wwww.risalaty.net


المسلمون ورصيد الأمل


بقلم : عبد العزيز كحيل

 

   يطبع كتابات المسلمين وكلامهم نظرة حزينة للغاية يلمسها القارئ في أغلب المقالات الصحفية والمحاولات الإبداعية والخطب المسجدية وحتى الأناشيد الإسلامية، والأمر له ما يبرره نسبياً، فتعفُّن الأزمة وتطاير شررها على كل المستويات المادية والشعورية أحدث ضيقاً في التنفس وخلع عليهم سوداوية قاتمة امتدت إلى حديث الشارع والقصة القصيرة والشعر والخاطرة والمقالة التحليلية، وإذا جاز للناس أن يصيبهم الإحباط وأن يستسلموا لضغط الواقع فإن ذلك لا يجوز بحال لأبناء الأمة الإسلامية المتخرجين من محاضن التربية الإيمانية لأنهم من جهة حملة رسالة الأمل فإذا أصابهم القنوط ضاعت الرسالة، ولهم من جهة ثانية رصيد ضخم من النصوص الشرعية والوقائع التاريخية تمدهم بدواعي الأمل مهما احلولكت الظروف وادلهمت الخطوب.

   فهذا موسى عليه السلام  يخرج بقومه من مصر فيلحق بهم فرعون ويعترضهم البحر فيعتري اليأس القوم الحديثي عهد بالعقيدة الراسخة وتعاليم النبوة فيقولون - بناء على ظاهر الأشياء- (إنا لمُدرَكون) لكن موسى يفسح مجالاً واسعاً برد الأمر إلى بارئ الكائنات الذي لا يتخلى عن عباده الصادقين (كلا إن معي ربي سيهدين) ويأتي الفرج ويصبح البحر صديقاً بعد أن كان في النظر السطحي عدواً لا يرحم.

   وهذه السيرة النبوية العطرة غنية بالمواقف الإيمانية الرائعة التي يعالج من خلالها الرسول صلى الله عليه وسلم حالات اليأس حتى رسم بمجموعها منهجاً واضحاً لا يجوز للدعاة التغافل عنه.

ففي وقت كان فيه المسلمون  يشتكون القلة والضعف يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بألبابهم وبأيديهم إلى ساحات المستقبل البعيد المفعم بالعدد والقوة ((ليبلغن هذا الأمر (أي الإسلام) ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل))... رواه ابن حبان و صححه الألباني.

   هل هي الأماني الفارغة؟ هل هو التنفيس عن المكروبين بالأحلام؟ كلا إنه الثقة في الله ورسالته ومنهجه وعباده المخلصين من شأنها أن تصنع المعجزات.

وفي مثل ذلك الوقت يسأل الصحابة الرسول الكريم: (أي المدينتين تفتح أولاً: القسطنطينية أم رومية؟ فيقول: مدينة هرقل (أي القسطنطينية وهي أسطنبول الحالية) تفتح أولاً)  رواه أحمد والحاكم وهو صحيح.

فالصحابة تجاوزوا بفضل التربية المحرقة حدود الواقع المادي والمعنوي واستشرفوا المستقبل في ثقة بالله عظيمة تدل على مدى تشبعهم بقيمة الأمل، وقد فتح المسلمون المدينة الأولى ولا شك أنهم سيفتحون الثانية(روما) في يوم من الأيام بإذن الله.

   ورد في بعض الروايات أنه لما قام النبي صلى الله عليه وسلم يكسر الصخرة التي اعترضت من كانوا يحفرون الخندق حول المدينة صار يضرب بالفأس ويقول: (الله أكبر فتحت فارس، الله أكبر فتحت الروم، إني لأرى قصور كسرى وهرقل) يقول ذلك في ظرف من أصعب ما قاساه المسلمون حتى ((زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا)) لماذا يا ترى؟ إنه عليه الصلاة والسلام يؤصل للأمل ويغلق منافذ التشاؤم حتى في أحلك الظروف.

