::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مقالات المشرف

 

 

إن الله معــنا ...

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان "المشرف العام"  

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللّهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا، ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

        عنوان هذا الحديث: إنَّ اللهَ مَعَنَـا ‘‘مَعِيَّـةُ الله’’. كيف يعيش المؤمن بمعية الله سبحانه وتعالى؟ وما هي الأسباب التي توصله لكي يعيش في هذه المعية، ويشعر بطمأنينة القلب، ويعيش مرتاحاً آمناً مطمئنا؟؟؟

^ شعور المؤمن بمعية الله:

المؤمن يعيش حياته في رحاب الله متّصلاً به، يؤمن بأن الله تعالى معه حيثما كان، ويشعر بأنه يحفظه في كل الأوقات، لا يغفُل عنه ولا ينام. إن شعور المؤمن بمعية الله تعالى وصحبته يجعله في أنس دائم مع ربه، ونعيم متصل بقربه، يحس أبداً بالنور يغمر قلبه ولو كان في ظلام الليل، يملأ عليه حياته وإن كان في وحشة أو قسوة من الناس.

المؤمن الصادق يشعر بما شعر به سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام عندما قال لبني إسرائيل لما رأوا فرعون وجنده يلحقون بهم، قال لهم:[]...كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[] سورة الشعراء (62). ويشعر أيضاً بما شعر به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان في الغار حينما قال لصاحبه:[]وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ[] سورة الأنبياء (107).

^ معيّة الله لحبيبه وصِدِّيق حبيبه في الغار:

نقف أمام هذا النص الذي أورده الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم عندما كان يتحدث عن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار ثور حيث قال:[]إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ...[] سورة التوبة (40). فيا أهل مكة! ويا قريش! ويا أيها العرب! إذا لم تجتمعوا على نصرة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى نصره، وأيّده، ولم يتخلَّ عنه ولن يتخلى عنه أبدا.

أ- الشعور بمعية الله يوجب الحفاظ على المبدأ والثقة بالله:

حكى لنا ربنا سبحانه وتعالى قصة نصره وتأييده ورعايته لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقال:[]...إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا...[] سورة التوبة (40). لقد أخرجه أهل مكة بعد جهاد طويل معهم، وعروض مغرية، عرضوا عليه المال والنساء والجاه والسيادة عن طريق عمه أبي طالب، لكن النبي عليه الصلاة والسلام كان يُعلن عن ثبات موقفه ومبدئه فيقول: "والله يا عمّ! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظهِره الله أو أهلِكَ دونه".

هكذا تحدّث النبي عليه الصلاة والسلام عن مبدئه وعقيدته ويقينه بقلبٍ ثابت، ويقين راسخ لم يتزعزع ولم يتبدل ولم يتراجع إلى الوراء، رغم الضغوطات الكثيرة التي تعرّض لها كالحصار في الشِّعب، فقد حوصر ثلاث سنوات حتى أكل ورق الشجر هو وأصحابه، أوذي في جسده وأصحابه، ومع ذلك صبر وأحسن إلى أهله وقومه، فكان الناس يطلبون منه أن يدعو عليهم، لكنه كان يقول: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون". وكان يقول في موضع آخر: "بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا". متفق عليه.

فالنبي عليه الصلاة والسلام كان صاحب مبدأ ثبت عليه، وحافظ عليه وكان قلبه مطمئناً بالله سبحانه وتعالى، واثقاً ومحسناً الظن به. والله تعالى يقول كما ورد في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي، فليظنَّ بي ما شاء". صحيح ابن حبان. فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يعتقد أن الله سينصره ويؤيده ويمنعه ويدافع عنه في كل المواقف التي سيخوضها في المستقبل.

ب- الشعور بمعية الله يخلّص القلب من الخوف إلا من الله:

لقد أصاب سيدَنا أبا بكر رضي الله عنه شيء من الخوف والاضطراب لا على نفسه، إنما على الإسلام، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن حماية أبي بكر رضي الله عنه ودفاعه وتأييده للنبي عليه الصلاة والسلام إنما هي حماية للإسلام، ودفاع عن الشريعة، ودعم لهذا الدين العظيم الذي سخّر الله تعالى له جنوداً كثيرين، منهم من كان يعمل سراً بأمر من الله تعالى، ومنهم من كان يعمل جهراً كسيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي سخّر نفسه، وولده عبد الله، وابنتيه أسماء وعائشة، ومولاه عامر بن فهيرة ليكونوا جميعاً في خدمة الإسلام ورعاية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

في هذه الأثناء كانت قريش قد أعلنت عن الجائزة الكبرى لمن يأتي بمحمد عليه الصلاة والسلام وصاحبه أحياء أو ميتين، وهذه الجائزة كانت مئة ناقة من كرام نوق العرب، فطمع بها الطامعون، وسعى إليها الساعون، وأمر طبيعي أن يسعى الناس إلى جائزة، لكنهم لم يدركوا أن الله تعالى يحمي ذلك المطارَد الذي يلاحقونه، وأنه سيجعل معجزة عظيمة عندما يصلون إلى فم الغار. وصلوا فعلاً إلى أسفل الجبل حيث قال متتبِّع الأثر: إلى هنا انقطع الأثر. فصعدوا الجبل لعلهم يجدونهما هناك، فلما أن وصلوا إلى فم الغار وبدؤوا يبحثون في قمة الجبل اضطرب قلب أبي بكر رضي الله عنه، وخشي أن يظفر أولئك القوم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى أسفل قدميه لرآنا. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "يا أبا بكر! ما ظنُّك باثنين اللهُ ثالثهما؟!". صحيح مسلم. ثم أنزل الله سبحانه وتعالى على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم ما يؤكد هذا المعنى:[]...إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا...[] سورة التوبة (40).

