أمهات المؤمنين رضي الله عنهن
بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وافتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا، ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.
لا أجد حديثاً له من الخصوصية كهذا الحديث، إنه حديث أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن، الحديث عن السابقين الأوائل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، السيدة خديجة رضي الله عنها، والسيدة سَودة، والسيدة حفصة، والسيدة زينب بنت خزيمة، والسيدة أم حبيبة، والسيدة أم سلمة، والسيدة زينب بنت جحش ابنة عمة النبي صلى الله عليه وسلم، والسيدة جويرية بنت الحارث، والسيدة صفية، والسيدة ميمونة، والسيدة عائشة رضي الله عنهن وأرضاهن.
إنهن أمهات المؤمنين اللواتي جعلهنّ الله سبحانه وتعالى قدوة للمرأة المسلمة؛ فحينما خاطب الله تعالى نبيَّنا محمداً صلى الله عليه وسلم في قضية الحجاب بدأ بالخطاب الموجّه إلى أمهات المؤمنين، فقال سبحانه وتعالى:[]يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً[] سورة الأحزاب (59). والمرأة المسلمة إنما تَسْعَدُ وتُسَرُّ باقتفاءِ وتَتَبُّعِ خيرِ أثرٍ يُؤْثَرُ عن نساءٍ عِشْنَ وتربّينَ في أجلّ البيوت؛ بيت النبوة، بيتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. المرأة المسلمة تسعد بالاقتداؤ بمن أعلَى الله مَكانتَهن، وأجَلَّ قَدرَهن، ونزَل القرآن الكريم بالثّناءِ عَليهنّ، قال الله عزّ وجلّ:[]يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ[] سورة الأحزاب (32). إنهن الزَوجاتٌ المبارَكات، الصالحات، القانتات، العظيمَات، الحافظات بالغيب، إنهن النساء المؤمنات، المجاهدات، الصابرات، الفاضلات اللواتي عشن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة من الزمن كان فيها من البركة والخير والعلم والعفة والفضيلة ما يَصْلُحُ قدوةً لكل نساء العصر إلى يوم القيامة.
السيدة "خديجة" بنت خويلد رضي الله عنها:
وهي المرأة العاقِلَة، الحاذِقة، ذاتُ الدين والنسب. نشأت على التخلُّق بالفضائلِ والتحلِّي بالآداب والكرَم والصفات العالية، واتَّصفت بالعفّة والشرف، وكانت تُدعَى بين نساءِ مكّة بالطاهرة. تزوَّجَها المصطفى صلى الله عليه وسم وهي أكبر منه سنّاً، فكانت نِعمَ الزوجة له، آوَته بنفسِها ومالها ورجَاحةِ عقلها، وفي أحزانِه عليه الصلاة والسلام وآلامه كان يأوِي إليها ويَبُثّ إليها همومه ويشكو أحزانه. نزل عليه الوحيُ أوّلَ نزوله فرجَع إليها يرجُف فؤادُه من هَول ما رأى، وقال لها: "ما لي يا خديجة؟! لقد خشِيتُ على نفسي". فتلقَّته بقَلبٍ ثابت وقالت له: كلاَّ والله! لا يخزيك الله أبداً.
لاحَ الإسلام في دارِها فكانت أوّلَ من آمن واتبع وصدق النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأمة، ولم تتردد لحظة واحدة في إعلان إسلامها، قال ابن الأثير رحمه الله: "خديجة أوّلُ خلقِ الله إسلامًا بإجماعِ المسلمين، لم يتقدَّمها رجلٌ ولا امرَأَة".
عظُمَت الشّدائِد على النبيّ في مطلَع دعوتِه، واشتدَّ الإيذاء، فكانت له قلبًا حانيًا ورأيًا ثاقبًا، لا يسمَع من الناسِ شيئًا يكرهه ثم يرجِع إليها إلاّ ثبَّتته وهوَّنت عليه مصيبته، يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "آمنت بي إذ كَفَر بي النّاس، وصدّقتني إذ كذَّبني الناس، وواسَتني بمالها إذ حرَمني الناس، ورزَقني الله ولدَها إذ حرمني أولادَ النساء". رواه أحمد.