   ومن أبلغ الشواهد حديث عدي بن حاتم المشهور الوارد في سيرة ابن هشام ومسند الإمام أحمد حيث عالج رسول الله تردد عدي بالتفاؤل ودخل الرجل الإسلام يقوده الأمل وأخلاق رفيعة تيقن من خلالها أن محمداً نبي مرسل، فقد أفسح له الرسول الكريم مجالاً رحباً للبشرى بهذه الكلمات النيرة ((لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول هذا الدين ما ترى من حاجة أهله  فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك عن دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة  تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم)).

وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يوحى إليه، فإننا نبصر المستقبل بعينيه الكريمتين ونجزم بانتصار الإسلام استناداً إلى يقينه المستقى من القرآن الكريم و وعد الله الذي لا يخلف.

   ومن الأحاديث الجديرة بالتأمل في هذا الشأن ما رواه الشيخان من إجابة الرسول للصحابة الذين جاؤوه يشكون الضعف والأذى: (لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت  لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه).

   بدل لغة الجراح والدموع والسجون والمشانق التي عهدناها في أجيالنا المتأخرة يعمد صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام إلى لغة التفاؤل وأسلوب التبشير لتكوين الشخصية الإيجابية، فأين نحن من ذلك؟ إن الكابوس المروع الذي نعيشه لن يرفع عنا بمجرد التألم والتوجع، فالإحساس بالألم عاملٌ فعالٌ في التغيير شرط أن لا يقف عنده الناس، وإنما يتجاوزونه إلى العلاج مستصحبين زاد الأمل لأن التفاؤل يدل على القدرة على الاستمرار في الحياة واقتحام العقبات.

   ويبرر بعض الإسلاميين تشاؤمه وتقطيبة جبينه بما روي من أن صلاح الدين الأيوبي أقسم أن لا يبتسم مادام بيت المقدس بيد الصليبيين، والحقيقة أن هذا التصرف -إن صحَّ- اجتهادٌ نحترمه، ويبقى قدوتنا النبي صلى الله عليه وسلم الذي عاش بالإسلام وسط الأوثان التي تدنس بيت الله الحرام، يبتسم ويترجم ابتسامته وتفاؤله إلى عمل تربوي ميداني عميق يجمع الطاقات ويصقل النفوس ويعلم العقول وينشط الجوارح حتى تجسَّد الأمل في شكل انتصارٍ أبديٍّ لدين الله وما يحمل من قيم خالدة.

   وهذا هو المنهج نفسه الذي يحقق للأمة الإسلامية كلها ما تنشده من تجاوز الأزمات واستعادة الأمن والأخوة وإقامة المجتمع الإسلامي الفاضل.

 وإذا أردنا حوافز من الواقع فإن فلسطين تعج بها؛ إذ رغم ما نعلمه جميعاً مما يعانيه شعبها من الاحتلال والتقتيل والتآمر فإن الأمل يخالج المجاهدين بتحريرها، وإذا كان البعض قد نكص على عقبيه وانتقلت جهات من حركات للتحرير إلى حركات للتبرير والتزوير فإن حماس شاهد على الثبات والمضي قدماً في طريق الجهاد والمقاومة، لا تلين لأبنائها قناة ولا يضرها من خذلها، وكلما دفعت شهيداً إلى الجنة قامت جموعٌ تخلفه وتتنادى بالاستمرار، ومن أعجب ما رأته الدنيا ثبات أهل غزة المجاهِدة على الحصار الظالم، فما سمعنا بجزع ولا تمرد من الشعب، وحتى بعد الفتح المؤقت لمعبر رفح يعود الناس إلى القطاع طواعية لمواصلة الصمود والمقاومة حتى النصر... أوليس هذا الثبات بشرى بين يدي النصر المنتظر؟

وبعد العدوان الصهيوني الهمجي على القطاع ازدادت أمارات الأمل، وننتظر النصر المؤزر بإذن الله..

"ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله."