wwww.risalaty.net


أهمية اللغة العربية و فصاحة اللسان


بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان "المشرف العام"

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللّهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا، ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

        حديثنا حول اللغة العربية وأهمية تعلمها، فهي لغة القرآن الكريم، ولغة القرآن الكريم، تجمع بين العرب والمسلمين، وتربط الناس ببعضهم، فحينما تُوْلى اللغة العربية هذا الاهتمام إلى جانب الاهتمامات الأخرى فهذا دليل وعي وعافية إن شاء الله تعالى.

^ أهمية اللغة العربية وغناها:

        اللغة العربية هي اللغة الحية المقروءة التي تتميز في العالم كله بأنها أغنى اللغات، وأكثرها ثراءً. فإذا أردنا أن نعود إلى كتاب الصحاح للجوهري - وهو معجم في العربية - فإنه يضم أربعين ألف مادة لغوية. القاموس المحيط للفيروز أبادي يضم ستين ألف مادة لغوية. لسان العرب لابن منظور يضم ثمانين ألف مادة لغوية. وكتاب تاج العروس يضم مئة وعشرين ألف مادة من كلمات اللغة العربية. هذا يدل على ثراء هذه اللغة، وعِظمها، وعلوّ شأنها، وأنها إحدى اللغات الحية في العالم، والتي جمعت كل الناس عليها؛ فما من مسلم في الصين، أو في فرنسا، أو أمريكا، أو روسيا، أو أندونيسيا... إلا ويصلي باللغة العربية، ويقرأ القرآن باللغة العربية، ويتعبّد الله - سبحانه وتعالى - باللغة العربية.

^ تراجع استخدام مفردات اللغة العربية:

لقد تراجع الاهتمام باللغة العربية، وقلّ استخدام مفرداتها، فبعض الدراسات النقلية قدّرت عدد المفردات والمواد اللغوية التي تستخدم في القرن العشرين بعشرة آلاف مفردة لغوية فقط، وحُصرت هذه الدراسة على بعض الأدباء، والكتّاب، واللغويين وكان من أبرزهم الأديب المصري "عباس محمد العقاد" الذي يعد من أكثر الأدباء والكتّاب غزارة في الإنتاج الأدبي والنقدي، فقد كتب في الشعر والأدب، والفلسفة، والعلوم، والفنون، وغيرها من الاهتمامات اللغوية التي كان يهتم بها، ومع ذلك رُصدت مفرداته ومواده التي استخدمها، فلم تزد على عشرة آلاف مفردة لغوية، وهذا يدل على أن هناك تراجعاً في استخدام العربية، وأن الضرورة تقتضي أن يُعاد النظر في العربية كلغة حية منطوقة لدى شعوب كثيرة في العالم.

^ حفظ الله - تعالى - للغة العربية:

        لقد شاءت إرادة الله - سبحانه وتعالى - أن تكون العربية لغة كتابه، ولسان وحيه، وأن يكون ذلك القرآن العظيم آخر الكتب، وخاتم الرسالات من الله - سبحانه وتعالى - إلى الناس، فكانت للعربية صفة تفرّدت بها من بين اللغات الحية المنطوقة في العالم، فلم ترتبط لغة حية من لغات العالم بكتاب إلهي ارتباطَ اللغة العربية بالقرآن، فطالما أن هناك قرآناً يُتلى فاللغة العربية موجودة، والقرآن دائم دوام الحياة، وباقٍ بقاء الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولم تحظَ لغة عبر التاريخ غير اللغة العربية بصفة الإعجاز اللغوي، فقد أبرزت لنا جوانب عظيمة من إعجاز القرآن الكريم، وبيانه الأدبي واللغوي، وكان من حكمة الله سبحانه وتعالى، وجميل صنعه وقَدَره ألا يصحّ نقل القرآن الكريم إلى لغة أخرى، فالقرآن لا يُترجَم واقعاً، ولا يجوز ترجمته شرعاً، إنما تُترجم معانيه، وتُنقل أفكارُه، فلا يُقال: هذا القرآن الكريم باللغة الإنكليزية، أو اللغة الروسية، أو الصينية... فمِن حِفظ الله - تعالى - للقرآن العظيم، ولهذه اللغة أن جعل للقرآن خصوصية؛ فكل الترجمات الموجودة الآن في أرض الواقع لا تسمى قرآناً إنما تسمى معانيَ وشروحاً، أو إيضاحات لمعاني القرآن الكريم.

^ اللغة العربية لكل من نطق بها لا للعرب فقط:

الله - سبحانه وتعالى - وصف القرآن الكريم بقوله:[]إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا...[] سورة يوسف (2). كلمة "عربي" تكررت في القرآن الكريم إحدى عشرة مرة، وهذا يدل على اهتمام وعناية الله - سبحانه وتعالى - بلغة القرآن الكريم. كذلك يقول ربنا سبحانه وتعالى:[]...وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ[] سورة النحل (103). أي جاء الوحي باللسان العربي، وليس فقط العربي، بل العربي المبين، والمبين هو الذي لا كدرة فيه من عُجمة أو لحن أو عيب، فلا عيب في هذه اللغة أبداً، سواء في النطق، أو في استخدام المفردات، ولا يمكن أن تجد لحناً، أو أثراً لعجمة أو كلام دخيل وَرَدَ عليه، وكذلك يقول سبحانه وتعالى:[]وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195)[] سورة الشعراء. كلمة "العربي" في القرآن جاءت صفة للقرآن وللسان في آن واحد، ولم ترد صفةً للمخاطَبين، فهي إذاً لا تتحدث عنا نحن كأبناء العروبة، وإنما أراد الله - سبحانه وتعالى - بذلك أن تكون للناس كافة، وللعالمين جميعاً، فكان هذا التعبير أبلغ تعبير عن عالمية الدعوة، وإنسانية الرسالة السماوية "الإسلام وعربية الخطاب"، وكان هذا الخطاب أيضاً أبلغ دليل على أن القرآن يُعَرِّبُ المسلمين لساناًَ، فكل من تكلم العربية أصبح عربياً بلسانه، وهذا من سر هذه اللغة العظيمة، ورَبْطُها بالإسلام ربطٌ عظيم لا يدرك حقيقته إلا من قرأ ووازن بين جميع الآيات القرآنية، وتبحّر في دلالاتها ومفاهيمها. إذاً لا مكانة لإنسان ينطق العربية إلا إذا كان عربياً خالصاً وبيّناً.

^ لا إسلام بلا قرآن، ولا قرآن إلا بالعربية:

إن القرآن العظيم يعرّب الناس ولا يستعجم لهم، فلا بدّ لمن يقرأ القرآن أن يصبح عربياً بلسانه، ولا يمكن للقرآن أن يصبح أعجمياً ويتحدث بلغة الأعاجم. إن المسلمين يعرفون ويفقهون أنْ لا إسلام بلا قرآن، ولا قرآن إلا بالعربية، ولا صلاة للمسلم - أياً كانت لغته - إلا باللفظ العربي المبين للقرآن الكريم. إذاً العجمة مرفوضة، ولا بد للمسلم أن يتعلم العربية حتى تصحّ قراءته وعبادته لله سبحانه وتعالى. ندرك من خلال احتكاكنا بكثير من الأعاجم وغير العرب أنهم حينما يصلّون يقرؤون الفاتحة، ويقرؤون القرآن، فإذا أردت أن تكلمهم لا يجيدون العربية، فهم قد اضطروا إلى حفظ القرآن وترتيل آياته؛ لكي تصح صلاتهم، وعبادتهم، وتقربهم إلى الله تعالى.

^ فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم:

أيها الإخوة القراء! النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما عبّر عن افتخاره بأنه ينتمي إلى العروبة واللغة العربية قال: "أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش، واستُرضِعت في سعد بن بكر". فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يفتخر بأن لغته عربية سليمة، وأن لغته هي لغة القرآن التي أُنزِلتْ من الله سبحانه وتعالى. ربُّنا - تبارك وتعالى - حينما أراد أن يعدد النعم والآلاء التي أنعم بها على عباده قال:[]الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)[] سورة الرحمن. والبيان هو الفصاحة، وهو الظهور. يُقال: أفصح الصبح إذا بانَ ضوءه؛ أي إذا ظهر، والفصيح هو الذي يُظهِر الكلام، ويبيّنه، ويوضحه للناس. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - افتخر بأنه يتكلم العربية ويُجيدها، وكان يثني على البيان وحسن التعبير، فقال من جملة ما ورد عنه: "إن من البيان لسحرا". "إن من الشعر حكمة". صحيح البخاري. فهذا اللفظ العربي بأدبه، وشعره، وبيانه، وبديعه، ومعانيه، ونحوِه، وصَرفه، وعَروضه، وبلاغته يسحر العقول، لذلك تحدّى الله - سبحانه وتعالى - العرب الفصحاء، والشعراء أهل البيان أن يأتوا بعشر سور من القرآن فعَجَزوا، ثم نزل معهم إلى آية واحدة فما استطاعوا أن يأتوا بمثل القرآن الكريم ببيانه، وفصاحته، وإعجازه، ومقدرته على الإقناع، لذلك بعضهم حينما سمع القرآن الكريم قال: "إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمُثمر، وإن أسفله لمغدق". وهذا الكلام يدل على عِظَم شأن اللغة العربية، ومكانتها، واهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بها، لذلك عبّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نعمة الله - تعالى - عليه أنه أوتي جوامع الكلم، وجوامع الكلم هي الكلام القليل اليسير الذي ينطوي تحته معانٍ عظيمة، يقول عليه الصلاة والسلام: "أوتيتُ خمساً لم يُعطَهنّ أحدٌ قبلي، كان كل نبي يبعث في قومه، وبُعثتُ إلى كل أحمر وأسود". وهو بذلك يشير إلى عمومية رسالته وعالميتها، لم يُبعث إلى العرب خاصة، إنما إلى الناس كافة، ثم يقول عليه الصلاة والسلام: "وأُحِلَّتْ لي الغنائم، وجُعلتْ لي الأرضُ طَهوراً، ونُصرتْ بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأوتيت جوامع الكلم". النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يخاطب قومه ويخاطبنا بالكلام اليسير الذي تنطوي تحته معانٍ كثيرة، من ذلك قوله: "الدين النصيحة". صحيح مسلم. هما كلمتان؛ مبتدأ وخبر، لكن تحتهما من المعاني، والمفردات، والإرشادات، والتوجيهات الأشياء الكثيرة، وقال أيضاً "صوموا تصحّوا". تصوّروا كم تكلم الأطباء، وفقهاء النفس، وعلماء التربي، وعلماء الاجتماع عن هذا الحديث الشريف، وقال - عليه الصلاة والسلام: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". صحيح ابن حبان. كلها كلمات مختصرة ويسيرة، لكنها تدل على إرشادات عظيمة، ومعانٍ كثيرة.

^ مشكلة انتشار اللحن في اللغة العربية:

مرة سمع النبي - عليه الصلاة والسلام - رجلاً يلحن بالقول فقال: "أرشدوا أخاكم فقد ضلّ". والمقصود بكلمة "ضلّ" هنا أنه حينما لَحَن في اللغة العربية ضلَّ الفهم، ولم يستوعب الحقيقة. وقد استشهَد بعض العلماء بهذا الحديث على أن كثيراً ممن يفهم خطأً دليلٌ على أنه قد ضل الفهم، وهذا إشارة واضحة إلى اللحن الكثير الذي يقع فيه الناس، واليوم نسمع لحناً في الإعلام، والخطابة، والتصريحات الصحفية، حتى أنك حينما تسمع أداءً لمسؤول ربما تشك بنفسك، فتظن أنه على الصواب، وأنك أنت على الخطأ، فالمسألة تحتاج إلى إعادة قراءة جديدة للغة العربية، واهتمام بتدريسها لأولادنا منذ نعومة أظفارهم؛ حتى ينشؤوا على حبٍّ للعربية بنحوها، وصرفها، وبلاغتها، وأدبها، وعَروضها.

^ ضرورة إحياء اللغة العربية وتدريب الأولاد عليها منذ الصغر:

أيها الإخوة القراء! اللغة العربية تحتاج إلى يقظة جديدة وحماس جديد للإقبال عليها؛ حتى نقف أمام الهجمات الأخرى التي تأتي من هنا وهناك. نحن نلاحظ الآن أن بعض أبناء العربية يرطنون بلهجات أخرى، فتسمع نصف كلامه باللغة العربية، والنصف الآخر بالإنكليزية، يطعم الكلام باللغة الإنكليزية والفرنسية، وبمصطلحات لا تدل على أن هذا الإنسان يعتز بعروبته وإسلامه، لماذا نرفض الاعتزاز بلغتنا العربية ونلجأ إلى الرَّطن بلغات العَجَم؟! فلْنحافظْ على لغتنا، ولنستخدمها في حياتنا بشكل واضح، وخاصة في تنشئة أولادنا. وعلينا أن ندرب أبناءنا على الكلام باللغة الفصحى منذ نعومة أظفارهم، كما فعل بعض أساتذتنا، ومشايخنا، ورجال العلم الكبار في هذا البلد مع أولادهم، وطلابهم، وتلامذتهم، حيث لا يسمحون لهم الكلام إلا باللغة العربية الفصيحة، ومن يتكلم منهم فيلحن يصوبون له على الفور، مما يجعله يعتاد الفصحى منذ صغره، وهذا أمر تربوي مهم علينا أن ننتبه له، وجميل أن يقوم كل منا بتدريب ولده الذي في الصف الثاني أو الثالث الابتدائي على اللغة العربية، كأن يطلب منه إحضار كتاب من المكتبة، وقراء نص منه، ثم التعبير بالفصحى عما فهمه من هذا النص.

^ اهتمام الصحابة الكرام والسلف الصالح باللغة العربية:

ينبغي أن نشجع أبناءنا على حب اللغة العربية، ونعودهم على التكلم بها، ونفعل معهم كما كان يفعل الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - مع أولادهم، حيث كانوا يجبون العربية.

1- اهتمام سيدنا عمر رضي الله عنه:

كان - رضي الله تعالى عنه - يوصي عماله والولاة بالاهتمام باللغة العربية، كتب مرة إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله تعالى عنه - يقول له: "خذ الناس بالعربية، فإنها تزيد في العقل، وتُثبت المروءة". فحينما يهتم الإنسان بلغته الأم، لغة القرآن الكريم فهذا دليل على نضجه، ونمو عقله، واتساع آفاقه. أيضاً كان سيدنا عمر - رضي الله تعالى عنه - يكره اللحن باللغة كثيراً. ورد عنه مرة أنه مرّ بقوم يرمون ولا يصيبون، فقرّعهم، ووبّخهم، فأرادوا أن يسوغوا له خطأهم في الرمي، فأخطؤوا في اللغة عندما قالوا له: إنا قوم متعلّمين، بدل أن يقولوا: إنا قوم متعلمون. فغضب سيدنا عمر - رضي الله عنه - وقال: "والله لخطؤكم في لسانكم أشدّ علي من خطئكم في رميكم. سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم يقول: رحم الله امرأً أصلح من لسانه". ومن هنا فإن كثيراً مما ورد عن سيدنا عمر - رضي الله تعالى عنه - في هذا الباب كان الحث على تعلم العربية والاهتمام بها. يقول: "تعلموا إعراب القرآن كما تتعلمون حفظه". وهذه مسألة عظيمة في طلب العلم عُرفت لدى العلماء الأوائل، فكانوا لا يحفظون آية إلا ويعربونها إعراباً كاملاً وصحيحاً، مع فهم كل كلمة من كلماتها، وقال رضي الله عنه: "عليكم بالتفقه في الدين، والتفهم للعربية، وحسن العبارة". وورد عنه أيضاً: "أما بعد: فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن فإنه عربي، ولْيُعلّمْ أبو الأسود أهل البصرة الإعراب". وكان أبو الأسود الدؤلي قد تعلم النحو من سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو الذي وضع قواعد علم النحو العربي، ويُنسب له الفضل في ذلك، وهو ينسِب الفضل إلى سيدنا علي الذي وضع له القواعد الأساسية لتعليم النحو وقال له: "انحُ هذا النحْوَ".

2- اهتمام سيدنا أبي بكر رضي الله عنه:

ورد عنه قوله: "لَأَن أقرأ فأُسقِط، أحب إلي من أن أقرأ فألحَن". أي إذا أشكلت علي كلمة فلم أعرف إعرابها، فلأن أتجاوزها إلى غيرها خير لي من أن أَلْحَنَ فيها. وكان - رضي الله عنه - يقول أيضاً: "لأن أُعرِب آية من القرآن أحب إلي من أن أحفظ آية جديدة". فأنت حين تحفظ آية من القرآن الكريم احفظها، وتعلم معناها، وأعربها كلمة كلمة، وتعلّم لماذا هذه الكلمة هنا منصوبة، وهنا مرفوعة، وهنا مجرورة، فإنك تفقه هذه الآية فقهاً كاملاًَ، وتكون عالِماً بكل ما أحاط بها.

3- اهتمام سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:

ورد عنه قوله: "جوِّدوا القرآن، وزيِّنوه بأحسن الأصوات، وأعربوه؛ فإنه عربي، والله يحب أن يُعرَب". وهذا يحمّلنا مسؤولية كبير لأن نقرأ القرآن الكريم على أهله؛ فلا يصح أن نتعلم القرآن من المصحف، ولا بد من الرجوع إلى أهل الحفظ الذين أخذوا القرآن بالتلقي عن مشايخهم، وكان لهم الإجازة العلمية، فنتدرب على أيديهم؛ حتى لا نقع بخطأ في صلواتنا وتعبّدنا لله سبحانه وتعالى.

4- اهتمام سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:

سينا عبد الله بن عباس هو حَبْر هذه الأمة الذي دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم بقوله: "اللهم علمه التأويل، وفقّهه في الدين". المعجم الكبير. عندما كان يُسأل عن معنى كلمة في القرآن كان يجيب بإنشاد بيت من الشعر يورد فيه تلك الكلمة إما لفظا صريحاً أو بمعناها. وكان - رضي الله عنه - يقول: "إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر؛ فإن الشعر ديوان العرب". وفي رواية أخرى: "الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله رجعنا إلى الشعر فالتمسنا ذلك منه". أيضاً في رواية ثالثة: "إذا أشكل عليكم شيء من القرآن فالتمسوه في الشعر؛ فإنه ديوان العرب". هذه عدة روايات عن سيدنا عبد الله بن عباس - رضي الله تعالى عنه - في اهتمامه بالعربية، والبيان، والشعر؛ لأن ذلك يخدم القرآن الكريم، ويقرّبه إلى الفهم والتدبر.

