wwww.risalaty.net


المستشرقون.. والمستغربون.. والدعوة إلى العامية!!


بقلم : د. أحمد الفاضل

 

  العربية حبل بعد الدين الحق يعتصم به العرب والمسلمون في كل مكان وزمان، وهو حبل متين لا يمكن أن تنقطع عراه ما دام هذا القرآن العظيم يُتلى في المشارق والمغارب. هذه حقيقة صار يدركها كل عاقل مفكر، من أجل هذا أراد المستشرقون وأذنابهم القضاء على هذه اللغة وإحلال العاميَّة محلها لأن القضاء عليها يعني تمزيق هذه الأمة الواحدة وجعلها قبائل وشعوباً لا ترتبط فيما بينها بلحمة أو وشيجة. وفي هذا المقال تعرضت لأشهر من دعا إلى العامية من المستشرقين والمستغربين، ثم بيّنت أنَّ تلك الدعوة لم تلق نجاحاً ولن تلقاه بإذن الله تعالى.

 

  المستشرقون والدَّعوة إلى العاميَّة:

  أول من حث على التحول عن الكتابة باللغة العربية من المستشرقين المستشرق الألماني الدكتور ولهم سبيتا، الذي نزل مصر، وعاش في أحيائها، ودرس العاميّة، ووجد أنها تختلف من بلد إلى بلد، ومن حي إلى حي.

  وقد رأى هو ومَنْ يهدف إلى تحطيم حركة الإحياء من أهل الاستعمار الأوربيّ أَنَّ الأمر يوشك أن يخرج إلى مالا يحمدون عقباه، من سيادة اللغة العربيّة ونهضتها مرةً أخرى. ففي سنة (1880م) ألّف كتاباً سمّاه (قواعد اللغة العامية في مصر) وقد أورد في هذا الكتاب نبذة عن فتح العرب لمصر سنة 19هـ وانتشار ثقافتهم بين أهلها، وقضائها على اللغة القبطية، لغة البلاد الأصلية حسبما يرى، وقد كشف في مقدمة كتابه عن الغرض الخبيث الذي يرمي إليه فقال: ((وأخيراً سأجازف بالتصريح عن الأمل الذي راودني على الدوام طوال مدة جمع هذا الكتاب، وهو أمل يتعلق بمصر نفسها، ويمس أمراً هو بالنسبة لها وإلى شعبها يعرف إلى أيِّ حد كبير تتأثر كل نواحي النشاط فيها، بسبب الاختلاف الواسع بين لغة الحديث ولغة الكتابة)) [1].

  وقد أيد المستشرق الأماني سبيتا اللورد فرين في تقرير وضعه سنة (1882م) دعا فيه إلى هجر العربية الفصحى وإحلال العاميّة المصرية محلها، وقال في تقريره: ((إنَّ أمل التقدم ضعيف في مصر طالما أنَّ العامَّة تتكلم اللغة الفصيحة العربية – لغة القرآن – كما هي في الوقت الحاضر)) [2].

  بعد ذلك بنحو تسع سنوات (1890م) ألَّف المستشرق الألماني كارل فولرس كتاباً سماه (اللهجة العاميّة الحديثة في مصر) ثم تولى ترجمته في سنة (1895م) إلى الإنجليزية (بوركيت) وألح على ما ألح عليه سابقه سبيتا من صفة العربيّة الفصحى بالجمود والصعوبة وشبهها باللاتينية وشبه العامية بالإيطالية [3]. واقتصر هذا الكتاب - مثل سبيتا - على دراسة لهجة أهل القاهرة [4].

  ثم أتى بعده المهندس المبشر الإنجليزي وليم ولكوكس الذي كان مهندساً للري فألقى محاضرة ونشرها في مجلة الأزهر التي آلت إليه سنة (1893م) وزعم فيها أنَّ الذي أخَّر عامَّة المصريين عن الاختراع هو كتابتهم بالفصحى، ودعا إلى التأليف بالعاميّة وقال مخاطباً الناس في نادي الأزبكية: ((أيها المصريون، لن تزالوا قادرين على إيجاد قوة الاختراع لديكم.. فإنه يوجد فيكم أناس كثيرون توفرت فيهم الشروط ولكن بسبب عدم وجود لسان علمي مشهور فيما بينكم لم تحصلوا على شيء أضعتم وأعمالكم سدى؛ إذ السبب في ذلك أنَّ الكتب العلمية الدنيوية يؤلفها أربابها مثل الجبال وفي آخر الأمر لا يلد هذا الكلام الصعب إلا فأراً صغيراً وما نشأ ذلك [إلا] من كون اللسان العلمي غير مشهور فيما بين العامة... أقول لكم إذا جنحتم إلى هذه اللغة الدارجة القوية الشهيرة فيما بينكم وتركتم هذه اللغة الضعيفة تمنحون كثيراً)) [5].

