wwww.risalaty.net


خطر التطرف على الإسلام والعالم


بقلم : الشيخ الدكتور عبد الفتاح البزم

 

بحث لمؤتمر رسالة السلام في الإسلام

الذي تقيمه وزارة الأوقاف

بالتعاون مع السفارة البريطانية في دمشق

 

بقلم

الدكتور عبد الفتاح البزم

مفتي دمشق ـ مدير معهد الفتح الإسلامي

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:

إن كلمة التطرف لفظ شامل يدخل تحته كل خارج عن المنهج الوسط المبني على العدل والإنصاف وإحقاق الحق، فلا شك أن خطره على العالم بأسره جسيم ومخيف، وإذا أردنا من كلمة الإسلام في المحور المشار إليه المسلمين، فالمسلمون جزء من العالم الذي ننتمي إليه جميعاً، ولا شك أن هذا الخطر يعود علينا جميعاً بنتائج وخيمة، كان ينبغي أن يتعاون العالـمُ بجميع انتماءاته على التخلص منها، لأنها شر مستطير ؛ لينعم هذا العالم بنعمة الأَمْنِ والأَمَانِ، والحياةِ الهادئة التي توفر لجميع شعوب الأرض حقوقها وكرامتها، في ظل العدل المنشود الذي تسعى إليه أفراد الإنسانية جمعاء.

وما أدري لـمَ ألصق الإعلام العالمي في هذه الحقبة من الزمن اصطلاح التطرف أو الإرهاب أو التشدد أو الأصولية بالإسلام والمسلمين الذين هم في جوهر شرعتهم أَبْعَدُ الخلقِ عن تلك الصفات المكروهة المذمومة، بل وبكل أسف نجد أن المرحلة التي يمرُّ بها العالـمُ اليومَ تشهد إلصاقَ تلك الشبهة الخطيرة بالإسلام والمسلمين، وتصف هذا الدِّين القويم وأتباعَه بالتَّعصُّب والعُنْفِ والشِّدَّة والإرهاب، والإسلام بَراءٌ مِن هذه الاتِّهاماتِ الخطيرة؛ فهو دينُ الرَّحمة والعَدالَة والمحبَّة والتَّسامُح، يتفاضلُ الخَلْقُ فيه بالتَّقوى والعمل الصَّالح، فلا فضلَ لعربيٍّ على أعجميٍّ، ولا لأعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأسودَ على أحمرَ، ولا لأحمرَ على أسودَ إلاَّ بالتَّقوى: قال تعالى: «يا أيُّها النَّاسُ إنَّا خَلَقناكُم مِن ذكرٍ وأُنثى وجَعَلناكُم شُعُوباً وقبائلَ لِتَعارَفوا إنَّ أكرمَكُم عندَ الله أتقاكُم إنَّ اللهَ عليمٌ خبير» [الحُجُرات/13]. وكما نلاحظ أن الخطاب في الآية الكريمة كان بلفظ (يا أيها الناس) أي: هو خطاب للبشرية جمعاء، فالشعوب والقبائل خُلقوا ليتعارفوا، لا ليتقاتلوا ويتناكروا ويتناحروا ، وأكرمُهم عند الله أتقاهم وأَصْلَحُهم لنفسه والإنسانية جمعاء.

وإنَّ أبرزَ ما يُميِّزُ هذه الشَّريعةَ الغراء هو (السَّماحةُ)، روى البُخاريُّ عن ابن عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ عن رسول الله r قال: «أَحبُّ الدِّينِ إلى الله الحَنيفيَّةُ السَّمْحةُ» أي: التي ليس فيها ضِيْقٌ ولا شِدّةٌ؛ إذ السَّماحَةُ وَسَطٌ بين الشِّدَّة والتَّساهُل ، وأوسط كل شيء أعدله.

ويَرجِعُ أصلُ مفهوم السَّماحة إلى التَّيسير والاعتدال، وهما من أهم أوصاف الإسلام، قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «إنَّ الدِّيْنَ يُسْرٌ، ولن يُشادَّ الدِّيْنَ أحدٌ إلاَّ غلَبَهُ». وصَحَّ عنه r أنَّه"ما خُيِّرَ بين أمرَينِ إلاَّ اختارَ أيسَرَهُما ما لم يكن إِثْماً".

وقد حافظ الإسلامُ على وصف السَّماحة لأحكامِهِ التشريعية، وأقامها على التَّيسير ورَفْعِ الحَرَج ودَفْعِ الضَّرَر، مُنْتهِجاً فيها أُصولَ التدرُّج في التَّشريع، مُراعاةً للطَّبيعة البشريَّة، مُشرِّعاً مِن التَّكاليف ما تَحتمِلُهُ طاقةُ المُكلَّف، قال تعالى: «لا يُكلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَها لها ما كَسَبَتْ وعليها مَا اكتَسَبَتْ» [البقرة/286].

وإنَّ المُتأمِّلَ في الدّلالاتِ والمعاني المُستَنبَطَةِ من لفظ ( السَّماحة ) يجدُها تتَّسِعُ لِتَشمَلَ كُلَّ مجالاتِ الحياةِ الرُّوحيَّةِ والماديَّةِ، كما أنَّ المُستَقرِئَ للنُّصوص القُرْآنيَّة والنَّبويَّة الشَّريفةِ، تجذبهه رُوحُ السَّماحةِ والتَّيسيرِ، ويستوقفه منهج الوسطيَّة والاعتدال، الذي يطبعُ مُجملَ التشريعاتِ الإسلامية.

فالغرابة كل الغرابة بعد هذا البيان الواضح لحقيقة الإسلام كشرعة إلهية يظل أولئك الذين يلصقون تلك التهم الباطلة بالمسلمين مُصِرِّين على مواقفهم العدوانية ضاربين عرض الحائط تلك القيم المثلى التي بني عليها الإسلام من خلال سماحة الخطاب الإسلامي، والصورِ والنماذجِ الكثيرة من الأخلاق النبوية التي ربى رسول الله r عليها أفراد المسلمين عامة بدءاً من الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم.

 

سماحة الخطاب الإسلامي:

وإنَّ مِن أبرزِ مُقوِّماتِ السَّماحةِ في الإسلام: سماحةُ الخِطابِ الدِّيْنيِّ، القائمِ على التَّحبُّبِ والتَّبشيرِ بالخير، وعلى التدرُّجِ في التَّشريعِ ومُسايَرَةِ الفِطْرة، وعلى العَفْوِ والمُجاوزةِ والمَرْحَمة. قال تعالى: «وبَشِّرِ المُؤمنينَ بأنَّ لَهُم مِن الله فَضْلاً كبيراً» [الأحزاب/47]، وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لمُعاذِ بنِ جَبَلٍ وأبي موسى الأشعريِّ رضي اللهُ عنهما لَمَّا أرسلَهُما إلى اليمن: «يَسِّرا ولا تُعسِّرا، وبَشِّرا ولا تُنفِّرا». فالتَّبشيرُ والتَّحبُّبُ هُما رُوْحُ دعوةِ الإسلام، تألُّفاً لنُفُوس مُعتنقيه، وترويضاً لعُقُولِهم، واستئناساً لأرواحِهِم.

ولا تقتصرُ سماحةُ الإسلام على الخِطابِ القوليِّ دون العمليِّ، فالعِبادةُ في الإسلام تمتازُ باليُسْرِ والسُّهولةِ، وسُرعانَ ما يحصُلُ بها للمُتعبِّد الطُّمأنينةُ والسّكينةُ، قال تعالى: «الَّذينَ آمَنُوا وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ الله أَلاَ بذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ» [الرَّعد/28].

أمَّا ذِرْوةُ السَّماحةِ في الإسلام فإنَّها تتألَّقُ في تأسيسِهِ منظومةً أخلاقيّةً مُتميِّزةً، تأخذُ بمَجامِعِ النَّفس، وتُغذِّيها بمبادئَ وقِيَمٍ خالدةٍ، تُنيرُ دَرْبَها وتهديها إلى سُبُلِ السَّعادة في الدَّارَين، وأوّلُ مَن تأدَّبَ بهذه القِيَمِ السَّاميةِ رسولُ الله r؛ إذ تجلَّتْ في أقواله وأفعالِهِ، في حِلِّه وتَرْحالِهِ، ولازَمَتهُ في سِلْمِهِ وحَرْبِهِ، لذلك امتدَحَهُ ربُّ العِزَّة قائلاً: «وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عظيمٍ». وقد لخَّصَ الرَّسولُ الكريمُ r دعوتَهُ وبِعثتَهُ بقوله: «إنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأخلاق».

