أحمد ياسين.. الإنسان والقائد
بقلم : يمنى بنت عبد الله
بسم الله الرحمن الرحيم
قم عطّر الفجر بالإسرا وياسينا ورتّل الفتح والأنفال والتينا وعانق الفجر في شوقٍ وفي لهفٍ واكتب على الشفق الورديّ "يا سينا" واجعل مدادك من ماءِ القلوب وصغ حروف "ياسين" ريحاناً ويسمينا "أحمد ياسين" سميّ المصطفى شرفت به العروبة، واخضرت بوادينا شيخٌ قعيدٌ وفي الإيمان قوّته لم يعرف العجز والإذعان واللينا يحقق النصر من "كرسيّه" أبداً فأين منه "كراسٍ" حكمت فينا؟!

عملاق في زمن كثر فيه الأقزام، بطل اهتزت لذكائه وثباته وجهاده وشجاعته الدنيا. كان داعية بلا قدمين وقد غدا بالشهادة رسولاً بجناحين، ينشر ظله الدامي فوق هذه الأرض المنوّمة بالقهر، المغيّبة بالأسر، المنهوبة ثرواتها بالأمر. حمل همّ المسجد الأقصى وفلسطين في قلبه, فغدا رمز انتفاضتها وعنوان إبائها وثباتها ومرجعاً رئيساً للأمة العربية والإسلامية في صراعها مع العدو الصهيوني ورقماً صعباً لا يستهان به في هذه المعادلة. أحيا الله به هذه الأمة من بعد أن فقدت الثقة بنفسها فارتمت في أحضان القوى العظمى ترجو منها النجاة، فلم تجد منها إلا كل غدر وخديعة وانحياز إلى العدو الصهيوني. علّم الله به أن القوة ليست بالأجسام الضخمة، ولكن بقوة العقيدة، وارتفاع الروح المعنوية، والثقة بنصر الله تعالى، فكان آية في التحدي والثبات والشجاعة، بل أصبح كرسيه المتحرك رمزاً للكبرياء والأنفة والعزة والإباء. إنه الشيخ القعيد, الشيخ الجليل, شيخ الانتفاضتين، شيخ فلسطين, شيخ المجاهدين، شيخ الشهداء, بل أمير الشهداء, إنه أحمد ياسين.
سمعت السيدة سعدة عبد الله الهيبل في منامها حينما حملت به هاتفاً يقول لها: أنت حملتِ فإذا وضعتِ فسمِّ المولود أحمد. ويولد أحمد سعدة في قرية "الجورة" قضاء مدينة المجدل (على بعد 2. كم شمالي غزة) عام /1936/, وبعد ثلاث سنوات يُكتب عليه اليتم، لتتولى أمه الفاضلة تربيته وتنشئته النشأة الصالحة, ويلتحق بابتدائية "الجورة" وعندما يصل إلى الصف الخامس تمنعه النكبة /1948/ من إكمال دراسته، وتجبره على الهجرة مع أهله إلى غزة ليعيش حياة البؤس والشقاء، ويذوق مرارة الفقر والحرمان، ويترك الدراسة مدة من الزمن، ليعمل في أحد مطاعم غزة بائعاً للفول لمساعدة أسرته ببعض المال في ظروفها القاسية بعد الهجرة واللجوء، ثمّ يعود ليلتحق بمدرسة الإمام الشافعي ليكمل مشواره التعليمي الابتدائي والإعدادي, ويحصل على الثانوية من مدرسة فلسطين ليعمل بعدها مدرّساً للغة العربية والتربية الإسلامية بمدرسة الرمال الابتدائية. ثم يحصل على الثانوية العامة مرة أخرى لينتسب إلى جامعة عين شمس قسم اللغة الانكليزية. لقد كان محباً للعلم واسع الثقافة، يستثمر وقته في البحث والمطالعة، وكل ذلك ساعد على تكوين شخصيته التي بدت مبتسمة وواثقة دوماً. في السادسة عشرة من عمره تعرّض لحادث خطير أثناء ممارسته للرياضة مع زملائه على شاطئ البحر, مما كان سببًا في شلل جسمه و لم يخبر الشيخ أحمد ياسين أحداً و لا حتى أسرته، بأنه أصيب أثناء مصارعة أحد رفاقه (عبد الله الخطيب ) خوفاً من حدوث مشاكل عائلية بين أسرته و أسرة الخطيب، ولم يكشف عن ذلك إلا عام /1989/. لقد كان منذ صغره حريصاً على وحدة الصف الداخلي.
