وقفات مع سورة يوسف (1)
بقلم : ليث عمر عمر
أ- (( الأسرة والمجتمع ))
أ ـ علاقة الآباء بالابناء :
سورة في كتاب الله تعالى فيها أحسن القصص ، تجد الثكلى فيها عزاءاً عن مصابها وتسلية ، ويقرأ المكروب في طياتها الفرج القريب ، ويتعلم المسلم من خلالها إن دعته الفتنة بمن يلوذ ويعتصم ؟ إنه حبل الله المتين .
إنها سورة يوسف - u - هذه السورة التي نزلت في شبه الجزيرة العربية بين شعاب مكة المكرمة وقد نقلت للعرب الأقراح ، هناك بعض قصص مصر عن ملوكها وأنبيائها ، مع الفارق بينهما في الزمن والمسافة والحضارة ، فكيف يتأتى لهذا النبي أن يأتي بتلك الأخبار الغيبية ولم يكن آنذاك علماء تاريخ ولا رواد أدب لولا وحي السماء ؟! وقد صدق الله القائل :﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [ سورة يوسف : 3 ] .
حقاً : إنها سورة تحوي في طياتها تعاليماً سامية ، تحمل في آياتها تعاليماً وآداباً تخص :
1"ـ الأسرة والمجتمع .
2" ـ المكروب وصاحب الحاجة .
3"ـ الدعوة إلى الله تعالى .
ولكننا ـ وللأسف اليوم ـ نمر بهذه الآيات مرور الكرام دون أن نأخذ من كل مشهد العبرة والموعظة ، وحاشا لله أن يكون مراده في إنزال هذه السورة مجرد سرد الأحداث ليس إلا - وهو أعلم بأسرار كتابه - ، فتعالوا بنا أيها الإخوة إلى هذه السورة المباركة لنأخذ منها مشهداً واحداً فيما يخص الأسرة والمجتمع كي نحيا الحياة الطيبة التي تسير على نهج القرآن والسنة النبوية . فإلى رحاب سورة يوسف جميعاً ، إذ يقول الحق سبحانه وتعالى حكاية عن إخوة يوسف : ﴿ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ 8 اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ﴾ [ سورة يوسف : 8 – 9 ] .
يصف لنا الله تعالى في هذه الآيات حال بيت من بيوت النبوة نزغ الشيطان فيما بينهم ، فتشتت أفراده ، وخيم عليه الحزن مدة من الزمن وما ذاك إلا لأن شيئاً واحداً قد فُقد ؟ إنه الحب ، ذلك البيت عندما كان أفراده ينعمون بالحب شُبهوا بالشمس والقمر والكواكب السيارة !، ولكن عندما فُقد الحب أُلقي بعض أفراده في غيابات الجب ، وآخر ابيضت عيناه من كثرة البكاء الذي سببه الحزن الشديد .
حقاً : إن الحب سر ائتلاف الكون مع بعضه البعض ، لنسأل أنفسنا : ما الذي يجعل الوحوش الضاريات في غاباتها تتآلف وتتعانق لولا الحب ؟ ، وأي قوة تلك التي تجذب النحلة إلى الزهرة لولا قوة الحب ؟ ولو أن شخصاً أوتي من القوة شيئاً عجيباً ، فإذا وقف بين يدي محبوبه فتراه يضعف ثم يضعف حتى يغدو كالميت بين يدي مُغسله ! .
يا تُرى : ما الذي جعله يحنو على معشوقه ؟ إنه سلطان الحب .
ولو أن آخر أتقن كل اللهجات وحفظ كل اللغات ثم وقف أمام من يهوى ، فتطير تلك اللهجات ، وينسى كل تلك اللغات ولا يفهم إلا بلغة واحدة : هي لغة الألحاظ الفاتنات لأنها لغة الحب !
ولكن كما أن للحب أسباباً متعددة ، كذلك لنقيضه أسباباً كثيرة ، ومن بين تلك الأسباب التي أصابت قلوب أبناء يعقوب ـ u ـ ومن ثم حقدوا على أخيهم وفكروا بالتخلص منه بأية طريقة كانت ، المهم أن يخلُ لهم وجه أبيهم كما زين لهم الشيطان ، إنه سبب يكثر في مجتمعاتنا اليوم ولكن قلّ من ينتبه إليه ، السبب هو : التفرقة بين الأبناء من قِبَل الآباء ، فإن الله ذكر لنا ذلك صريحاً عن أخوة يوسف إذ قال تعالى : ﴿ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ 8 اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ﴾ .
