wwww.risalaty.net


الشتاء ربيع المؤمن ...


بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان "المشرف العام"

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللّهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا، ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

"الشتاء ربيع المؤمن، طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه". صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن فصل الشتاء فرصة كبيرة للمسلمين لكي يصوموا فيه النهار القصير، ويقوموا فيه الليل الطويل. في الشتاء دعوة للتكافل والتراحم، وفي الشتاء يشعر كثير من الأغنياء بهموم الفقراء، فيقدمون لهم العون فيما يتعلق بالثياب، والطعام، والوقود، وغير ذلك...

^ خصائص فصل الشتاء وأحوال الناس فيه:

يتميز فصل الشتاء بقصر النهار؛ لأن الليل يأخذ منه حوالي ساعتين تقريباً فيطول بذلك، وكذلك يتميز هذا الفصل بكثرة الضباب، وتكثّف السحب، واشتداد الهواء والرياح، وبرودة الجو، وحدوث الصواعق، ونزول الأمطار بإذن الله تعالى. أما الأرض فإنها أحياناً تحترق من شدة البرد، وتتساقط أوراق الشجر، وتنقص الثمار، وتُحبَس الدواب في بيوتها وجحورها، وتتجمّد المياه، وتكثر العلل والأمراض، وتقلّ الحركة، ويكثر النوم، ويحلو السهر... وغير ذلك من الصفات الكثيرة التي تكون في فصل الشتاء. فهل اغتنم المسلمون هذا الفصل بالعبادة؟ وهل فكّر كل واحد منا بالارتقاء في صلته مع الله - سبحانه وتعالى - في ليالي الشتاء الباردة والدّافئة في آن واحد؟

هذه الليالي يكون فيها المطر الغزير، والثلج الأبيض، والدفء والجمر المتوقد، وهذه الأجواء يحلم بها كثير من الناس ويرتاحون لها، وبقدْر ما يفكر المؤمن بالطاعة بقدر ما يختار بعض المقصرين هذا الوقت لمعصية الله سبحانه وتعالى. بعضهم يرى في الشتاء أجواء رومانسية (كما يسمّونها) ليقعوا في معصية الله بقصد وبغير قصد، أما أهل الله والصالحون والأتقياء فيرون في فصل الشتاء فرصة للتقرب إلى الله تعالى، فتزداد طاعتهم، ويكثر قربهم ومناجاتهم لله، فيصلّون قيام الليل والتهجد، ويستغفرون الله في الأسحار، ويسألونه من فضله الواسع العميم، فإذا كان الثلج، أو المطر، أو الضباب، أو السحاب، أو الرياح، أو الصواعق، أو غير ذلك لم تضرَّهم بإذن الله تعالى، بل كلما وقع شيء من ذلك يحركهم نحو الله، ويُقبِلون به إليه.

^ الشتاء وفوائده في القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة:

أ- في القرآن الكريم:

ورد ذكر الشتاء في القرآن الكريم في موضع وحيد، وسورة وحيدة هي سورة قريش إذ يقول الله فيها:[]لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ (2)[] سورة قريش. هذه هي الآية الوحيدة التي ذكر الله - تعالى - فيها لفظ الشتاء بشكل صريح، لكن هناك الكثير من الآيات أشار الله فيها إلى السحاب، والغيوم، والضباب، والرياح، والبرد الشديد الذي وصفه بالزمهرير، وغير ذلك من خصائص فصل الشتاء التي وردت في مواضع كثيرة. وبين الله - سبحانه وتعالى - أن أهل قريش كان لهم رحلتان في السنة؛ رحلة في الشتاء، ورحلة في الصيف، وذلك للتجارة والبضاعة، وللتزود من الصيف للشتاء، ومن الشتاء للصيف.