عظيمة بارّةٌ بزوجِها وأمّ حنون، جميع أولادِ النبيّ صلى الله عليه وسلم منها سوَى إبراهيم، فهو من السيدة مارية القبطية رضي الله عنها، أدبُها رفيعٌ وخُلُقها جَمّ، لم تراجِعِ المصطفى صلى الله عليه وسلم يومًا في الكلامِ، ولم تؤذِه في خِصام، يقول عليه الصلاة والسلام في بيان فضلها رضي الله عنها: "أتاني جبريل فقال: بشِّرها ببيتٍ في الجنة من قصب[1]، لا صخَبَ ولا نصَب".متفق عليه. قال الإمام السّهيليّ رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: "إنما بشَّرها ببيتٍ في الجنة لأنها لم ترفَع صوتَها على النبيّ ، ولم تُتعِبه يومًا من الدهر، فلم تصخَب عليه يومًا، ولا آذته أبدًا".
سلامُ اللهِ عليها...
كانت راضيَةً مرضيّة عند ربِّها، يقول عليه الصلاة والسلام: "قال لي جبريل: إذا أتتك خديجة فاقرأ عليها السلام من ربِّها ومنّي".متفق عليه. قال ابن القيّم رحمه الله: "وهي فضيلةٌ لا تعرَف لامرأةٍ سِواها". أحبَّها الله وأحبَّتها الملائكة وأحبَّها النبيّ، يقول: "إنّي رُزِقت حبَّها". رواه مسلم.
كان عليه الصلاة والسلام إذَا ذكرَها أعلَى شأنَها وشكَر صُحبتَها، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا ذكَر خديجةَ لم يكن يسأَم من ثَناءٍ عليها واستغفارٍ لها. حفِظ لها وُدَّها ووفاءها، فكان يكرِم صاحِبَاتها بعدَ وفاتِها". وهذا عين البر والوفاء للسيدة خديجة رضي الله عنها. وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها: "وربَّما ذبح الشاةَ، ثم يقطِّعها أعضاءً، ثمّ يبعثها إلى صديقاتِ خديجة، فربما قُلتُ له: كأنّه لم يكن في الدّنيا امرأةٌ إلاّ خديجة! فيقول": "إنها كانت وكانَت، وكان لي منها ولد". رواه البخاري. فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من فضل السيدة خديجة رضي الله عنها ما يجعل كل زوج يحرص أن يكون وفياً لزوجته، سواء في حياتها أو بعد مماتها، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع السيدة خديجة رضي الله عنها.
سمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم مرةً صوتَ أختِها بعد وفاتها فحزِن كثيرًا وقال: "اللهم هالة!". متفق عليه.
كمُلَت السيدة خديجة رضي الله عنها في دينها وعقلِها وخلُقها، يقول عليه الصلاة والسلام: "كمُل من الرجال كثير، ولم يكمل من النّساء إلا ثلاث: مريم بنت عمران، وآسيةُ امرأة فرعون، وخديجة بنتُ خويلد". رواه ابن مردويه.
سبَقَت نساءَ هذه الأمة في الخيريّة والشرف والفضيلة والعلوّ والسناء، يقول عليه الصلاة والسلام: "خيرُ نِسائِها[2] مريمُ بنت عمران، وخير نسائِها[3] خديجة".متفق عليه.
صَلحت في نفسِها وأصلَحَت بيتَها، فجَنَت ثمرةَ جُهدها، فأصبَحَت هي وابنتُها السيدة فاطمة رضي الله عنها خيرَ نساء العالمين في الجنّة، يقول عليه الصلاة والسلام: "أفضَلُ نِساء أهلِ الجنّة خديجةُ وفاطمة ومريمُ وآسية". رواه أحمد.
كانت عظيمةً في فؤادِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يتزوَّج امرأةً قبلَها، ولم يتزوَّج امرأةً معها ولا تسرَّى إلى أن قضَت نحبَها، فحزِنَ لفَقدِها، يقول الذهبيّ رحمه الله: "كانت عاقِلةً جليلةً ديِّنةً مَصونةً كريمةً من أهلِ الجنة".
رضي الله عن السيدة خديجة وأرضاها، وحشرنا معها في الجنة إن شاء الله تعالى مع سائر أزواج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السيدة "سَودةُ" بنت زمعَة رضي الله عنها:
سَليمَةُ القلب رضي الله عنها، أوّلُ من تزوّجَ بها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد السيدة خديجَة رضي الله عنها، وانفردَت به نحواً من ثلاثِ سنين.