  وقال أيضاً: ((وما أوقفني هذا الموقف إلاّ حبي لخدمة الإنسانية، ورغبتي في انتشار المعارف، وما أجده في نفسي من الميل إليكم الدال على ميلكم إليَّ)).

  وقد خطا بهذا الاقتراح خطوة عمليّة، فترجم أجزاءً من الإنجيل إلى ما سماه اللّغة المصريّة ونّوه سلامة موسى بعمل ولكوكس وأيده [6].

  بعد ولكوكس خرج أحد قضاة المحاكم الإنجليز وهو سلدن ولمور فألّف هو الآخر كتاباً سماه (العربية المحليّة في مصر) سنة/1901م/ دعا فيه إلى اتخاذ العاميّة لغة أدبية ويهدد أننا إذا لم نفعل ذلك (فإنَّ لغة الحديث العاميّة ولغة الأدب ستنقرضان وستحل محلهما لغة أجنبية نتيجة الاتصال بالأمم الأوربية)، ثم ختم كلامه بأنّ: ((خير الوسائل لتدعيم اللغة العاميّة هي أن تتخذ الصحف الخطوة الأولى في هذا السبيل، ولكنها ستكون في عون من أصحاب النفوذ..)).

  ثم ادَّعى أن عالماً أمريكياً في فقه اللغة يحب الخير للشعب المصريّ وافقه هو و ولكوكس على رأيهما في هذه القضية [7].

  وأخيراً ظهر سنة (1926م) كتاب (المقتضب في عربيّة مصر) لـ فيلوت و باول اللذين اتجها فيه وجهة علمية لتسهيل دراسة العاميّة المصريّة.. تلك التي ضاعت كرامتها على حد قولهما بتركها تنساب مفككة من دون ضوابط حتى أصبحت لا وجود لها كلغة مكتوبة ولم يفتهما أيضاً أن يرددا الشكوى من صعوبة اللغة العربيّة الفصحى وخاصة حروفها الخالية من حروف الحركة [8].

  هؤلاء هم أشهر المستشرقين الذين حملوا لواء الحرب على العربيَّة، ويمكن أن نقسم دعوتهم إلى ثلاثة أقسام:

  أولاً: الدعوة إلى لهجات مختلفة تكون لغات رسمية لكلِّ بلد عربي.

  ثانياً: الدعوة إلى كتابة العربيّة بالأحرف اللاتينية.

  ثالثاً: الدعوى بأنَّ الفصحى تقضي على قوة العرب الاختراعيّة [9].

 

  المستغربون والدعوة إلى العاميّة :

  ما أجمل أن نبدأ هنا بقول البيروني: ((والله لأن أهجى بالعربيّة، أحبُّ إليَّ من أن أمدح بالأعجمية)).

  ليت دعاة العاميّة من العرب المستغربين عندهم من الحماسة والحب للغتهم مثل البيروني لا أقول أن يتمنوا الهجو بالعربيّة ويقدموه على المدح بالأعجمية، ولكن أن يكون عندهم غيرة كغيرته وحب كحبه، ولكنهم يخطبون في حبل المستشرقين، ويخطبون وُدَّ الغرب الصليبي، أولئكم كثيرون في وطننا العربيّ، قد باعوا أنفسهم وعقولهم لهؤلاء الأعداء فأجسامهم بيننا تنهل من خيرات هذه البلاد، وقلوبهم وعقولهم عند أسيادهم تخفق بحبهم، وتفكر: كيف تخدمهم.

  من هؤلاء عيسى اسكندر المعلوف الذي كتب مقالات عدّة عن اللهجة العاميّة في مجلة مجمع اللغة العربية في القاهرة!! وقد زعم أنَّ من الممكن اتخاذ أيّ لهجة عاميّة كالمصرية والشامية، كما زعم أن تعلق المسلمين باللغة العربية لا مسوغ له. يقول: ((وما أحرى أهل بلادنا أن ينشطوا من عقالهم طالبين التحرر من رق لغةٍ صعبة المراس قد استنزفت أوقاتهم.. ولي أمل أن أرى الجرائد العربية، قد غيرت لغتها..)) [10].

  والذي يأخذ بالألباب، ويحار فيه الإنسان هو أن يكون عدو العربية عضواً في مجمع اللغة العربية الذي إنما وُجد ليكون حصن العربية، ثم يكتب في مجلة المجمع طعناً وذماً وتهكماً في العربية..!! وما هذا الشيء العجيب إلا كمن يحصن بلاده وأرضه ليرد كيد العدو وغدره، ثم هو يدخله من الباب قائلاً له أهلاً وسهلاً ومرحباً..!!

  ومنهم عبد العزيز فهمي باشا الذي دعا بقوة إلى كتابة العربية بالحروف اللاتينية، وشُغل المجمع ببحث اقتراحه، جلسات عدة، امتدت خلال ثلاث سنوات، ونشرت في الصحف، ثم ألف كتاباً سماه (الحروف اللاتينية لكتابة العربية).

  يعلق الدكتور محمد محمد حسين على دعوة هذين الرجلين قائلاً: ((أليس يرضى الاستعمار عن مثل اقتراح المعلوف وفهمي؟ أليس يرضى عنه العضو الإنجليزي (جب) الذي يقرر في كتابه: (إلى أين يتجه الإسلام؟) عند كلامه عن الوحدة الإسلامية أنَّ من أهم مظاهرها الحروف العربية التي تستعمل في سائر العالم الإسلامي، أليس يرضى عنه الاستعمار الفرنسي الذي حارب العربية الفصحى في شمال إفريقيا أعنف الحرب، وضيَّق عليها أشد التضييق؟)) [11].

  ومن الداعين إلى العامية أيضاً سلامة موسى الذي دعا إلى العامية في كتبه ومقالاته وقد أيَّد سلامة موسى المستشرق ولكوكس في كتابه (اليوم والغد): ((والهم الكبير الذي يشغل بال السير ولكوكس بل يقلقه، هو هذه اللغة التي نكتبها ولا نتكلمها فهو يرغب في أن نهجرها ونعود إلى لغتنا العامية، فنؤلف فيها وندون بها آدابنا وعلومنا)) [12].

  وهناك رجل خطير في أفكاره وآرائه هو أحمد لطفي السيد الذي كان رئيساً لمجمع اللغة العربية في القاهرة، قد دعا إلى شيء عجيب سمَّاه (عقد الصلح بين العامية والفصحى) فالرجل حز في نفسه أن يرى قتالاً ضارياً تزهق فيه الأرواح؛ لذلك تبرع ونصَّب نفسه حكماً وقاضياً شرعياًّ بين العامية والفصحى، وبعد محادثات دخل فيها الوسطاء من سادة التبشير والاستعمار، عقد هذا الصلح، وانتهت هذه الحرب (وكفى الله المؤمنين القتال)!! [13].

  وللجامعة الأمريكية في بيروت نصيبٌ في الدعوة إلى العامية فقد نهض أحد أساتذتها يدعو إلى محاربة الفصحى وهو الدكتور أنيس فريحة الذي ألف في ذلك كتابين هما (محاضرات في اللهجات وأسلوب دراستها) و(نحو عربية ميسرة) ((ومع أنَّ خلاصة الكتاب الأول موجودة في الكتاب الثاني فإنَّ الدكتور فريحة ينضح في كتابه الثاني بالحقد على العربية الفصحى وبالبغض لأهلها، وبالتهكم على تراثها، والهزء برجالها)) [14].

  وأخيراً نأتي إلى عميد الأدب الاستشراقي في مصر، أعني الدكتور طه حسين الذي تقدَّم باقتراح إلى مجمع اللغة العربية بالقاهرة - وكان رئيساً له! – يطلب فيه إضافة أحرف لاتينية على الأبجدية العربية، وقد تصدى له الدكتور عمر فروخ وعباس محمود العقاد رحمهما الله تعالى، وأخفقت محاولته الخطيرة. يقول الدكتور عمر فروخ: ((... وهكذا نجت اللغة العربية من اقتراح ما كان أحد – إلا الله تعالى – يعلم إلى أين تنتهي آثاره لو أنَّ مجمع اللغة العربية في القاهرة أخذ باقتراح طه حسين)) [15].

 

  هل حقق المستشرقون وأتباعهم أهدافهم ؟ 

  لا ريب بأنَّ الجواب هو (لا).. لأسباب:

  1- وهو أهمها أن الله تعالى حفظ اللغة العربية، وذلك عندما قال: ((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)) [الحجر:9 ] ((بلسان عربي مبين)) [الشعراء:195].. وما دام هذا القرآن العظيم يُتلى في المشارق والمغارب، فإن العربية باقية نامية.