ب- في السنّة المطهّرة:

أما في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فورد ذكر الشتاء بمواضع متعددة، ومعانٍ متكررة، منها ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن سيدنا أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشتاء ربيع المؤمن". هذه رواتية الإمام أحمد، وزاد الإمام البيهقي عليها: "طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه". ونلاحظ في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبّه فصل الشتاء بأنه فرصة للمؤمن فكما أن فصل الربيع هو فرصة للإنسان بشكل عام؛ حيث يكون فيه النسيم العليل والأجواء الرقيقة، والخضرة والثمر، ويعتدل فيه الجو، ويخرج فيه الإنسان للرحلة والنزهة، كذلك فصل الشتاء، فهو ربيعٌ بالنسبة للمؤمن، وفسّر النبي - عليه الصلاة والسلام - ربيعَ المؤمن بأن الليل فيه طويل، فيقومه بين يدي الله تبارك وتعالى راكعاً، ساجداً، تالياً للقرآن، مسبّحاً مستغفراً للرحمن. وأما نهاره فقصير، ساعاته قليلة، فيغتنمه المؤمن بالصيام، ولا شك أن الصيام هو أفضل العبادات التي يتقرب الإنسان من خلالها إلى الله بعد الصلاة؛ لأن الله - تعالى - جعل جزاء الصيام له وحده حيث قال في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به". صحيح البخاري. فاختصّ الله - تعالى - الصائمين بأنه جعل ثوابهم مطلقاً عامّاً؛ وذلك ليكرمهم على هذه الطاعة التي قدموها بين يديه.

كذلكم جاء في الحديث عن سيدنا عامر بن مسعود - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الغنيمة الباردة الصوم في الشتاء". سنن الترمذي. هناك غنيمة حارة شاقّة تكون في الجهاد، ربما يبذل فيها الإنسان روحه، وربما يُجرَح وتُراق دماؤه، وفي النهاية يكون له غنيمة حين يحوز شيئاً من الغنائم التي يكسبها من هذه الغزوة، أو تلك المعركة. أما الغنيمة الباردة فهي التي يجتنيها الإنسان من غير قتال، ولا دماء، ولا سيوف... والصوم في الشتاء هو تلك الغنيمة؛ فإذا صام الإنسان فقد حصّل غنيمة عظيمة وباردة، لا جهد فيها، ولا تعب، ولا إراقة للدماء، ولا خروج من البيت أو سفر في سبيل تحصيل الغنائم، إنما نال الغنيمة بشكل بارد، أي دون مشقة أو جهد.

^ استعداد السلف الصالح للشتاء:

أ- سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

كان في خلافته يتعهد رعيته ويستوصي بهم إذا جاء الشتاء، فكان يوصيهم بالاستعداد للشتاء فيقول لهم: "إن الشتاء قد حضر، وهو عدوٌّ، فتأهّبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، سريعٌ دخوله، بعيدٌ خروجه". وهنا يتكلم عن الأمراض التي يمكن أن تقع في فصل الشتاء، لذلك وصفه بأنه عدو، وخاصة للإنسان ذي المناعة الضعيفة، والذي يكتسب المرض بسرعة.

ب- سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه:

كان يقول: "اتّقوا الشتاء في أوله، وتعرّضوا له في آخره، يفعل بالأجساد كما يفعل بالأشجار، أوله محرق، وآخره مُورِق". فالبرد الذي يكون في مطلع فصل الشتاء قاسٍ ومؤذٍ، وكما أن الشجرة يتساقط ورقها من شدة البرد، كذلك الإنسان ربما يحترق جسمه من شدة البرد، ويضعف، ويهزل، وتصيبه أمراض خطيرة. أما البرد في آخر الشتاء فهو لطيف، يورّد وجه الإنسان، فكما أن الزهور والورود والرياحين تكون في أول تفتحها، كذلك الإنسان عندما يتعرض في آخر فصل الشتاء إلى برده ونسيمه فإن ذلك فيه نوع من أنواع العافية له، حيث يكون بحاجة لأن يؤقلم جسمه مع الأجواء المعتدلة.

جـ- سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:

كان يقول إذا جاء فصل الشتاء: "مرحباً بالشتاء، تَنَزَّلُ فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام".