أحمد ياسين الإنسان:
أَبِـيُّ لا تُـزَعْـزِعُـهُ رِيَــاحٌ يُـزَلْـزِلُ فِي الْوَغَى وَهْوَ الْقَعِـيدُ
صَبُـورٌ لا تَـلِيـنُ لَـهُ قَـنَـاةٌ "شَـدِيـدُ الْبَـأْسِ جَـبَّـارٌ عَنِيدُ"
كان يسبق فجر يومه بقيام الليل, ثم يتبعه بالأوراد وتلاوة القرآن,كان يحب الخير ويكثر من مساعدة الفقراء والأيتام والأرامل والطلاب المحتاجين والمرضى، وكان سخيّاً كريماً في خدمتهم, عطوفاً كريماً، توفي وليس في بيته مال, صابراً؛ لم يتأفف من مرضٍ رافقه سنين طويلة, حمل هموم الوطن وهموم الشعب فإلى جانب اهتمامه بقيادة حركته والدفاع عن قضيته كانت له صولات وجولات في الجانب الاجتماعي أيضاً, فقد فتح باب بيته على مصراعيه لكافة طوائف المجتمع التي كانت تتوجه إليه لحل مشكلاتها بمن في ذلك المسيحيين..

وقد فرّغ جلّ وقته لمتابعة تلك المشكلات والعمل على حلّها ودّياً, دون لجوء أصحابها إلى المحاكم, من خلال لجان الإصلاح التي أسسها في الأراضي الفلسطينية واستطاع من خلالها حل الكثير من المشكلات التي ظلت عالقة لفترات طويلة في المحاكم؛ الأمر الذي جنّب الفلسطينيين إراقة الكثير من الدماء، وقد كان ذلك سبباً في حب شريحة كبيرة من المجتمع الفلسطيني له والالتفاف حوله لثقتهم به وبصدقه وإخلاصه، وعرفوا منه معاني العزة والكرامة لأنه ما اعتز يوماً إلا بالله وما وثق إلا بقوته ونصره. ويذكر أنه مرّة تدخل لحل خلاف وقع بين فريقين لكرة القدم لمسجدين في غزة حيث تصاعد الخلاف إلى الشجار.. فكان الشيخ القائد يسأل عن كل صغيرة وكبيرة وناقش الفريقين حول أسباب الخلاف لدرجة أظهرت علم الشيخ بقوانين كرة القدم، وفي نهاية الأمر توصل الشيخ إلى حل يرضي الطرفين يتناسب مع قوانين اللعب من جانب، وأخلاقيات المسلم من جانب آخر.

كان قلبه كبيراً يتسع لكل أبنائه من المواطنين حتى الأطفال الذين أحبوه، كان الشيخ يحتضنهم ويقبلهم بكل حنان، كان الأطفال ينتظرونه كل يوم عند خروج الشيخ لأداء الصلاة فيلتفون حوله ويذهبون برفقته إلى المسجد، هذا هو الإمام الراحل وهذه هي أخلاقه الإسلامية التي نقلها إلى أبناءه من شعبه الذي أحبهم وأحبوه والذين عاهدوا الله أن يسيروا على دربه بمواصلة المقاومة والجهاد في سبيل الله.
أحمد ياسين القائد:
ياسين هذا علّم الدنيا الفدا بالله هل كان المعلم مقعدا
ياسين أحمد للمكارم قائد أنعم بعنوان الفضيلة والفدا
ما كان إلا في القيادة قائدا أبدا وكان لكل عز مرشدا
شيخ انتفاضات البلاد زعيمنا عاش الحياة مجاهدا متجردا
((لدى هذا القائد عزيمة لا تعرف التردد، وإرادة لا تعرف النكوص أو التراجع، وإقدام لا يعرف الجبن والخور، وقوة لا تعرف العجز, كان رجل بأمة أو أمة في رجل)) هكذا وصفه رفيق زنزانته الشهيد الرنتيسي. كان صادقاً في معاملاته وعبادته, وصلاته الفجر في جماعة تشهد له بذلك كما تشهد بعجز الكثير من الأصحّاء.

كان بإمكانه أن يجد لنفسه عذراً في قوله تعالى: (ليس على المريض حرج) ولكنه أبى إلا أن يجعل حياته وجهاده درساً للكسالى, فالمرض لا يُقعد والشيخوخة لا تعوّق والبطولة ليست وهماً فارغاً، ولا جعجعةً وادعاءً، بل هي عزمٌ وتصميم، وامتلاءُ القلب بالصدق والإخلاص، وجهادٌ وصبرٌ حتى اليقين، إنها الهمة العالية التي سمت به إلى أعالي صروح المجد والمعرفة. وحلم أن يسمو معه أبناء دينه ووطنه, وسعى لتحقيق حلمه بإنشاء جيل عقائدي ينطلق من منهج تربوي صحيح يبدأ من الروضة مروراً بالمدرسة وانتهاءً بالجامعة, فكانت الروضة ثم مدرسة دار الأرقم للبنين, وثم للبنات. وقبل استشهاده رحمه الله خصص مبلغاً لإنشاء مدرسة ثانوية، وكان يقول كُلَّما سؤل عن ذلك: (حتى لا يضيع زرعي)، أي يجب أن يرعى هؤلاء الأطفال من مرحلة الروضة حتى ما بعد المرحلة الجامعية.
ياسين أرهبت الأعدا إعاقته ودوخت كل طاغوت وخوان لأنه عزةٌ مع همةٍ قرنت بالعزم مع غيرةٍ ثارت كبركان
لقد كان تخطيطه للمستقبل مثاراً للإعجاب والدهشة وبناء حركته من الصفر، ثم التخطيط للعمل المسلح الجهادي تشهد له بذلك. لقد امتلك عقلية فذة، وقدرة على التحليل واستنباط الأمور، يختار الوقت المناسب لتنفيذ خططه ومشاريعه, لا يتكلم الكلام إلا بعد تفهم واعي، فلا يندفع في الكلام اندفاعاً على الإطلاق، ولكنه يتأنّى حتى يصل إلى صلب الموضوع الذي يتحدث فيه، ويأتي حديثه مركزاً، صائباً تماماً. لقد كان فيه خصلتين يحبهما الله؛ الحلم والأناة, ولذا اتسع صدره، وامتدَّ حلمه، وعذر الناس من أنفسهم، وخاصة ممن اختلف معهم، وأساؤوا الأدب معه. إذا سُئل يجيب بعد تفكير بطريقة هادئة محببة للناس، تسيطر على العقول وتستحوذ على المشاعر والأحاسيس، لقد كان ذو هيبة مؤثرة قادرة على التأثير في الآخرين بل جعلته يحتل مكانة في قلوبهم لا ينافسه فيها أحد.
كان يملك قدرة عجيبة في رؤية هدفه الذي يسعى إلى تحقيقه، وكان بالتالي يتمكن بكل سهولة واقتدار من تحديد أهدافه دون لبس أو غموض. فقد نجح مع رفاقه في توجيه الصراع في جبهة واحدة، داخل أرض فلسطين، ومع العدو الصهيوني فقط، رغم ما قد مر به من مواقف مع السلطة الفلسطينية ما يعجز الحليم عن التصرف بحكمه، كل ذلك حتى لا تحدث مواجهة فلسطينية فلسطينية.

كان رحمه الله لديه - كقائد - قدرة خاصة أخرى ألا وهي القدرة النفسية والذهنية التي مكَّنته من تجاوز المشكلات التي كانت تصادفه أمام الضغوطات المتزامنة، سواء السياسية منها أو النفسية وخلافهما، ومن يملك قدرة نفسية وذهنية حاضرة إزاء المشكلات التي تواجهه، فإنه بالتالي يتمكن من حلها بالأسلوب الأمثل مستغلاً في ذلك قدرته على اتخاذ القرار الحاسم وخير مثال على ذلك قرار تجميد العمل العسكري زمن حكومة محمود عباس، وقد أشاد بذلك القرار الحاسم والجريء أبو مازن نفسه، ومعظم المحللين والخبراء السياسيين، وقد أذهل القرار اليهود أنفسهم. امتلك ذاكرة قوية جعلته ملماً إلماماً كبيراً بما يحيط به وقادراً على متابعة ما يصدره من أوامر وتعليمات، متابعة مثالية, وقد قال أحد مهندسي المقاومة الشعبية التابعة لحماس: ((إنّهم فوجئوا في إحدى المرّات بالشّيخ الشهيد الرمز يناقشهم في أدق تفاصيل عملهم في إطار الاستعدادات للتصدي لأي اجتياح. الأمر الذي أعطى للمسئولين حافزاً على المثابرة، والحماس في أداء المهام المنوطة بهم.))
