wwww.risalaty.net


عينٌ بكتْ من خشيةِ الله


بقلم : عبد العزيز كحيل

 

طغت المادة وتبرّجت الدنيا وانتشرت الشهوات وقست القلوب وأصبح الطرف الدامع أعزّ من بيض الأنوق وأندر من الكبريت الأحمر... يحدث هذا والمسلمون يقرؤون القرآن، وفيه:

((فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيرا جزاءً بما كانوا يكسبون)) [سورة التوبة 82]

((أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون)) [سورة النجم 59-61]

((إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّداً وبكيّا)) [سورة مريم 58]...

نعم يسجدون عند هذه الآية أي يؤدون الحركة البدنية لكن الحسن البصري يقول لهم: "هذا السجود فأين البكاء؟"

كان هذا في عصر التابعين فكيف لو عاش حتّى رأى هذا الانغماس الكامل في شؤون الدنيا وكأن الناس في دار الخلود ليس أمامهم موت ولا قبور ولا قيامة ولا نشور؟

((قتل الإنسان ما أكفره)) [سورة عبس 17].

يحدث هذا والمسلمون يقرؤون سنة نبيّهم  عليه الصلاة والسلام وفيها:

"عينان لا تمسّهما النار: عين بكت من خشية الله وعين باتت ساهرة في سبيل الله"  (رواه الترمذي)

"ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين (...) قطرة دموع من خشية الله وقطرة دم تهراق في سبيل الله" (رواه الترمذي)

"لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتّى يعود اللبن في الضرع" (رواه الترمذي)

"من السبعة الّذين يظلهم الله في ظلّه يوم لا ظل إلاّ ظلّه: رجل ذكر الله خاليّاً ففاضت عيناه" (متّفق عليه)

نعم، نؤمن بالقرآن الكريم والسنة ونحبهما لكن استفحال التوجه المادي وتمكن الدنيا من القلوب أفقدنا الرشد فتصلبت المشاعر وجفت المآقي... فينا من يبكي من شدة الفرح أو لدغة الحزن، فينا من يبكي من فرط اللذة أو الألم... هذه أمور يشترك فيها الناس فأين البكاء من خشية الله تعالى الذي لا يحسنه إلا المؤمنون؟

    كيف لا يذرف المؤمن الدموع إذا خلا بنفسه وتفكر في حاله؟ ها هي نعم الله تعالى تحيط به من كل جانب ظاهرة وباطنة، والعناية الإلهية تكلؤه بينما هو غافل عنها، يستمتع بالنعمة وينسى المنعم، بل يبذل النعمة في معصية المنعم. ينظر فيرى نفسه سابحاً في لجة من العطايا الربانية والآلاء السماوية، وهو مقصر في حق الله تعالى، فيتذكر قول الله عز وجل: ((أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين)) [سورة الزمر 56]، فالجدير به أن يبكي لعل دموعه تطفئ ناراً تلظى تتربص به.

    يخلو المؤمن بنفسه في محرابه أو اعتكافه أو زاويته المنفردة ويذكر مصيره: أليس أمامه قبر سيؤويه؟ فما الله فاعل به مع الضيق والظلمة والوحدة والضمة التي لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ؟ أتفتح له نافذة على مقعده من الجنة أم من النار؟ ثم أليس بعد القبر نشور ووقوف بين يدي الجبار جل جلاله؟ هذا العبد ترتعش فرائسه لو قام بين قاض أو مدير عام أو وزير، فكيف بذلك القيام الأخروي حيث ينشر الديوان ويوضع الميزان وتتكلم أعضاء الجسم، وليس في الموقف محام ولا شفيع ولا عملة سوى الحسنات والسيئات.

    ـ ((واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)) [سورة البقرة 281]

    ـ ((يا أيّها الّذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة)) [سورة البقرة 254]

   فكيف لا يبكي من هذا حاله ؟ أم كيف يستمرئ ما عليه دنيانا من تغافل عن الآخرة وانخراط في حياة الشهوات والغرائز واللعب واللهو؟

    ألم يئن للمؤمنين  أن يتحرروا من سطوة الإعلام الذي حول الوجود إلى ساحة للغناء والرقص والضحك والقمار والتفاهات؟ ألم يئن لهم أن ينعتقوا من توجّه السياسيين الدنيوي البحت ومعهم أسطول من ''المثقفين'' الذين لا يرد على ألسنتهم ولا أقلامهم أي ذكر للآخرة بل يسخرون من ذلك كل السخرية؟ أليس غريباً أن يبكي الناس لفوز فريق لكرة القدم أو إخفاقه؟ ولتسجيل هدف وكأنه إنجاز مثل جبال تهامة؟ ثم تجف أعينهم ولو شيّعوا الجنائز ودفنوا الموتى وسمعوا المواعظ ومرت بهم آيات الوعد والوعيد ودلائل القدرة وأخبار المبدأ والمعاد وأنباء ما يحدث للمسلمين من تقتيل واستضعاف في أكثر من مكان..... وما خبر غزة والمسجد الأقصى ببعيد.... ما بالنا؟هل أمنّا مكر الله عز وجل... ((أم على قلوب أقفالها)) [سورة محمد 24]

    ذلك هو بيت القصيد..... لو خشعت القلوب لانهمرت العيون بالعبرات بكاء على النفس الأمارة بالسوء وخوفاً من الجليل وطمعاً في جنة لا يدخلها ((إلا من أتى الله بقلب سليم)) [سورة الشعراء 89].

    ومشكلة القلب والعين مشكلة تربية، وقد قال بعض الصالحين: ''عوّدوا أعينكم البكاء وقلوبكم الخشية''.

     وما أجمل وأصدق ما قاله شاعر الإسلام الأكبر الدكتور محمد إقبال رحمه الله: المدرسة الحديثة لا تعلّم القلب الخشوع ولا العين الدموع.

         إن البكاء الذي وراءه إيمان وسيلة تربوية فعالة تخرج الربانيين الذين يتعالون عن السفاسف ويرثون الفردوس الأعلى، فانظر في قلبك أيها المؤن أفيه خشية وخشوع وتعظيم لله وتأنيب للنفس، وانظر في طرفك الجافّ وعوّده دموعاً صادقة تثقّل ميزانك يوم المعاد والحساب والجزاء، وعلّم كل هذا أبناءك وطلاّبك فإنه من أنجح وسائل الاستقامة، وإياك والغفلة  فإنها تجارة النّوكى وبضاعة المغفّلين، ولا تغترّ بأرباب السياسة والفن والإعلام والمال فإنّ أغلبهم يركبون العمياء ويتّبعون الأهواء ويخبطون خبط عشواء، وعليك بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه ضمان الفوز في الدنيا والآخرة.