ء- سيدنا عبيد الله بن عُمير رضي الله عنه:

كان يقول إذا جاء فصل الشتاء: "يا أهل القرآن! طال ليلكم لقراءتكم فاقرؤوا، وقصر نهاركم لصيامكم فصوموا". ففي فصل الشتاء يتغنى أهل القرآن بذكر الله تعالى، وفي الوقت نفسه يحلو النوم في ليله الطويل، فبعض الناس نيام، وبعضهم ممن أغفل الله قلبه يقضي هذا الوقت الطويل في البرد في أماكن المعصية، والفجور، واللهو، والفسق، والضلال، وربما لا يجد من يذكّره وينبهه إلى فضيلة فصل الشتاء، وأن فيه تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى، فيترك بيته وزوجه وأولاده، ويلهو ويسمر في أماكن اللهو والفجور والضلال، وإنفاق الأموال في الباطل ومعصية الله تعالى. وبعض الناس يعود في آخر الليل سكران ورائحته قبيحة. وبعضهم يسهر في هذه الليالي مع النساء الفاجرات العاصيات (نعوذ بالله تعالى من أفعالهن)، وربما كانت امرأته في البيت تنتظره وتهيئ له طعام العشاء، وربما كانت تقرأ القرآن، وربما كانت تصلي وهو في معصية الله. لذلك كان لا بد من أن نذكّر بعضنا بفضيلة فصل الشتاء، وضرورة اغتنامه فيما ينفع ويقرب إلى الله سبحانه وتعالى.

هـ- سيدنا يحيى بن معاذ رضي الله عنه:

ورد عنه قوله: "الليل طويل فلا تقصّره بمنامك، والإسلام نقيٌّ فلا تدنّسه بآثامك". هذه موعظةٌ لطيفة. فالذي ينام من أول الليل إلى آخره في فصل الشتاء لا يشعر ببركة الليل، ولا بفضيلة التقرب إلى الله - سبحانه وتعالى - فيه، وكذلك وصف الإسلام (الدين الحنيف) بأنه دين نقي فلا يجوز أن ندنسه بآثامنا.

نلاحظ أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا قد استعدوا للشتاء، وأخذوا أهبتهم له، وعرفوا أوقات أضراره من أوقات منافعه، وفي الوقت نفسه اغتنموا اللحظات المباركة في ليله فقاموها، وأما النهار فاغتنموه بالصيام والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى. ومعظم أقوالهم تصب في معنى واحد وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه". البيهقي.

^ لماذا الشتاء ربيع المؤمن؟

لقد تحدث كثير من العلماء في هذا الأمر، وبيّنوا أن الشتاء ربيعٌ؛ لأن المسلم فيه  يرتع في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، ويُنَزِّه قلبه في رياض القُرُبات، دوحة متكاملة من التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وخاصة قيام الليل، ففي الصلاة التي يصلّيها الإنسان في جوف الليل أنواع التقرب إلى الله تعالى؛ كالقرآن، والذكر، والاستغفار، والدعاء، والتبتّل، والركوع، والسجود، والانقطاع للعبادة، والتفرغ للطاعة. وقيام الليل فيه كل المعاني التي يبحث عنها المؤمن. فالشتاء ربيع المؤمن، يستفيد منه في الليل، ويغتنم نهاره، ويتقرب فيه إلى الله سبحانه وتعالى...

^ المطر رحمة ورسالة وتذكرة من الله تعالى وليس نبوءات:

سُئل أحد السلف الصالح رحمه الله تعالى: "ما بالنا لا نقوم الليل؟" وهذه مشكلة خطيرة وقعنا بها في هذه الأيام، حيث نسهر إلى آخر الليل، وننام ونفوّت علينا فرصة القيام في الليل. فقال: "كبّلتْكم معاصيكم". شبّه المعصية بالقيد؛ لأنها تقيّد فكر الإنسان، وعقله، وجسمه، ويديه، ورجليه، فلا يقوم لطاعة الله سبحانه وتعالى، فإذا ما هطلت الأمطار في فصل الشتاء أقرّ المؤمن بفضل الله ونعمته، وتوجّه إليه بالدعاء بما سنّه وشرعه لنا سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "مُطِرْنا بفضل الله ورحمته". متفق عليه. الباء هنا سببية، أي إن السبب في نزول الأمطار هو فضل الله علينا، ورحمته لنا، وتكرّمه وجوده وإحسانه، لا أسباب أخرى. نعم هناك أسباب ظاهرية يقرؤها العلماء فيقولون: تشكّلت السُّحُب في السماء نتيجة تبخّر مياه البحار وتصاعدها في الأجواء، فكان فيها شحنات سالبة وشحنات موجبة، تصطدم هذه الشحنة بتلك، فيتساقط المطر. هم يعبّرون عما يسمى بالمطر الصناعي عندما يقومون بعمليات استمطار صناعي، يفعلون مثل هذه الظواهر، ويعتقدون أن هذا المطر الذي يُنْزِله الله - سبحانه وتعالى - هو كذلك المطر المسمى بالمطر الصناعي. بعض الناس يربطون المطر بالنجوم والسحب إذا أصبحت كثيفة، وهذا الموضوع كله نقضه من أساسه سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم صلح الحديبية حيث يروي أحد أصحابه - عليه الصلاة والسلام - واسمه "زياد بن خالد" رضي الله عنه، يقول: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح في الحديبية في إثر سماءٍ كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر؛ فأما من قال: مُطِرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكواكب. وأما من قالا: مُطِرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافرٌ بي مؤمنٌ بالكواكب". متفق عليه. نستفيد من هذا الحديث ثلاثة أمور:

أ- الشتاء يذكرنا بالقبر:

طول الليل في الشتاء يذكّرنا بالقبر وظلمته ووحشته، وألاّ مؤنس فيه. فالناس عندما ينامون نوماً طويلاً في الشتاء يكون نومهم أشبه بالقبر لهم، والقبر موحش ومظلم، وخاصة في فصل الشتاء حيث لا يكون هناك كهرباء في الليل، ينام الناس على الظلام فيصبح البيت أشبه بالقبور. فأول ما نستفيد ونستخلص من هذا الحديث أن طول الليل في الشتاء يذكر الناس بوحشة القبور وظلمتها، أفلا يفكر هؤلاء بضرورة أن ينوّروا قبورهم؟؟! وأن يقوموا في الليل، ويصلوا، ويستغفروا، ويسبّحوا، ويقرؤوا القرآن، ويسألوا الله - سبحانه وتعالى - من فضله؟؟ فنور القبور هو الصلاة في الليل.

ب- شدة البرد تذكرنا بزمهرير جهنم:

فإن من عذاب النار ما هو باردٌ يهلك، ويسمى بالزمهرير والغسّاق، ومنها ما هو شديد الحرارة مُحرِق. الله - سبحانه وتعالى - وصف عذاب الكافرين في النار بأنهم يصابون ببرد شديد. يقول تعالى:[]هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ[] سورة ص (57). هو عندما تبرز النار عليهم وتسمّى بالزمهرير، فتتبلّد أجسامهم وتتجلّد من شدة البرد والزمهرير فيحترقون. النبي - عليه الصلاة والسلام - وضح لمنا هذا المعنى بقوله: "اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً. فأذن لها بنَفَسين؛ نفسٍ في الشتاء، ونفسٍ في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير". متفق عليه. فالنار تتنفّس مرتين في السنة؛ مرة في الصيف؛ وهو أشد ما نجد من الحر في الصيف من زفرات جهنم وتنفسها، ومرة في الشتاء؛ وهو أشد ما نجد من شدة البرد في الشتاء من زمهرير جهنم أيضاً، ومن برودتها المؤذية المحرقة اللاسعة للبدن، فنسأل الله - تعالى - أن يجيرنا من زمهرير الدنيا والآخرة. فإذا ما وجد الإنسان لسعةَ البرد على جسده تذكر زمهرير جهنم، فاستعاذ بالله منها، وسأله برد الجنة ونعيمها. فرق كبير بين برد النار وبرد الجنة. قال تعالى:[]مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا[] سورة الإنسان (13).

جـ المطر يُمنع بذنوب الناس:

 من أبرز خصائص فصل الشتاء نزول الغيث، فالله - سبحانه وتعالى - يكرم عباده بالغيث أحياناً متواصلاً، وأحياناً متقطّعاً، أحياناً خفيفاً، وأحياناً أمطاراً كالحبال. فبعض الناس يركبون سياراتهم ويخرجون إلى رؤوس الجبال ليستمتعوا بمنظر الأمطار وهي تتساقط من السماء.