 

صور ونماذج من السماحة النبوية:

لم تكن هذه الأخلاقُ العظيمةُ في الإسلام شِعاراً فَضْفاضاً، ولا قِيَماً خاليةً مِن مَضامِينها الإنسانيَّةِ، بل كانت حركةً نابضةً بالحياة، جَسَّدَها الرَّسولُ الكريمُ r في قُدوَتِهِ لنا بصورةٍ مُضيئةٍ، فقد آذته قريشٌ في معركة أُحُد، وجمعت جهدَها لقتْلِهِ ووَأْدِ دعوتِهِ، وخرج من المعركة جريحاً وقد كُسِرت رَباعيَّتُهُ وشُجَّ وجهُهُ الكريمُ، فقيل له: يا رسولَ الله ادْعُ على المُشركين، فقال: «إنِّي لم أُبْعَثْ لَعّاناً وإنَّما بُعِثْتُ رحمةً».

وإن رحمته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وسماحَتَه القلبيَّة هي التي تغلِبُ في المواقف العصيبةِ، التي تبلغُ فيها المُعاناةُ أشدَّ مراحلِها، وهذا ما بَرزَ واضحاً قي قوله r لما عرض عليه مَلَك الجبال قائلاً: إنْ شِئتَ أنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأَخشَبَيْنِ. فقال: "بل أرجو أن يُخرِجَ اللهُ مِن أصلابِهِم مَن يعبُدُ اللهَ وحدَهُ لا يُشرِكُ به شيئاً".

هكذا نظر رسول الله إلى قومه بنور الإسلام، ورفض منهج الاستئصال والإبادة لأعدائه، وأراد أن يتخذ من أصلاب الكافرين مصانع بشريةً،تخرج أجيالاً من المسلمين الموحدين. وها هو ذا حين دخل مكّةَ فاتحاً بعد سنواتِ الحربِ والحِصارِ، والبُعْدِ عن الأهل والدِّيار، استسلمتْ له قُريشٌ مُذْعِنةً تنتظرُ التَّنكيلَ والعذابَ، فيسألُهم عليه الصلاة والسلام : «ماذا تظُنُّونَ أنِّي فاعلٌ بكُم؟» قالوا: خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ، فقال: «اليومَ أقولُ لكم كما قال أخي يُوسُفُ مِن قَبلُ: لا تثريبَ عليكمُ اليوم، يَغفِرُ اللهُ لكم وهو أرحمُ الرَّاحمين.. اذهبوا فأنتمُ الطُّلَقاءُ».

وهكذا تتبدى لنا ثقافةُ (السَّماحةِ) في الإسلام بشكل جلي وواضح، تقوم على الرَّحمة، وتُنادي بالمحبَّة، وتحكمُ بالعَدالة.

إن ما تشهده الأمة من لقاءات ومؤتمرات لتقوية مواقفها، وجمع كلمتها، وتصحيح صورتها المشوهة، لهو ميدانٌ واسعٌ، ومَرْتَعٌ خصبٌ، لإحياء مفهومِ السَّماحةِ الشَّاملِ، في عِباداتِنا ومُعاملاتِنا وأخلاقِنا، مُتأسِّينَ بقُدوَتِنا ومَثَلِنا الأعلى سيِّدِنا مُحمَّدٍ r.

ومع هذه المثل والأخلاق والمبادئ، يواجهنا اليوم واقع مؤلم ومؤسف ،ينتهك حرمة بني البشر تحت شعارات تُكَذِّب نَفْسَها من خلال واقعها في سفك الدماء، وغصبِ الحقوق، والتنكيلِ بالأفراد والشعوب على حد سواء.

 

الواقع والعنف:

لسنا مغالين إذا قلنا إن واقع العالم اليوم يشهد انتهاكاً لحرمة الإنسان واعتداءً فظيعاً عليه، من قبل دول الاستكبار العالمي، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، التي تنشر الذعر والإرهاب في بلاد العالم شرقه وغربه، من أفغانستان إلى السودان إلى فلسطين والعراق ولبنان، وأخيراً في سوريا دولة الأمن والسلام والاستقرار، ولقد انتشرت جريمة سفك الدماء بصورة بشعة، وأصبحت حرمة الدماء نادرةً وعزيزةً.

