wwww.risalaty.net


الأبراج ... واقعٌ أم وَهْمٌ أم بيتٌ من زجاج ؟


بقلم : رزان نزار سلوم

 

قراءة أدبية .. ورؤية شرعية

اقرأْ في صفحةِ السّماء حروفاً تتآلفُ مِن عوالمَ مِن الكواكبِ و المجرّات ، شمسٌ تجري وكأنّها تبحثُ عن مفقود و القمرُ الذي كالعرجون القديم يعود ، و نيازك تلتهب وشهُب تسرح ، و أبراج سماوية في الفُلْك تسبح ..

منازل قمرية توحّد الخالق ، و مجرات سُمّيّة و نجمٌ طارق ، تدور في الفضاء و توحّد مُركِّبَها ، و تزيّن صفحة المساء و تشكر مُكَوكِبَها ، لم تُصَبْ في دينها كما أٌصيبَ البعض ـ اللّهمّ لا تجعلْ مصيبتَنا في ديننا ـ فأصبحوا و أمسَوا يؤلّهون الكواكبّ و يستنطقونها بزعمهم ، و يحدّثونها و تحدثهم ، و يرفعون لها تراتيلَهم و يكذبون على الناس بأقاويلهم ، و يقرّبون إليها الأضحيات لتكفيَهم شرَّ الملمات.

 

و انتشروا و كثروا و فشوا كالوباء في هذا الزمان ، و تستروا بعنوانات تدغدغ الفكر و تثير الانتباه : حظك اليوم ، مستقبلك غداً ، إشراقةُ الغد مِن برج اليوم ...

و ما إلى ذلك ممّا يجذب الناس كما تجذب النارُ الفراش ، تعينهم على غيّهم قنواتٌ تجذبُ المشاهدَ ، و مجلاّتٌ تتصيّد عابرَ السبيل ، و دورُ نَشْرٍ تدّعي الكتابة بمداد المستقبل ، و تعِدُ القارئَ أن تغيّر حياته للأفضل ، و لقاءات و حوارات و مناقشات و توقعّات يهدمُها قولُه تعالى : قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ  [النمل:65] . في هذه الآية نصٌ واضحٌ قطعيٌّ على تفرّد الله عزّ و جلّ بعلم الغيب ، و أنّه لا يوجد في السماوات و لا في الأرض مَن يعلم الغيبَ إلا الله ، و قد مدح الله المؤمنين الذين يؤمنون بالغيب و به يوقنون ، فالغيب بيد الله ، و هذا الكون العظيم و أنظمته الفلكية مُسَخَّرةٌ لخدمة الإنسان ، و الشمسُ و القمرُ و الكواكب مخلوقاتٌ مِن خَلْقِ الله  : وَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ  [الأعراف:54] جعلَ لها وظائفَ وَ سخّرها لهداية المسافرين بالبرِّ و البحر ، و جعلها رجوماً للشياطين ، و زيّن بها صفحةَ السماء ، تسبّح بحمدِ ربّها ، لا تؤثّر على حياة الإنسان ، و لا تتولى سعدَه و لا نحسَه ، و مَن يعتقدْ بها و يصدّقها فقد كفر بما أُنزِل على محمّد ، يقولُ عليه الصلاة و السلام : ( مَن أتى عرّافاً أو كاهناً فصدّقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد) ، و الذي أنزل على محمد هو القرآنُ و السنة، و الذي يصدق هذه التنجيمات و التخرصات ، وهذه الخرافات التي تُكتب في الصحف والمجلات ، و تتسابق عليها القنوات و تدّعي صلتها بالأبراج و علم الغيب فقد كفر بما أُنزِل على محمد .

 

المسألةُ جِدُّ خطيرة ، القولُ فيها فصل ، و لا تحتمل الهَزْل ، تُخرِجُ مِنَ الملّة و تهدم عقيدة التوحيد ، و تزلزل أركان الإسلام في الجيل ، تتسلل بهدوء و بطء إلى النفس ، تطرق بابَ التسلية بدايةً ، ثم باب الظن ثم باب الإيمان و التصديق ، فلا يكاد بعضُ هذا الجيل يقوم بعمل حتى ينتظر إذن النجوم و أمر الأبراج ، فيدخل العقلُ بسبات تهدهده خرافاتٌ و ترّهاتٌ ، و يدندن أهازيج علمِ التنجيم !!

 

 

نعم .. التنجيمُ عِلمٌ ، لكن ادّعاء علم الغيب هو عينُ الجهل ، التنجيمُ الحقيقي الذي نبغ به القدماء غيرُ ما يعرفه الناس الآن مِن : حظك هذا اليوم و غيرها من الخزعبلات ، و قد أنشأ التنجيمَ و كوّنه و وضع قواعدَه كبارُ العقول البشرية ،  لكن لكل علم مّن يدّعي النبوغ فيه و هو منه بريء ، و العقلُ السليم يَميز الخبيث من الطيّب ، و يفرّق بين علم التنجيم الذي جعله تعالى مسخراً للبشر لا يتحكم بمصيرهم ، و ادّعاء الغيب الذي يُلمح من حركة النجوم و تأثير الكواكب و الأبراج !!

و أيّ عقل يردع هذه السخافات و يزجرها كما ردعها علي بن أبي طالب لما أراد أن يسافر لقتال الخوارج فعرض له منجمٌ فقال: يا أمير المؤمنين، لا تسافر ! فإن القمر في العقرب -في برج العقرب-، لا تسافر فإنك إن سافرت و القمر في العقرب هُزِم أصحابُك -أو كما قال- فقال له علي : بل أسافر بل أسافر في هذا الوقت  ثقة بالله، و توكلاً على الله ، و تكذيباً لك، و إرغاماً لأنفك ، فسافر علي رضي الله عنه بجيشه، فبورِك له في ذلك السفر، حتى قَتَل عامَّة الخوارج ، و كان ذلك من أعظم ما سُرَّ به .