5- اهتمام الإمام مالك رحمه الله تعالى:

ورد عنه قوله: "لا أوتَى برجل غير عالم بلغة العرب يفسّر كلام الله إلا جعلتُه نكالاً". فكثير من الناس يتجرّؤون على تفسير القرآن الكريم وهم ليسوا من أهل الاختصاص، ولا علمَ لهم بالعربية، ولا بالنحو والصرف، ولا بغير ذلك من العلوم؛ كالتفسير والتأويل، والناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، وغير ذلك... وهذه مشكلة ظهرت في هذا الزمان؛ جرأة بعض الناس على الخوض في القرآن الكريم بآرائهم، أو بما ظهر لهم من آراء، أو بما قرؤوا من نظريات، أو بما تلقوا من المدارس الغربية التي درسوا فيها. لذلك يروي بعض أهل العلم نصاً عن إمام عظيم من أئمة التفسير: "من قال في القرآن العظيم برأيه فأصاب فقد أخطأ". فلا يجوز إعمال الرأي في القرآن الكريم، ولا بد من العودة إلى الجذور مما قاله علماؤنا من المفسرين الأثبات، والحفّاظ الثقات الذين نُقل عنهم تفسير القرآن الكريم، وشرحه وبيان معانيه. فالإمام "مجاهد" مثلاً من أئمة التفسير، وأعلام الرواية، يقول: "لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إن لم يكن عارفاً بلغات العرب".

6- اهتمام الإمام الزُّهري رحمه الله تعالى:

ورد عنه قوله: "ما أحدثَ الناس مروءةً أحبّ إلي من تعلم النحو". النحو لغة العرب، وهو ميزانٌ دقيقٌ لألسنتنا، وكتابتنا، والإمام الزهري يَعُدُّ تعلمَ علم النحو من المروءة الخالصة التي يفتخر بها الإنسان، ويباهي بها.

7- اهتمام الإمام الأصمعي رحمه الله تعالى:

وهو الإمام عبد الملك بن قريب ، إمام الرواية الذي نُقلتْ عنه روايات كثيرة من الكتب، وهو الذي تتلمذ في بعض مراحل حياته على يد الإمام الشافعي، وأخذ عنه كثيراً مما سُمِّي بشعر الهُذَليّين، وشعر الهذليين كان ديواناً عظيماً، وكان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى - يُحتَجُّ بكلامه، ويأخذ النحاة بكلامه؛ لأنه كان شاعراً، ولغوياً، وضليعاً في العربية.

بلغ من ورع الأصمعي واحتياطه أنه كان يقول: "أخْوَفُ ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمداً فلْيتبوّأْ مقعدَه من النار". متفق عليه". لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يَلْحَن، فمهما رويتَ عنه ولَحَنْتَ فقد كذبت عليه. ومن جملة ما ورد عن الأصمعي قوله: "إن الشافعي تُؤخذ عنه اللغة".

        وهكذا نلاحظ أن فقهاء المسلمين، وعلماءهم، والمفسرين، والمحدّثين كانوا على درجة عالية من الفهم والإحاطة بلغة العرب والاهتمام بها، فلماذا في هذا العصر بدأ التراجع، والتراخي، والإهمال للغتنا الأم، لغة القرآن الكريم التي أكرمَنا الله - سبحانه وتعالى - بها، فاللغة العربية هي اللغة الحية التي يتكلم بها ألسنة كثير من الأقوام. وهي بحر كبير وواسع، ومن يتصور أنها ضاقت عن استخدام المفردات أو مواكبة العصر فقد أخطأ. بعض المحدَثين والحداثيين يظنون أن العربية لا تواكب الحداثة والعصر، وقالوا إن القرن العشرين وما بعده قد اكتشفت فيه مكتشفات ومخترعات لم تتسع لها اللغة العربية، وهذا الكلام يدل على ضيق آفاقهم هم؛ العربية فيها من النحت، والاشتقاق، والتعريب ما يتسع لكل المصطلحات الواردة من مخترعات، ومكتشفات، وغير ذلك. ومجامع اللغة العربية لم تترك مصطلحاً، ولا مخترعاً، ولا حتى ما جاء من الأدوات التي نستخدمها في حياتنا اليومية إلا وأوجدت لها في اللغة العربية لفظاً يُستخدم بناءً على الميزان الصرفي، والقواعد العربية التي لا تختلّ أبداً.