الله - تعالى - أحياناً بمنع الناس المطر لذنوبهم وعصيانهم كما ورد في الحديث: "ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنِعوا القطر من السماء". سنن ابن ماجة. فعندما يمتنع الغيث ويحبس المطر في السماء فهذه عقوبة من العقوبات التي يعاقب بها الله عباده لعلهم إليه يرجعون، مع ذلك لم يقطع بربنا - سبحانه وتعالى - آمالنا؛ فهو الذي ينزّل الغيث ويُفيض رحمته على عباده كما قال:[]وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ[] سورة الشورى (28). يظن الناس أن الله - تعالى - قد حرمهم المطر، وقد عاقبهم بمنع الغيث، فإذا به ينشر لنا من رحمته، ويخرج لنا من خزائنه الملأى، فتتساقط الأمطار، وتنتعش الأرض، وينبت الزرع، ويفرح الإنسان، ويشرب الحيوان ويرتوي، ويتحرك النبات، وتعلو الخضرة رؤوسَ الجبال، فينتفع بالغيث الجماد والنبات والحيوان والإنسان.

^ أمور سنها لنا النبي - عليه الصلاة والسلام - في فصل الشتاء:

 

أ- الدعاء عند نزول الغيث:

والدعاء عند نزول الغيث مستجاب؛ لأن هذا الغيث يكون حديث عهد بالله سبحانه وتعالى. يروى أن النبي - عليه الصلاة والسلام - عندما نزل المطر خرج حاسراً[1] عن رأسه ليتعرّض له. فقالوا له: لم فعلت ذلك يا رسول الله؟ قال: "لأنه حديث عهد بربه". صحيح مسلم. فهو ليس ماءً مجمّعاً في الأرض، أو في الأنهار، أو في البحار. ومن هنا ندرك سر استجابة الدعاء عند نزول الغيث. فلنكثر من الدعاء عند نزول الغيث، فهو وقت مفضل وله تميّز. يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثنتان ما تردّان: الدعاء عند النداء وتحت المطر".

ب- الدعاء عند هبوب الرياح:

وقد كان للنبي - عليه الصلاة والسلام - أدعية وأذكار عند تبدّل المُناخ في الأحوال المناخية المتعددة، منها ما يكون عند نزول الغيث، وهذا المُناخ عموماً يكون في الشتاء أكثر من غيره في باقي المواسم. فالدعاء يسن عند هبوب الرياح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الريح من رَوح الله، تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فلا تسبوها، وسلوا الله خيرها واستعيذوا من شرها". صحيح ابن حبان. فقد يكون في هذه الرياح أحياناً أضرار كثيرة، وقد تأتي بالأعاصير، وفد تكون لقاحاً للأشجار والنباتات والزرع عموماً، ويستفيد منها الإنسان والنبات والجو بشكل عام. كذلك سنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - الدعاء عند سماع الرعد، وعند حدوث البرق، وهذا من خصائص الشتاء أيضاً. يقول النبي عليه الصلاة والسلام: "سبحان الذي يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته". موطأ الإمام مالك. كأنه أراد أن يبين لنا أن هذه الأصوات العظيمة التي نسمعها في جوف السماء وفي كبدها إنما هي تسبيح الرعد بحمد الله سبحانه وتعالى، وكذلك تسبيح الملائكة من مهابة الله وعظمته وجبروته وقداسته.

جـ- صلاة الاستسقاء:

أيضاً سن لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الاستسقاء في فصل الشتاء، وهو طلب السُّقيا من الله - تعالى - بصلاة الاستسقاء، أو بالدعاء على المنبر أو في الأماكن العامة أو في الساحات يخرج الناس بعد أن يصوموا ثلاثة أيام وأن يردّوا المظالم والحقوق إلى أصحابها، وأن يُظهروا التوبة لله - سبحانه وتعالى - مع إظهار التذلل بلُبس الرداء على القفا، وبعد ذلك يصلون صلاة الاستسقاء، وهي عبارة عن ركعتين كركعتي العيد تماماً، في الركعة الأولى سبع تكبيرات، وفي الركعة الثانية خمس تكبيرات يقولون ما بين التكبيرة والأخرى: "أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه". هو دعاء استغفار بين كل تكبيرتين لأن الله - تعالى - يقول:[]فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11)[] سورة نوح.