وإن أمريكا هي التي بدأت العداء للعرب والمسلمين، ، وما أكثر ما استرخصته فينا، دماءً وأموالاً وأعراضاً وخيراتٍ وثروات. وكم نحتاج من الوقت لعد ضحايا (عدالة) الإرهاب الأمريكي على أرضنا؛ وقد قتلت عدداً هائلاً لا يحصيهم إلا الله تعالى، واغتصبتْ واستباحتْ ونهبتْ وأتلفتْ وأبادتْ، وساومتْ واسترخصتْ وباعتْ واشترتْ.

وكم نحتاج من الوقت لتنظيف الرُّكام الذي خلفته على أرض العرب والمسلمين من خراب ودمار وأشلاء، ونفايات السلاح القذر التي لوثت به أجواءنا وترابنا وهواءنا، وسمَّمت طعامنا وشرابنا وأجسامنا.

إن حروب أمريكا التي خاضتها تحت شعار مكافحة الإرهاب خلال سنوات طويلة، ومازالت مستمرةً حتى الآن، خيرُ دليلٍ وبرهان على لعبة الإرهاب الأمريكية التي مارستها بجنون وسادية، في سباق محموم مع الزمن، دون رحمة أو هوادة، وبمباركة دولية وتصفيق ممن استهوتهم تلك اللعبةُ القذرة.

الولايات المتحدة لا تستطيع أن تكسب العالم بأسلحتها المتطورة وبطائراتها، بل تستطيع أن تكسب العالم - وخاصة العالم الإسلامي والعربي - بالمودة والمحبة والعدل وروح التعاون، وإذا مدت يد الخير للشعوب العربية والإسلامية يمكن أن تكسبهم وهي محافظة على سيادتها وكونها سقف العالم.

والسؤال الملحُّ الذي يفرض نفسَه: أين المنظمات الدولية، وأين مجلس الأمن، وأين محكمة العدل الدولية، وأين الأمم المتحدة من هذه العربدة الأميركية؟ إنها سكتت أمام هذا العدوان السافر على شعوب الأرض التي قُتل وشُرد ونُكب كثيرٌ من أبنائها، وما تزال صامَّةً آذانُها عن سماع نداءات الاستغاثة من أفواه أولئك المنكوبين.

 

الدعم الأمريكي للفكر التكفيري:

وإن من أخطر ما يواجهه العالم في هذه الأيام هو خطر انتشار الفكر المتطرف والمتشدد المستند إلى فتاوى مضللة و أفكار مزيفة، بعيدة كل البعد عن جوهر الإسلام السمح، وقد حمل أصحاب هذا الفكر المستورد ثقافة العنف والتشدد والغلو، الذي تبرَّأ منه الإسلام على لسان الرسول r بقوله: "إنَّ الدِّيْنَ يُسْرٌ، ولن يُشادَّ الدِّيْنَ أحدٌ إلاَّ غلَبَهُ".

لقد استباح هؤلاء المتطرفون دماء المسلمين و أموالهم و أعراضهم،متأثرين بأصحاب التيارات المتشددة المصنوعة بأيدٍ آثمة، متناسين النصوص الشرعية التي ترفض أعمالهم الإجرامية.

يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَـٰهُمْ في ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَـٰهُمْ مّنَ ٱلطَّيّبَـٰتِ وَفَضَّلْنَـٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء:70].

ويقول الله أيضاً: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ (93) سورة النساء

وجاء في الحديث الصحيح الذي رواه النسائي من حديث بُريدة أن النبي r قال:

" قَتْلُ المؤمن أعظمُ عند الله من زوال الدنيا ".

ويقول سيدنا رسول الله r في خطبة حجة الوداع: " أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا . ألا هل بلغت اللهم فاشهد "

إن الله تعالى كَرَّمَ الإنسان تكريماً عظيماً، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأنزل له الكتب، وأرسل له الرسل، ووضع له شريعة محكمة تضمن له الحقوق والسعادة في الدنيا والآخرة، وإن أول وأكبر وأعظم حق ضمنته الشريعة الإسلامية للإنسان في الأرض هو حق الحياة، و الله وحده هو خالق الحياة وهو واهب الحياة، ولا ينبغي لأحد أن يسلب هذه الحياة إلا واهبُها وخالقُها، وبأمر الله - جل وعلا- في نطاق الحدود التي شرعها. ومن هنا ندرك: أن سفك الدماء جريمة بشعة، عاقب عليها ربنا بالخلود في نار جهنم، مع غضبه على مرتكبها، وطرده من رحمته.