هذه هي اللغة العربية التي تزيد الإنسان جمالاً على جمال، وفصاحة إلى بيان. ورحم الله الشاعر إذ يقول:

كفى بالمرءِ عـيباً أن تـراه        لهُ وجهٌ وليـسُ لهُ لـسانُ

وما حُسْنُ الرجالِ لهم بزَيْنٍ        إذا لم يُسـْعِدِ الحُسنَ البيانُ

^ أحاديث في فضل الشام التي حفظت اللغة العربية عبر التاريخ:

بلاد الشام هي البلاد التي دعا لها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالبركة فقال: "اللهم بارك في شامنا". صحيح البخاري. كان لها عبر التاريخ فضل عظيم في حماية اللغة العربية، من ذلك مناقشتها لأهمية اللغة العربية عند انعقاد القمة العربية فيها عام 2008م. وهذا يدل على صحوة إن شاء الله تعالى. ودعوة الإسلام انطلقت من بلاد الشام، وإذا كان الإسلام قد ولد في مكة، ونشأ في المدينة، وتربى في الجزيرة العربية فإنه انطلق من الشام، ورفرفت راياته من دمشق عاصمة الخلافة الأموية التي انطلقت منها الفتوحات، واتسعت ووصلت إلى الصين شرقاً، وإلى جبال فرنسا غرباً، ولم تترك بحراً، أو نهراً، أو محيطاً إلا وصلت إليه راية الإسلام واللغة العربية من خلال دمشق. عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشام صفوة الله من بلاده، يجتبي إليها صفوته من خلقه". رواه الطبراني مرفوعاً. الأحاديث التي وردت في فضل الشام، وفي فضل دمشق على وجه التحديد كثيرة، فالأحاديث الصحيحة التي لا إشكال في صحتها عددها سبعة عشر حديثاً، عدا عن الأحاديث الحسان، والأحاديث الموقوفة، والأحاديث المرفوعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صحابته رضي الله عنهم، وكلها أحاديث تدل على خيرية بلاد الشام، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "إني رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي، فأتبعته بصري فإذا هو نور ساطع، فعمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام". أخرجه الحاكم. ومن الأحاديث الصحيحة الواردة في هذا المجال حديث سيدنا عبد الله بن حوالة الأسدي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "سَتُجَنَّدون أجناداًَ؛ جنداً بالشام، وجنداً بالعراق، وجنداً ظاهراً. فقال الحواليّ: يا رسول الله! خر لي. فقال: عليك بالشام، فإن الله تكفل لي بالشام وأهله". صحيح ابن حبان. وعبد الله بن حوالة الأسدي كان حينما يروي هذا الحديث يقول: "ومن تكفل الله به فلا ضيعة عليه". فنحن نتفاءل - إن شاء الله - بأن هذه الخيرية ستكون في الشام، وستبقى فيها إلى قيام الساعة. يقول سيدنا زيد بن ثابت رضي الله عنه: "كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نؤلف القرآن من الرقاع (أي نجمعه مما كتبناه على الرقاع) فإذا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُطرِق ملياً ثم يقول: "طوبى للشام". فقلنا: لماذا يا رسول الله! قال "لأن ملائكة الرحمن باسطةٌ أجنحتَها عليها". سنن الترمذي. فالملائكة تتوكل بحماية الشام وأهله.

الإمام المحدّث ابن عساكر صاحب الكتاب العظيم "تاريخ مدينة دمشق" يقول في هذا الكتاب: "إن دمشق الشام دخلها عشرة آلاف عين رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم". أي من الصحابة الذين رأوه عليه الصلاة والسلام، فما من حجر من أحجارها إلا تحته رُفات مجاهد في سبيل الله، وما من عِرق أخضر إلا ونُسْغه قد تروّى بدم شهيد من الشهداء الذين سقطوا على أرضها، وقاتلوا في سبيل الله، واستشهدوا في الله ومن أجله.

^ دعاء:

نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يحفظ البلاد، ويوفق العباد، وأن يصون الشام وما حولها، وهي أرض بارك الله فيها وفيما حولها، وهي أرض مهاجَر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.