^ آداب متعلقة بفصل الشتاء:

أيها الإخوة! هناك بعض الآداب والأحكام المتعلقة بفصل الشتاء سنها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينبغي للمؤمن أن يتحرّاها لتكتمل عبادته، وليتم له أجره وثوابه، ويقتدي فيها بسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ السنة القولية والسنة الفعلية، من أبرز هذه الأحكام والآداب:

* إسباغ الوضوء:

وإتمامه في فصل الشتاء، وكما أشرنا قبل قليل ففصل الشتاء فيه برد شديد، والشعور بالبرد لا ينبغي أن يمنع الإنسان من إكمال الوضوء لأعضائه، وإسباغه بشكل جيد؛ لأن الإسباغ للوضوء وقت المكاره من جملة ما يكفّر الله به الخطايا، ويمحو الذنوب، كما ورد في حديث عن سيدنا أبي هريرة رضي الله - تعالى - عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، وبرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط". صحيح مسلم. فهذا نوع من أنواع المرابطة والجهاد في سبيل الله تعالى، حيث يكون البرد شديداً، وربما يكون المؤمن مريضاً، وبجسده جراح، فيحتسب تلك الشدة وهو يتوضأ، ويغتنم الفرصة كي تكون من مكفّرات ذنوبه وخطاياه، ومن جملة ما يرفع من درجاته، ويزيد من حسناته.

^ من طرائف فصل الشتاء (مع سيدنا علي كرم الله وجهه):

أختم هذا الحديث بطرفة فيها حكمة ومعنى جميل جداً من أطرف ما ورد عن البرد والشتاء، ومن عجائب الحر والبرد والصيف والشتاء. حديث يرويه الإمام ابن ماجه في سننه ضمن كرامات سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه. عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "كان أبو ليلى يسمر مع علي، وكان علي يلبَس ثياب الصيف في الشتاء، وثياب الشتاء في الصيف. فقلنا: لو سألته. فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إلي وأنا أَرْمَدُ العين يوم خيبر. قلت: يا رسول الله! إني أرمد العين. فتفل في عيني ثم قال: اللهم أذهِب عنه الحر والبرد؟ قال: فما وجدت حراً ولا برداً بعد يومئذ". سنن ابن ماجه. فذلك بفضل دعاء سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذهب عنه كل الحر والبرد، فلا في الصيف يشعر بحر و برد، ولا في الشتاء يشعر بحر أو برد؛ فقد تحول جسده إلى جسد معتدل بشكل عام. كان هذا الحديث من أطرف ما رُوي عن حالات البرد في الصيف وحالات الحر في الشتاء التي أكرم الله بها سيدنا علياً - كرم الله وجهه - بفضل دعاء النبي عليه الصلاة والسلام.

^ دعاء:

أيها الإخوة! لا شك أننا في فصل الشتاء نبتهل إلى سبحانه وتعالى - أن يسقينا الغيث. فلنرفع أكفَّنا إلى الله، ولنضرع إليه بصدق وإخلاص لعل الله - سبحانه وتعالى - يكرمنا بغيث يغيث أفئدتنا وأجسادنا وأرواحنا، وأرضنا، وبهائمنا، ويشفي بذلك صدور قومٍ مؤمنين: اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا، وأمددنا بأموال وبنين، واجعل لنا جناتٍ واجعل لنا أنهارا. اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، سحّاً، غدَقاً، طبقاً، مجلِّلا برحمتك يا أرحم الراجمين! أنزل لنا من بركات السماء، وأخرج لنا من خيرات الأرض. اللهم أدِرِّ لنا الضرع، واسقِ لنا الزرع. اللهم فجِّر لنا الينابيع والآبار والأنهار بفضلك ومنّك وكرمك يا أكرم الأكرمين! نسألك اللهم أن تغيث أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم اسق ِبلادنا بلاد الشام وما حولها بِسِرّ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبسرّ استسقائه لك، نسألك يا رب أن تجيب دعوانا بكرمك يا مولانا! وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.



[1] حاسراً: كاشفاً.