ورحم الله تعالى العلاَّمة محمد متولي الشعراوي إذ يفسر هذه الآية في كتابه : (( صوت الحق )) فيقول : ( لما رأى أخوة يوسف حب أبيهم له أكثر من حبه لهم ولَّد ذلك الحقد في قلوبهم ، وفكروا بالتخلص منه ، فيجب أن يتنبه الآباء والأمهات لذلك بأن لا يفضلوا ولداً على ولد فإن ذلك يزرع الحقد في قلوب الأبناء وينشب الخلاف بينهم كما هو الحال مع يعقوب وبنيه ) .
إذن : تفضيل بعض الأبناء على بعض في العطايا وعدم التساوي بينهم أحد الأسباب التي تدب الخلاف بين أفراد العائلة ، ومع ذلك تكثر هذه الظاهرة في مجتمعاتنا اليوم ، ويكثر خلالها الخلاف في الأسر ، ولربما البعض لا يتوقف عن حبه لأحد أبنائه دون غيره من أخوته وتفضيله عليهم ، ولكن لربما تعدى ذلك إلى حب أبناء ابنه المحبوب وزوجته ، ونار الحقد والضغينة تكوي قلوب أبنائه الآخرين ولا يلتفت لذلك ، ولو فهم المعنى المراد من هذه الآيات البيّنات لما وصل لهذه الحال .
وكأني بقائل يقول : نستطيع أن نسوّي بين الأبناء في كل شيء إلا في موضوع الحب ، فإنه من عمل القلوب ، ولربما لا نستطيع أن نساوي بينهم في ذلك فما الحل ؟
أقول : يجب عليك أولاً أن تحاول أن تجعل الكل في رتبة الحب سواء ، فإن تعذر فإياك أن يتعدى ذلك الحب الذي في قلبك لأحد أبنائك على جوارحك ، ابتداءاً باللسان إذ هو أقوى دليل على ما في القلوب ، ثم يزداد التعدي إلى أن تفضله على إخوته بالعطايا والهبات ؛ لأن ذلك يولد الحقد في قلوبهم عليه ، ومن ثم تحصل أمور لا تحمد عقباها كما هو الحال الذي نشهده اليوم ، فإن بعض الآباء يسلم أحد أبنائه كل ما يملك ويعطيه في ذلك ورقة بما تسمى اليوم (( توكيل عام )) وبقية إخوته مجرد عمال عند ليس إلا ، متذرعاً في ذلك بأن بقية أبنائه ليسوا أهلاً للمسؤولية ، فنقول لهذا الرجل : الواجب عليك أن تعلمهم وتدربهم على ذلك مرات عدة ، فإن وجدت بعضهم ليس أهلاً لذلك فما عليك من ملام بعدها في أنك لا تسلمه شيئاً من أعمالك .
ولما كانت المفاضلة بين الأبناء سبباً من أسباب تفريق الأسرة فقد تولى الله توزيع التركة بين الأبناء بالتساوي دون زيادة ولا نقصان دفعاً للشجار والضغينة ، ولربما يعترض عليَّ معترض بقوله تعالى : ﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ﴾ ، أليس إعطاء الأنثى نصف ميراث الرجل صورة من صور المفاضلة ؟
وأقول : لو فكرنا قليلاً في هذه الآية لوجدناها أعطت الأنثى مثل الرجل أو أكثر إذ أنها ـ أعني الأنثى ـ غير مسؤولة بالأصل عن إيجاد سكن ، ولا تجبر على دفع مهر ، ولا تفرض عليها نفقة ، وإنما تأخذ ذلك المال منة من الله تعالى وتكريماً ، ولو أعطاها مثل ما أعطى أخيها وهي غير مسؤولة عن شيء ، وأخوها مجبر على تلك الأشياء ومع ذلك تأخذ مثله لربما يولد الحقد ليس عليها فحسب بل لربما على الله تعالى ـ والعياذ بالله - .
وبعد : يتلخص مما ذكر في تفسير الآية الكريمة :
1- عدم تفضيل ولد على ولد ولا زوجة على زوجة فإن ذلك يزرع الحقد في القلوب .
2- عدم تسليم بعض الأولاد دون البعض قبل التجربة .
3- لا يعترض أحد على حكم الله تعالى ذكراً كان أم أنثى ، فالله هو المالك يتصرف في ملكه كما يشاء والظالم من يتصرف في ملك الغير دون رضاه .
والى لقاء آخر ـ إن شاء الله تعالى ـ مع سورة يوسف u .
والحمد لله رب العالمين
التعليقات:
1 |
 |
|
مرات
القراءة:
4007 |
 |
|
تاريخ
النشر: 12/01/2009 |
 |
|
|
|
|
|