  وقد أدرك الأمر وليم جيفورد بلجراف في كلمته المشهورة: ((متى توارى القرآن، ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذٍ أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة المسيحية التي لم يبعده عنها إلا محمدٌ وكتابه)).

  وكم حاول الاستعمار الفرنسي الصليبي في الجزائر القضاء على اللغة العربية، ليجعل محلها لغتها الخرقاء، ولكن الشعب الجزائري وقف في وجه هذه المؤامرة الصليبية وأفسد خطة المستعمر، وذلك بحفظه لكتاب الله الكريم الذي بقي مجلجلاً مدوياً، تصدح به أفواه الجزائريين، وهكذا خابت آمال الأعداء وانتصرت العربية في النهاية.

  2- اللغة العربية لغة حضارة وعلم، وهي قادرة بما فيها من خصائص وميزات واشتقاق أن تسير مع العلم الحديث دون تخلف أو جمود، وإن كان من أحد عنده شك في ذلك فدونه جامعة دمشق التي تدرس العلوم كلها باللغة العربية منذ أربعين سنة تقريباً، وطلابها من أطباء ومهندسين وغيرهم متفوقون على أقرانهم في الدول العربية بتعريب التعليم الجامعي ونسأل الله تعالى أن يخرج بقية الدول من قيد التبعية، وأن تخطو مسرعةً إلى التعريب.

  3- الهجمة على اللغة العربية أدت إلى رد فعل مقاوم لذلك، فقد أنشئت مجامع اللغة العربية في كل من سورية ومصر والعراق والأردن، وقام أعضاء هذه المجامع بوضع المصطلحات العلمية والطبية لكل وافد وجديد.

  4- أدرك المسلمون أن اللغة العربية هي الحبل الثاني الذي يعتصمون به بعد الإسلام، وشيوعُ العامية يعني تمزيق وحدتهم، وحينها لن يفهم العراقي لهجة الجزائري ولا السوري لهجة المصري.. والعرب مهما اختلفوا في سياساتهم، فإنَّ العربية تبقى رابطة بينهم، والدليل على هذا أنَّ الأمة الإسلامية في عهد المتنبي تفرقت أيادي سبأ كما يُقال في المثل، فكان المتنبي الشاعر يطوف على الإمارات المتفرقة، فيمدح هذا، ويذم ذاك دون أن يجد صعوبة في التفاهم معهم، وهم متفرقون مختلفون..

  وأحسن الشاعر حليم دموس حين قال في وصف العربية:

لغةٌ إذا وقعت على أسماعنـا               كانت لنا برداً على الأكباد

ستظل رابطـة تؤلف بيننـا                فهي الرجاء لناطقٍ بالضـاد

  5- إنَّ القول بأنَّ العربية الفصحى تعيق التقدم الحضاري والعلمي – كما يزعم الخرَّاصون – باطل. وحجتنا في ذلك أن بعض اللغات الميتة والبدائية كاليابانية والصينية والعبرية تدرس بها العلوم الطبية والفيزيائية.. ويفتخر أهلها بها، ويحافظون عليها محافظتهم على أنفسهم، ولم يؤدِّ ذلك إلى تأخر هؤلاء عن ركب الحضارة وأسبابها.

 

ـــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) أباطيل وأسمار، محمود شاكر، ص 161،162، الخانجي بالقاهرة. وأجنحة المكر الثلاثة، عبد الرحمن الميداني، ص 301 ، دار القلم بدمشق.

(2) أباطيل وأسمار، ص 164.

(3) أجنحة المكر الثلاثة، ص 301, وأباطيل وأسمار ص 165.

(4) فلسفة الاستشراق، أحمد سمايلوفتش، ص 670، دار المعارف بمصر.

(5) المصدر السابق نفسه، ص 672-673.

(6) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، د. محمد حسين، ج2 ، ص 360 -361، مؤسسة الرسالة ببيروت.

(7) أباطيل وأسمار،  ص 167-168.

(8) فلسفة الاستشراق، ص 670 نقلاً عن الدكتورة نفوسة زكريا سعيد في كتابها (الدعوة إلى العامية وأثرها في مصر).

(9) فلسفة الاستشراق ص 668.

(10) الاتجاهات الوطنية، ج2، ص 363.

(11) المصدر السابق، ص 364.

(12) أباطيل وأسمار، ص 147.

(13) المجلة العربية (الرياض) عدد (137) مقال للكاتب.

(14) التبشير والاستعمار، عمر فروخ وزميله، ص 227، طبعة بيروت.

(15) غبار السنين، عمر فروخ، ص 149، دار الأندلس ببيروت.