كانت امرأة جليلةً نبيلَة فاضلة، رُزِقَت صفاءَ السّريرةِ، وكان من فضلها أنها أحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً كبيراً، فوَهَبت يومَها للسيدة عائشةَ رضي الله عنها رِعايةً لقلب النبي صلى الله عليه وسلم، وتقرباً له، وابتغاءً لمرضاة ربِّها سبحانه وتعالى، فقد كانت تدرك مكانة السيدة عائشة رضي الله عنها في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السيدة "حفصة" رضي الله عنها:
الصّوّامة القوّامَةُ، ابنة أميرِ المؤمنين سيدنا عمَرَ بن الخطاب رضي الله عنه، نشَأت في بيتِ نُصرةِ الدين وإظهارِ الحق، وعز الإسلام، وهي سابعة سَبعةٌ مِن أهلها شهدوا بدراً، تقول عنها السيدة عائشة رضي الله عنها: "هِي التي كانت تُسامِيني من أزواجِ النبيّ صلى الله عليه وسلم". فقد كانت قريبة السن من السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، فقد تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في سن الشباب، لم تبلغ الثامنة عشرة من عمرها، وكانت هي ابنة سيدنا عمر بن الخطاب، والسيدة عائشة رضي الله تعالى عنها ابنة الصِّدِّيق، وكلاهما صاحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرب الناس إليه، فكانت السيدة حفصة رضي الله عنها تسامي وتوازي في المكانة السيدة عائشة رضي الله عنها في شهادة عائشة بحقها.
السيدة "زينب" بنت خزيمة الهلالية رضي الله عنها:
المرأة المُنفِقةُ المعطاءة في سبيل الله، ذات البذلِ والمسارعة في الخيرات، مكثَت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم شهرَين، ثم توفِّيَت ولحقت بالرفيق الأعلى.
السيدة "رملة" بنت أبي سفيان رضي الله عنها (أم حبيبة):
والمهاجرة المحتسِبَة، ليس في أزواجِهِ عليه الصلاة والسلام مَن هي أقربُ نسبًا إليه منها، فهي من بنات عمومته عليه الصلاة والسلام، وليس في نسائِه مَن هي أكثرُ صَداقًا منها؛ فقد أعطاها النبي عليه الصلاة والسلام ما يليق بمكانتها، فهي ابنة أبي سفيان، وأبو سفيان كان وجيهاً وعزيزاً وذا مكانة في قومه، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم بالصداق الذي منحه رملة رضي الله عنها أن يتألف قلوب من حولها من أسرتها، وخاصة أباها وأمها.
وقد تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام وهي نائِيَة الدارِ أبعَدَ منها، عقَدَ عليها وهي في الحبَشَة فارّةٌ بدينها، وأصدَقَها عنه صاحِبُ الحبَشَة النجاشي وجهَّزها إليه.
السيدة "هند" بنت أبي عتبة رضي الله عنها (أم سلمة):
المرأة الصّابِرة الحيِيَّة ذات الخُلُق الرفيع، وهي منَ المهاجرات الأوَل، ولمّا أرادتِ الهجرةَ إلى المدينة مع زوجِها أبي سلمة فرَّقَ قومُها بينها وبين زوجِها وطِفلِها، قالت: "فكُنتُ أخرج كلَّ غداة وأجلس بالأبطَح[4]، فما أزال أبكي حتى أمسِي سنةً كاملة أو قريبًا منها، حتى أشفَقوا عليَّ فأعادوا إليَّ طفلي".
يقينُها بالله راسِخ، توفِّيَ عنها زوجها أبو سلمة فقالت دعاءً نبويًّا، فعوَّضها الله برسول الله صلى الله عليه وسلم زوجًا لها، تقول: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "ما مِن مسلم تصيبُه مصيبةٌ فيقول: إنّا لله وإنا إليه راجعون اللّهمّ أجُرني في مصيبتي وأخلِف لي خيرًا منها إلا أخلَف الله له خيرًا منها". قالت: فلمّا مات أبو سلمة قلت: أيّ المسلمين خير من أبي سلمة أوّل بيت هاجر إلى رسول الله؟! ثمّ إني قلتها فأخلَف لي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم. وبعد أن أمضت مع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أياماً وشهوراً سألها عليه الصلاة والسلام إن كان الله قد عوّضها خيراً من أبي سلمة، فقالت: "بأبي أن وأمي يا رسول الله!". فاجعَل هذا الدعاءَ ذُخراً لك عندَ حلولِ المصاب يعوّضْك خيرًا من مصيبَتِك.
السيدة "زينب" بنت جحش رضي الله عنها (أم المساكين):
وهي ابنة عمّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، نَعِمت بالحسَب والنّسب والشرف والبَهاء، زوَّجَها الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم بنصِّ كتابِه، بلا وليٍّ ولا شاهد، قال عز وجل: []فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا[] الأحزاب (37). وكان زواجُه عليه الصلاة والسلام بها بركَةً على المسلِمات إلى قيامِ الساعة حين فُرِض الحجابُ على بناتِ حوّاء بعد أن تزوَّجها عليه الصلاة والسلام؛ ليكونَ الحجاب صِيانة للشّرَف والعفاف والنقاء والطهارة إلى يوم القيام.
سخِيَّة العطاءِ للفقراءِ والضّعفاء، كثيرةُ البرّ والصدقة، ومع شريف مكانتِها وعلوِّ شأنها كانت تعمَل بيدها؛ تدبَغ وتخرزُ وتتصدَّق من كسبِها، قالت عنها عائشة رضي الله عنها: "ما رأيتُ امرأة خيرًا في الدّين من زينب؛ أتقَى لله وأصدَق حديثًا وأوصَل للرّحم وأعظم صدقة".
السيدة "جويرية" بنت الحارث رضي الله عنها:
المرأة العابدة من بني المصطلِق، أبوها سيِّدٌ مطاع في قومه، وهي مبارَكَة في نفسها وعلى أهلها، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها في حقها: "ما رأيتُ امرأةً كانت أعظمَ بركةً على قومِها منها".
كثيرةُ التعبُّد لربِّها، قانتةٌ لمولاها، كانت تجلِس في مصلاَّهَا تذكرُ الله إلى نصفِ النّهار، تقول: "أتى عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم غُدوة وأنا أسبِّح، ثم انطلَقَ لحاجته، ثمّ رجع قريبًا من نصف النهار، فقال: "أما زِلتِ قاعدة؟" يعني: تذكرِينَ الله، قالت: نعم." رواه مسلم.
أيها الإخوة القراء!عندما نسمع هذه الأخبار عن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن سنعلم مدى قربهن من الله سبحانه وتعالى وبركتهن وحرصهن على الخير العميم، وذلك الفضل إنما كان منحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبركة على المسلمين أجمعين.
السيدة "صفيّة" بنت حيي رضي الله عنها:
المرأة الوجيهةُ مِن ذرّيّة هارونَ عليه السلام، كانت شريفةً، عاقلة، ذاتَ مكانةٍ ودين وحِلم ووقار، قال لها النبيصلى الله عليه وسلم يوماً: "إنك لابنةُ نبيّ[5]، وإنَّ عمَّك لنبيّ[6]، وإنّك لتحتَ نبيّ".رواه الترمذي.
كانت وليمةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم عليها في زواجِها السّمن والأقِط والتمر، فكان زواجًا ميسَّراً مباركاً. وقد لحق بها من أهلها الكثير ودخلوا في الإسلام بسبب زواجها من النبي صلى الله عيه وسلم.
السيدة "ميمونة" بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها:
واصِلة الرّحِم، من عظماءِ النساء، منحَها الله تعالى صفاءَ القلب ونقاء السريرة وملازمةَ العبادةِ. وصفتها السيدة عائشة رضي الله عنها: "أما إنَّها كانت من أتقانَا لله وأوصلِنا للرحم".
السيدة "عائشة" رضي الله عنها (الصِّدِّيقةُ ابنةُ الصِّدِّيق):
من النساء اللاتي اصطفاهن الله سبحانه بالتكرمة والتعظيم، الطاهرة المطهرة، والصديقة بنت الصديق، البريئة المبرّأة من فوق سبع سماوات، خير زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وأحبّهن إلى قلبه، أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبيبته، كم لها من الفضائل! فبأيها نبدأ؟! وكم لها من المنازل العظيمة! فكيف نصفها؟!
في بَيتِ الصّدقِ والتّقوَى ولِدَت عائشة بنتُ أبي بكر الصديق رضي الله عنها، ونشأت في بيتِ الإيمان، فأمُّها صحابية، وأختُها أسماء ذاتُ النطاقين صحابيّة، وأخوهَا عبد الله صحابيّ، ووالِدُها صِدّيق هذه الأمة وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ترَعرَعت في بيتِ عِلم، كان أبوها علاَّمةَ قريشِ ونَسَّابَتها، منحَها الله ذكاءً متدفِّقاً وحفظاً ثاقِباً، قال الإمام ابن كثيرٍ رحمه الله تعالى فيها: "لم يكن في الأمَمِ مثلُ عائشَةَ في حفظها وعلمِها وفصاحتِها وعَقلها، فاقَت نساءَ جِنسها في العِلم والحكمة، رُزِقَت في الفقه فهمًا وفي الشعر حِفظًا، وكانت لعلومِ الشّريعة وِعاءً". يقول الإمام الذهبي رحمه الله تعالى فيها: "أفقَهُ نساءِ الأمّة على الإطلاق، ولا أعلَمُ في أمّة محمد بل ولا في النّساء مطلَقًا امرأةً أعلَم منها".
لم يتزوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم بِكراً غيرَها، ولا نزَل الوحيُ في لحافِ امرأةٍ سواها، عَفيفةٌ في نفسها، عابِدة لربِّها، لا تخرُج من دارِها إلاّ ليلاً لئلا يراها الرّجال، تقول عن نفسِها: "كنّا لا نخرُج إلاّ ليلاً". محقّقةً قولَ الله تعالى:[]وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى[] الأحزاب (33). قال الإمام القرطبيّ رحمه الله تعالى: "والشريعةُ طافِحَة بلزوم النّساءِ بيوتَهنّ والانكفافِ عن الخروج منها إلا لضرورَة.. فإن مَسّت الحاجةُ إلى الخروجِ فَليكُن على تبذُّلٍ وتستّر تامّ".
أحبَّها النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان ليحبّ إلا طيّبًا، أليست هي التي يقول عنها: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام". متفق عليه.
سأل عمرو بن العاص رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ النّاس أحبّ إليك يا رسول الله؟ قال: "عائشة". قلت: فمن الرجال؟ قال: "أبوها". رواه البخاري.
كان خبر حب النبي صلى الله عليه وسلم لها أمراً مستفيضاً، حيث إن الناس كانوا يتحرون بهداياهم له عليه الصلاة والسلام يوم عائشة من بين نسائه تقربًا إلى مرضاته، فقد جاء في الحديث الصحيح: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، فاجتمع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة - وكانت رضي الله عنها فصيحة خطيبة - فقلن لها: إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، فقولي لرسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم يأمر الناس أن يهدوا له أينما كان، فذكرت أم سلمة له ذلك، فسكت عليه الصلاة والسلام ولم يردّ عليها، فعادت الثانية فلم يرد عليها، فلما كانت الثالثة قال: "يا أم سلمة! لا تؤذيني في عائشة، فإنه واللهِ ما نزل عليّ الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها". رواه البخاري.
لقد تبوأت أمّنا عائشة بنت الصديق رضي الله عنها مكانة عالية في قلب نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكانت أحب نسائه إليه، وكان بها لطيفًا رحيمًا على عادته صلوات ربي وسلامه عليه. مرةً استأذن سيدنا أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا عائشة ترفع صوتها عليه، فقال: "يا بنت فلانة! ترفعين صوتك على رسول الله!". فحال النبي بينه وبينها، ثم خرج أبو بكر، فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم يترضاها، ويقول: "ألم تريني حلتُ بين الرجل وبينك؟!". ثم استأذن أبو بكر مرة أخرى، فسمع تضاحكهما، فقال: "أشركاني في سِلمكما كما أشركتماني في حربكما".
وقال أبو قيس مولى عمرو: بعثني عبد الله إلى أم سلمة وقال: سَلْها: أكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقبّل وهو صائم؟ فإن قالت: لا، فقل: إن عائشة تخبر الناس أنه كان يقبلها وهو صائم، فقالت: لعله لم يكن يتمالك عنها حبًّا.