 

و أيّ عقل سليم قويم يصدق كتب المنجمين و قد سقطت خزعبلاتهم كما سقط جيش الروم أمام المعتصم و تهافتت كلماتهم كما تهافت جنود الروم ؟!!

و أين حبيب ؟ ليته من زمننا قريب ليخبر كل عقل أريب أن السيف أصدق من التنجيم و التكذيب ؟

والـعلم فـي شـهب الأرماح لامعة            بين الخميسين لا في السبعة الشهبِ

قصيدة رائعة قالها أبو تمام تبحرُ بين أمواج البحر البسيط لينقل إلينا ببساطة أنّ لا النجم و لا الشهب و لا الكواكب و لا المنجمين و لا صَفَر يؤثرون على حياة البشر !!

و ذلك لما تجهّز المعتصم لغزو ( عمّورية ) حكم المنجمون على ذلك الوقت أنه لا يرجع من غزوه !

فإن رجع كان معلولاً خائباً !! لأنه خرج في وقتٍ نحس ! فكان من فتحه العظيم وظفره ما لم يخفَ

حتى وصف ذلك أبو تمام الطائي في قصيدته التي  مطلعها :

 



السيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ           في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ
أَيْنَ الروايَة ُ بَلْ أَيْنَ النُّجُومُ وَمَا             صَاغُوه مِنْ زُخْرُفٍ فيها ومنْ كَذِبِ
تخرُّصاً وأحاديثاً ملفَّقة ً            لَيْسَتْ بِنَبْعٍ إِذَا عُدَّتْ ولاغَرَبِ
عجائباً زعموا الأيَّامَ مُجْفلة ً         عَنْهُنَّ في صَفَرِ الأَصْفَار أَوْ رَجَبِ
وخَوَّفُوا الناسَ مِنْ دَهْيَاءَ مُظْلِمَة ٍ           إذا بدا الكوكبُ الغربيُّ ذو الذَّنبِ
وصيَّروا الأبرجَ العُلْيا مُرتَّبة ً          مَا كَانَ مُنْقَلِباً أَوْ غيْرَ مُنْقَلِبِ
يقضون بالأمر عنها وهي غافلة           ما دار في فلك منها وفي قُطُبِ
لو بيَّنت قطّ أمراً قبل موقعه        لم تُخْفِ ماحلَّ بالأوثان والصلُبِ

 

مَن أراد أن يحلّق بسماء الروعة فليحلق بجناحي هذه القصيدة البائية الرائعة التي تفضح المنجمين و تسخر منهم و تدلل على كذب أقوالهم ..

فحالنا اليوم أدهى و أمر ، و منجمو اليوم أخبث و أشر ، يتقنون الكذب و التزوير و يمارسون الغواية و التخدير ، يخدّرون الشعوب و يحطّمون القلوب ، و يتناسَون وعيد علام الغيوب ..

و لو تفكّر الناس بالعقول و آمنوا بالمنقول لما زلت بهم القدم إلى حضيض المنجمين ، و لا ساقوا لأنفسهم النِّقم من أفواه المشعوذين ...

 

الذين يبالغون في الكذب و التدليس ، و يسوقون خرافاتهم مع تلبيس إبليس ، و يوقعون في شَركهم شباباً و شاباتٍ يدخلون مستقبلهم من أبواب الأبراج ، و يبرمجون أنفسهم على توقعات الفلكيين ، و يعيشون مع الشريك في برج من العاج بناه لهم ادّعاءُ المشعوذين ، و يطرقون باب الصعوبات إذا قال لهم برجهم أن الصعب رفيقكم ، و يتعلقون بخيوط الأوهام إذا أفصح لهم أن النصر حليفكم ، و يخرجون عن الفطرة و يريقون ماء حياتهم قطرة قطرة ، و لا العلم و لا الدين و لا العقل يرضى و يسمح لكوكب أن يؤثر على خَلْقِ المكوكِب ..

فَـ ( يا معشر الجن و الإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات و الأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ) ، سلطان علاّم الغيوب لا إله إلا هو ، و لا مسيطِر على مخلوقاته إلا هو ، و لا يؤثَّر في خلقه إلا هو ، عالم الغيب و الشهادة الكبير المتعال ..

فأنقذوا أنفسكم و شبابكم من مشعوذين أعدى من السوس ، و فلكيين أشْأم من البسوس ، و اثبتوا على الشريعة الغراء ، و تجنّبوا الشرك صغيره و كبيره و دقيقه و حقيره و ظاهره و باطنه و خفيه ، و أخرجوا أنفسَكم و أبناءكم إلى دين النور و لا تلتفتوا لأقوالِ كهّان بالجهل تمور ، و ثِقوا بتدبير الحيّ القيوم و لا تلتفتوا لأقاويل النجوم ، و احذروا من منجمين يغررون بالجيل ، و ينسونهم تدبير الجليل ، و يوقعونهم بالشرِّ الوبيل ، فالإحساسُ بالأزمة بدايةُ المجتهد و حلّها نهاية المقتصد ، و في الاستخارة قوت للقلوب و بها يرضى علاّم الغيوب ، و ينال القرب من أرضى الرّب ، فيتم الوفاء و يعم الصفاء ، فهو يحبهم و هم يحبونه و لا يرضون بتدبير دونه ...