 

الإسلام وعصمة الدماء:

بعث الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً r بالدين الخاتم، الذي يخرج الناس من عبادة الخلق، إلى عبادة الخالق، ومن جور الأحكام، إلى عدل الإسلام، فإذا دخل الإنسان حياض هذا الدين، والتزم بأحكامه، صار فرداً من أفراد المجتمع الإسلامي، يتمتع بكافة الحقوق المكفولة له، فيعصم دمه وماله وعرضه، ويهنأ بحياة طيبة، ويعيش الجميع بظل العدل والسلام.

والشريعة الإسلامية - بما تكفله من هذه الحقوق - تسعى إلى تحقيق الوحدة بين لَبِنات المجتمع، وتعميقِ الروابط بين أبنائه، ليتحقق لجميع أفراد المجتمع أمنُهم وسلامتُهم.

 

محاربة الفكر التكفيري:

يجب تبرئة الإسلام من أفعال المجرمين, الذين مارسوا الاعتداءات بالطرق التي نسمع عنها ، أو نراها على الشاشات، تلك الأفعال التي لم يَشَمَّ معتقدُ حلِّها رائحة الإسلام، ويكفي أن نتذكر قول الرسول r: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء". وأمرنا بأن لا نذبح حيوانا أمام حيوان آخر, فإذا كان ذَبْحُ حيوان أمام حيوان آخر أمراً ممنوعاً، رحمةً بالعجماوات, فكيف بمن يقتل أخاه الإنسان ، ويزهق أرواح الأبرياء بطرق وحشية نهى الإسلام الحنيف عنها،وجعلها كبيرة من الكبائر.

وقد روى البخاري في كتاب (الديات) وفي كتاب (الفتن)، و مسلم في كتاب (الإيمان) – رحمهما الله - عن جرير t قال: قال لي النبِيُّ r في حجةِ الوداع: "استَنْصِت الناسَ! لا ترجِعُوا بعدي كُفاراً يضربُ بعضُكم رقابَ بعض".

 

حفظ حقوق الإنسان:

لقد كان للشريعة الإسلامية الغراء فضل السبق على كافة المواثيق والإعلانات والاتفاقيات الدولية في تناولها لحقوق الإنسان ، وتأصيلها لتلك الحقوق منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، وأن ما جاء به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقياتُ الدولية اللاحقة ، ومن قبلها ميثاق الأمم المتحدة ، ما هو إلا ترديد لبعض ما تضمنه الشريعة الإسلامية الغراء، التي أنزلها الله سبحانه قبل خمسة عشر قرناً.

إن حقوق الإنسان في الإسلام تنبع أصلاً من عقيدة التوحيد، ومبدأ التوحيد القائم على "شهادة أن لا إله إلا الله" الذي هو منطلق كل الحقوق والحريات، تنبع من التكريم الإلهي للإنسان بالنصوص الصريحة، وهو جزء من التصور الإسلامي في العبودية لله تعالى، وفطرة الإنسان التي فطره الله عليها؛ لأن الله تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد خلق الناس أحراراً، ويريدهم أن يكونوا أحراراً، ويأمرهم بالمحافظة على الحقوق التي شرعها، ثم كلفهم بالدفاع عنها، ومنع الاعتداء عليها.

إن إحقاق الحق وثباته لأصحابه، ورفع الظلم عن المظلوم مما جاءت به الشرائع السماوية كلُّها ، ونادت به الفطر السليمة، ودعت إليه العقول الصحيحة، والإسلام جاء بما فيه الكمال لصلاح العباد في دينهم ودنياهم ، في حياتهم وأخراهم.

إن حقوق الإنسان في الإسلام مِنَحٌ إلهية منحها الله لخلقه، فهي ليست منحة من مخلوق لمخلوق مثله، يَمُنُّ بها عليه ويسلبها منه متى شاء، بل هي حقوق قررها الله للإنسان ليحيا حياة كريمة آمنة مطمئنة.

ولقد اهتم الإسلام بالمعاهدات والمواثيق اهتماماً كبيراً، وإن هذا الاهتمام يعتبر من الدلائل على رفض الشريعة للعنف والإرهاب. قال تعالى ﴿إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة:4]

إن الإسلام ومن خلال أهدافه ومبادئه وقيمه يسعى لتحقيق الأمن والاستقرار والمحافظة على النظام، وذلك بتطبيق الحدود الشرعية، بحيث لم يترك الإسلام أي ثغرة ينفذ من خلالها المتطرفون والمخربون لتنفيذ مخططاتهم وتحقيق مآربهم.

وإن التصدي لظاهرة التطرف في العالم يتطلب تتبع جذور مشكلة التطرف في المجتمعات، وتسخير المعرفة الإنسانية لمكافحتها، والعمل على حماية حقوق الإنسان وكرامته في إطار الثوابت والقيم التي أنزلها الله ، وجعلها سبباً للحياة الطيبة الكريمة، قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ (النحل:97) كما يتطلب السعي الحثيث لتوضيح ذلك للغرب ؛ لإدراك حقوق الإنسان في الإسلام، ويقع على المسلمين واجب القيام بعرض تلك القيم والحقوق للآخرين. كما يقع على غيرهم واجب البحث والتعرف على تلك القيم النبيلة التي حث عليها الإسلام الحنيف، ليضمن لأبنائه، بل وللبشرية جمعاء تلك الحياة الكريمة المطمئنة.

 

مما تقدم نستنتج أن العلاج يكمن في أمور رئيسية، منها:

1-                  الاعتصام بالكتاب و السنة و ما أجمع عليه سلف الأمة قال تعالى : ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا﴾. وقال صلى الله عليه وسلم: "تركتُ فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنتي" رواه أبو داود.

2- نشر العقيدة الصحيحة التي جاء بها القرآن، ونطقت بها السنة، والتزمها الصدر الأول من الصحابة الكرام ومَنْ تبعهم بإحسان، وهي وسط بين الغالي والجافي في سائر أبواب الدين.

3- تعلم العلم الشرعي الصحيح المبني على الدليل البعيد عن الغلو والتطرف، والبعيد أيضاً عن الإفراط و التفريط، والتزام الوسطية، لئلا تتحول الساحة إلى ردود أفعال جدلية لا تنتهي إلى نتائج مرضيَّة. ورَبْطُ هذا العلم بالواقع ربطاً وثيقاً؛ ليظل الفقه الصحيح مُمْسِكاً بزمام المبادرة ، ومقدِّماً للأدوية الناجعة بعد تشخيص الأمراض التي تواجهنا في مجتمعاتنا.

4- ضرورة التفات الدعاة إلى الرد على الأفكار المنحرفة ، سواء كانت تكفيرية، أو كانت غلواً في أي جانب آخر، وتعريتها، وكشف زيف حججها.

وصفوة القول : إن الإسلام ليس خطراً يتهدد البشرية ، وإنما هو دينُ رحمةٍ للعالمين، وليس كما يوصف مصدرَ عنفٍ وإرهابٍ، بل هو دين سلام وعدل وإنصاف، انطلاقاً من ثوابته الدينية التي جاء بها القرآن الكريم ، وهي الدعوة للسلام والتسامح في ظل العدل والحق. قال تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.

وفي الختام: أتوجه إلى الله العلي القدير أن يُلْهِمَ قادةَ الأمم من رجال العلم و الفكر والسياسة والاقتصاد العودة الميمونة إلى رحاب الشرائع السماوية التي أنزلها الله على رسله عليهم السلام، ملتمسين الحلول الناجعة من الرسالة الخاتمة التي شهد الله لها بالكمال والتمام، وارتضاها لعباده بقوله سبحانه: ﴿اليومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وأَتْممتُ عليكُمْ نعمتي ورضيتُ لَكُم الإسلامَ ديناً﴾ لتهنأ عندها البشرية بحياة كريمة في الدنيا، وبسعادة أبدية في الآخرة. إنه خير سميع وخير مجيب.

 

والحمد لله رب العالمين

 

 

د. عبد الفتاح البزم

مفتي دمشق

مدير معهد الفتح الإسلامي بدمشق