وكان صلى الله عليه وسلم يستأنس إليها في الحديث ويُسرُّ بقربها ويَعرِفُ رضاها من سخطِها، فقد قال عليه الصلاة والسلام لها: "إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت عليَّ غضبى". قالت: وكيف يا رسول الله؟! قال: "إذا كنت عني راضية قلت: لا ورب محمد، وإذا كنت عليَّ غضبى قلت: لا ورب إبراهيم". قالت: أجل، والله ما أهجر إلا اسمك.أخرجه أبو داود والنسائي من حديث يونس.
هذه هي عائشة الصدّيقة رضي الله عنها، المرأة المباركة التي كانت سبباً في تفريج كروب المسلمين، وبركة على الأمة الإسلامية، أعطاها ربنا سبحانه وتعالى ما لم يعطِ أحداً من نساء العالمين؛ إذ نزّل في حقها عشر آيات من القرآن الكريم تُتلى على مرّ الزمان. تقول رضي الله عنها: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء انقطع عقدي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء، فأتى الناسُ أبا بكر رضي الله عنه فقالوا: ما تدري ما صنعت عائشة؟! أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، قالت: فعاتبني أبو بكر فقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان النبي صلى الله عليه وسلم على فخذي، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم، فتيمموا. فقال أسيد بن حضير رضي الله عنه: ما هذا بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فوجدنا العقد تحته، فقال لها أبو بكر حين جاء من الله رخصة للمسلمين: والله الذي علمت يا بنيَّة أنك مباركة، ماذا جعل الله للمسلمين في حبسك إياهم من البركة واليسر".
فرضي الله عنها وأرضاها.
والله يبتلِي من يحِبّ، والابتلاء على قدرِ الإيمان، بُهِتَت رضي الله عنها وعُمرُها اثنَا عشرَ عامًا، قالت: "فبكَيتُ حتى لا أَكتحِل بنوم ولا يَرقأ لي دَمع، حتى ظنَّ أبواي أنّ البكاءَ فالِقٌ كبِدِي، واشتدَّ بها البلاء، قالت: حتى قلَصَ دمعي فلا أحسّ منه قطرة".
قال ابن كثير رحمه الله: "فغارَ الله لها، وأنزَل براءتها في عشرِ آيات تتلَى على الزمان، فسمَا ذكرُها وعلا شأنها؛ لتسمَعَ عَفافها وهي في صباها. فشَهِدَ الله لها بأنها من الطيّبات، ووعَدَها بمغفرةٍ ورزق كريم".
لم تزل ساهِرةً على نبيِّنا، تمرِّضُه وتقوم بخدمتِه، حتى توفِّيَ في بيتها وليلَتِها وبين سَحرِها ونحرِها.
هذه نبذة من سيرة الخالداتِ في الإسلام أمّهات المؤمنين، مَناقبهنّ مشرِقة، جمعنَ بين المحاسِنِ والفَضائل، حقيقٌ بنساءِ المسلمين أن يجعلنَهنّ نِبراسًا للحياة، يرتَشِفن من معينِ مآثرهن، ويقتدينَ بهن في الدين والخلق ومراقبَةِ الله والانقياد التام لله ورسوله وملازمةِ العبادة والإكثار من الطاعات والصّدق في الحديث وحفظ اللسان والبذل للفقراء وتفريجِ كرُبات الضعفاء والسعيِ لإصلاح الأبناء والصّبر على تقويمِ عوَجِهم والتحصُّن بالعلم وسؤالِ العلماء الراسخين وملازمة السّترِ والعفاف والقرارِ في البيوت والحِجاب والبعد عن الشبهات والشهوات والحذَرِ من طول الأمل والغفلة في الحياة أو الاعتِناء بالظاهِر مع فسادِ الباطن وإطلاق البصَر في المحرّمات والخضوع بالقول مع الرجال، وليَحذَرن من الأبواقِ الدّاعية إلى التبرّج والاختلاط بالرّجال، فشموخُ المرأة وعزُّها في دينِها وحِجابها.
اللهم! اجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
التعليقات:
0 |
|
|
مرات
القراءة:
20704 |
|
|
تاريخ
النشر: 01/02/2014 |
|
|
|
|
|
|