عرف قدر نفسه، فتواضع لربه أشد التواضع، وعاش زاهداً في الدنيا، مع توفر أسبابها، ومما يدلّ على ذلك أنه عاش الشّيخ في بيت متواضع لا يقبل أن يسكنه أفقر الناس، وكان يرتدي الملابس البسيطة، ويتناول طعاماً دون المتوسط. (كان همه فقراء فلسطين وأراملهم ثم يفكر بنفسه فيما بعد)، فقد كان الشّيخ الياسين مثالاً يُحتذى به وقدوة يؤتسى في الإيثار، متأسِّياً في ذلك بخير قائد للبشرية (صلى الله عليه وسلم) الذي كان أبعد الناس عن الدنيا ومباهجها وزينتها الفانية، كما تأسى به في انتهاج منهج الشورى في الإدارة، فلا ينفرد في القرارات، رغم عظم مكانته وقوة تأثيره على الآخرين، مما ساعد على نجاح مشروعه وحبّ الجميع له، كان يُقدّر ويُشعر من حوله أنه يقود أيضاً.

لقد استوعب بحكمته السياسية وبعد نظره قوانين اللعبة التي حدد بنودها ذلك الكيان المحتل، فتعامل معها بكبرياء وحكمة أفقدتاهم ما بقي لهم من عقل، لقد كان صمّام الأمان الذي رفض تماماً أن يتحوّل نزاع الفلسطينيين مع المحتل الصهيوني لنزاع داخلي، خشية منه على الوحدة الوطنية وعلى الدم الفلسطيني؟ ورفض تحويل ساحة النزاع خارج الحدود الفلسطينية؟ كان بحكمته يعلم أنّ عدوه ذاك المحتل، وأنّ مصلحة القضية الفلسطينية تكمن في عدم فتح منافذ لصراعات دولية متعددة، لقد كان كما قالت فيه الباحثة أميمة أحمد الجلاهمة:
((رجلٌ تعدّت حكمته حدود جسده المتهالك لتصل به إلى مصاف عظماء هذا العصر.))
لقد كان الشّيخ الإمام أحمد ياسين مستجمعاً لكثير من الصفات القيادية، فليس الإمام -كما قد يتوهم بعض الناس ممن هم بعيدون عنه- هو الرجل الضعيف المشلول المقعد، وبالتالي عنده بلادة في الذهن وبلاهة في التصرف، كلا، بل هو الشديد في ذكائه، القوي في رأيه، الحازم في أمره، الواثق بربه، الذي يملك الشجاعة من غير تهور، وعنده بعد النظر في عواقب الأمور، كل ذلك جعله قادراً على القيام بالمهمّة المنوطة به من قيادة حركة دعوية جهادية.
فليشهَدُ التاريخُ أنَكَ شامَةٌ........للعزِّ في ساحِ الجهادِ وفرْقَدُ
يا شيخُ عُد، إنا إليكَ بحاجةٍ........يا شيخُ عُدْ، إنّا بمثلكَ نُحسَدُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
1 – شيخ المجاهدين الشهيد أحمد ياسين (صفحات من حياته ودعوته وجهاده):الدكتور صالح الرقب، الطبعة الأولى 1425هـ-2004م.
2 - ومضات من حياة الإمام الشهيد الشيخ أحمد ياسين: موقع المركز الفلسطيني للإعلام على شبكة المعلومات الدولية(www.Palestine-info.net/arabic).
3 - رجل بأمة أو أمة في رجل:الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، موقع المركز الفلسطيني للإعلام على شبكة المعلومات الدوليةwww.Palestine-info.info/arabic) ).
4 - رفقاء الشيخ ياسين في الأسر فلسطين- سامر خويرة 7/4/2004م،موقع إسلام على الطريق(www.islamonline.net/Arabic).
5– الصفات القيادية للشيخ ياسين: الدكتور صالح الرقب، الجامعة الإسلامية–غزة.
6 - فقه التغيير عند ياسين:علاء النادي،موقع إسلام أون لاين على الإنترنت 28/3/2004م .
7- فكر الشهادة والإمام أحمد ياسين: الدكتور إسماعيل رضوان.
8 - الشيخ أحمد ياسين حياته وجهاده: الدكتور عاطف عدوان.
9 – موقع صيد الفوائد على الانترنت.
10 – موقع المركز الفلسطيني للإعلام على الانترنت.
11– موقع الإسلام اليوم على الانترنت.
التعليقات:
0 |
 |
|
مرات
القراءة:
3597 |
 |
|
تاريخ
النشر: 21/04/2009 |
 |
|
|
|
|
|