فلنذهب إلى تلك الضفة
بقلم : ديمة محمد ديب هديب
بعد جهدٍ وتفكير عقدتُ العزم على هذا العمل .. قررت أخيراً أن أخطو هذه الخطوة الصعبة ؛ خطوةٌ محفوفةٌ بالأشواك ..
قررت أن أنتقل إلى تلك الضفة .. الضفة التي لانرغب أن نراها ولا نعمل على الوصول إليها مع أنها ضفة خيرٍ وعطاء ؛ لكننا نتعامى عن هذه الحقيقة كي لا نتعذب بمظاهر البؤس والشقاء في هذه الضفة ..
كان يجب عليَّ أن أعبرَ هذا النهر الطويل ، مع أني ما تعلمت السباحة فكيف أجتازه ؟! ومن يجذّف لي ؟! ومن يسامرني طوال الوقت ؟!
هكذا كانت همومي سطحيةً سخيفة فكنت أعللُ نفسي بأيَّ شيء حتى أتناسى أمرَ تلك الضفة وأتناسى أنه من المفترض أن أذهب إليها ..
ثم قررت أن أتخلى عن هذه الأفكار السوداوية وأن أنزلَ من برج راحتي وهدوئي وسكوني وحياتي العملية وأتجاوز كلَّ شيء ؛ سابحةً بخيالي وقلبي وعقلي وجسدي إلى تلك الضفة ، توكلت على الله وسرت في هذا الطريق حتى وصلت إلى الضفة الثانية ...
في البداية لم أجد أحداً فقد كانت بذور الخير لم تنبت وأشجار العطاء ما غطت أراضي الضفة بعد ؛ ثم بدأت تتضح الرؤية وبدأتُ أرى أناساً سبقوني منذ فترة بعيدة واستقروا في أماكنهم .. فسارعت الخطى ونزعت عني سحائب اليأس والإحباط وسُررت بحضورِ ولادة ذاك الطفل الصغير الذي طالما انتظرت قدومه على صفحات هذه الحياة لكني حضرت ولادة الأمل على صفحات الضفة المباركة ...
وهناك رأيت أناساً نذروا أنفسهم وأوقاتهم وأموالهم وجهودهم لإعمار هذه الضفة ..
هناك التقيت بمن كنت أسمع عنهم ولا أعرفهم وأعتقد أن منتهى طموحهم أن أدفع إليهم مالاً يسيراً ليشتروا به ملابس تسترهم وطعاماً يسد رمقهم ..
هناك عرفت ماذا يعني أن تكون وحيداً ؟!
هناك تعلمت ماذا يعني أن تكون لك أسرةٌ وبيت ومجتمع وأبوين ..
هناك أيقنت أنَّ من الناس من يبكي ولاتُمسح دموعه ومنهم من يجوع ولا يأكل ومنهم من يمرض ولا يُداوى ..
هناك رأيت نصيب العلم قليل ؛ وقليل جدا ، فالهموم طغت على جانب من أسمى جوانب الحياة ..
هناك وهناك فقط عرفت ماذا يعني اليتم .. وماذا يعني أن تتعرف على يتيم وتقضي معه بضع ساعات من أسعد وأشقى ساعات حياتك ؛ نعم .. هي من أسعد أشقى الساعات في نفس الوقت.. لا تسلني كيف ؟! فإنها كذلك وليس الخبر كالمشاهدة ..
في هذه الضفة تعرفت على أطفال صغار ؛ هم كأطفالنا لكنهم حرموا من الأب أو الأم أو كليهما فكان طريقهم إلى دور رعاية الأيتام والجمعيات الخيرية ؛ نعم .. هي دور رعاية أيتام وجمعيات خيرية لكنها مع عظيم فضلها فهي تهتم بالشؤون الإدارية والأمور الشخصية ومستلزمات الحياة الضرورية وهي أمور هامة لامحالة وبالتأكيد لاننكر الجهود الجبارة التي تقوم بها ولكنها يصعب عليها أن تقدم كلَّ شيء فالحياة تعاون وتكافل بين جميع أفراد العالم ، وهذا يقتضي أن يكون هناك من يساند ويقف وقفة صادقة مع هذه الدور وهذه الجمعيات ..
فمن لهؤلاء الأطفال بعد الله سبحانه وتعالى إلا بعض المحسنون و نحن ؟!!
انظر بعيون قلبك لهؤلاء الأطفال فهم يضحكون ويمرحون لكنهم عندما يبكون لاتدري كيف يمكن لك أن تزيل الهم عنهم والألم والشقاء ؛ كيف تساعدهم وفي أجسادهم قلوبٌ ملتهبةٌ كالجمر وفي عيونهم حرمانٌ لايمكن أن تنساه ..
هم كالأطفال في الشكل الخارجي لكنَّ لهم هموماً وأحزاناً في قلوبهم لا يعلمها إلا الله ..
من يمسح دموعهم .. ومن يسألهم عن دروسهم .. ومن يُحضِرُ لهم ثياب العيد وألعاب العيد أيضاً .. من يكافئهم إن نجحوا في دراستهم .. من يدلهم على أمور دينهم .. من يعلمهم الصلاة والحجاب والآداب والأخلاق .. من يُرَّبت على كتفهم إن آلمتهم الحياة يوماً من الأيام.. ومن .. ومن .. ومن ...
لا أعتقد أنهم يرغبون في الحضور معنا إلى بيوتنا ومقاسمتنا طعامنا ووجباتنا الفاخرة ولا يطمحون باللعب بألعاب أطفالنا المكدسة في الخزائن ولا الجلوس وراء شاشات التلفاز والحاسوب .. لا أظن ذلك أبداً ولا أعتقد أنَّ مظاهر الرفاهية هذه تغريهم فهي قشور سنتركها مع الأيام ..
لكنهم بالتاكيد يريدون يداً حانية تمتد إليهم ليس همها دفع المال فقط _ مع الحاجة الماسة لدفع المال لهم _ لكنهم يحلمون بهذه اليد الطيبة المباركة التي تُشِّع النور والخير في كل مكان ؛ تسأل عنهم وترعاهم وتهتم بشؤونهم وتكفلهم ؛ فعلاً هذا هو ما يريدوه وما يطمحون إليه ..
وقد قال حبيبي وقدوتي وشفيعي محمد صلى الله عليه وسلم وهو يدلنا على باب من أعظم أبواب الخير نرتقي به ونسمو فنصل إلى رفقته في الجنة فقال فداه نفسي فيما رواه البخاري : " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا " وقال بإصبعيه السبابة والوسطى ..
ونحن ندعو ونطمع ونسأل الله تعالى دوماً رفقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة فها هو يدلنا على النور الذي يضيء لنا هذا الطريق ..
فلنذهب إلى هذه الضفة ؛ ليست زيارة استطلاع أو حزن أو ألم ..
إنما زيارة أمل وهمة وعمل .. زيارة يسعد بها الأطفال .. زيارة تجعلك رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة .. زيارة دائمة مستمرة .. زيارة كما تزور أرحامك وأحبابك .. زيارة تجعلك تحبهم وتغدق عليهم عطفك وحنانك ؛ فهم يحتاجونك ويحتاجون قلباً دافئاً وحضناً آمناً يلتجئون إليه ..
فلنعبر إلى هذه الضفة .. ولنصنع من مبادئ ديننا وتعاليم إسلامنا جسراً ممتداً يقودنا دوماً إلى ضفة الخير والعطاء ؛ جسراً ثابتاً لا يزول مع تقادم الأيام ولا يبلى مع نسيان هذه الكلمات ..
فيها بنا نرحل إلى هذه الضفة التي تحمل لنا الخير ولأطفالنا السعادة ..
ولننطلق إلى ضفة كفالة ومساعدة الأيتام .. فهلاّ انطلقت معنا ؟!
التعليقات:
4 |
|
|
مرات
القراءة:
3692 |
|
|
تاريخ
النشر: 15/02/2009 |
|
|
|
|
|
|