء كل ذي حق حقه، فلا يجوز المطالبة بحق فئة على حساب فئة أخرى فحق الإنسان محفوظ ولا يؤثر على صيانة حق الحيوان والجماد، كما أن حق المرأة محفوظ دون أن يعود بالنقض على حق الرجل أو الطفل، وهذا غاية العدالة في الشريعة الإسلامية.

- أن من واجبنا الدفاع عن القانون والشريعة بدلا من المطالبة بالتغيير كلما نعق ناعق.

- ونوصي إخواننا الذين يطالبون بالتغيير أن يفكروا بعقول أنفسهم لا بأهوائهم أو بعقول مستوردة لا يقرُّها دين ولا يردعها قانون، فالرجوع إلى الحق خير من التمادي بالباطل.

وأخيراً فإنني أشكر كل غيور على حرمة الدين والقانون وقف ليعارض هذه الجرأة الصريحة في طلب التغيير .

على أن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية إذا صحت النيات وسلمت المقاصد..

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل

 



([1]) كما نقله ابن عابدين في "رد المحتار" 3/178.