من كان مع الله فلا يبالي بأحد في الدنيا كلها. كن مع الله ولا تبالِ. ماذا وجد من فقد الله؟ وماذا فقد من وجده؟! لقد خاب وخسر من رضي بغير الله بدلاً! أولئك الذين يظنون أن قدراتهم الذهنية، وإمكاناتهم البدنية، وممتلكاتهم المادية ستحميهم من دون الله، وستكون لهم حصناً منيعاً عن عقاب الله تعالى إن هم أخطؤوا أو أساؤوا أو قصّروا أو فرّطوا في حق الله. خاب سعيهم ولم يَصدُق ظنهم أنهم الأقوياء والقادرون على حماية أنفسهم؛ لأن الله تعالى هو وحده القادر على حمايتنا وحفظنا من أي سوء يمكن أن نقع به.

^ ملمح لا بد من الإشارة إليه:

النبي عليه الصلاة والسلام يقول لصاحبه وهنا ملمح لطيف هو الصاحب، الصديق الصدوق الذي يَصدُقُ صاحبه، وليس الذي يُصَدِّقه؛ فقد يصدِّقك إنسان لمصلحة، وقد يصدقك لغاية، فإذا زالت تلك المصلحة وحقق تلك الغاية فإنه يعود لكي يكذّبك من جديد. أما الصديق الصادق الصدوق هو الذي يكون صادقاً مع صديقه، إن رأى منه خطأ ستره، وإن رأى منه حسناً نشره، وإن رأى عليه زلّة ذكّره ولم يتركه يغرق في تلك الزلة أو الخطيئة التي وقع بها...

إنَّ أخاكَ الحـقَّ مَنْ كانَ مَعـكْ       ومَنْ يَضُـرُّ نَفْسَـهُ لِيَنْفَـعَـكْ

وَمَنْ إذا رَيْبُ  الزَّمَانِ صَـدَّعَكْ       فَتَّتَ فِيْـكَ شَمْـلَهُ لِيَجْمَعَـكْبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!".

 

إن أول كلمة عبّر فيها القرآن الكريم عن أبي بكر رضي الله عنه هي "الصّاحب" الصديق الوفي، المُحب، الأمين، الراضي، الصدوق، المخلص، المعطاء... الصاحب هو الذي يعين صاحبه على طاعة الله ومحبته وليس العكس، هناك بعض الأصدقاء يشتّتون حياة أصدقائهم ويبعدونهم عن طريق الصواب، يأخذونهم إلى طريق الرّدى، ويضلّونهم بعد هدى، وهؤلاء حذّر منهم بعض الحكماء بقولهم: "الصاحب ساحب". فهو يسحب صديقه إلى حيث هو؛ فإن كان من أهل الضلال والغواية والفساد فإنه يسحب صديقه إلى الطرق الملتوية والأبواب المتعرجة التي لا ترضي الله سبحانه وتعالى. أما الصديق الصالح الذي يدل صاحبه على الله فذاك هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله عندما شبه الصديق والصاحب حسن السيرة والسلوك: "كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إما أن يُحذِيَك وإما أن تجد منه رائحة طيبة، وأما نافخ الكير فإما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد رائحة خبيثة". متفق عليه. هذا خير تشبيه لكل من الصديق الصالح والصديق الفاسد، أما الأول فيدلك على الله، ويأخذ بيدك نحو طرق الخير، وأما الثاني فيبتعد بالإنسان عن طريق الهداية ويمشي به في طريق الغواية. فأين أولئك الأصحاب والأصدقاء الذين يخلصون في صحبتهم كما أخلص سيدنا أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟

لا شك أنه درسٌ عظيم، وفائدة كبيرة نستفيدها من قول الله سبحانه وتعالى:[]...إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ...[] سورة التوبة (40). هذا معنى جميل ورائع يبرز العلاقة الإنسانية بأبهى صورها بين الصديق وصديقه، وبين الأخ وأخيه، خاصة إذا كان يجمعهما حب الله وحب رسوله، فقلبان اجتمعا على حب الله تعالى هما في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله، كما ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ورجلان تحابّا في الله، اجتمعا عليه، وتفرّقا عليه". متفق عليه. أولئك هم الأخلاء الأصدقاء، والمتحابون في الله الذين ارتقوا منزلة بارزة عالية متميزة عن سائر الخلق حين قال فيهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء". سنن الترمذي.

سيدنا أبو بكر رضي الله عنه كانت له منزلة متميزة في قلب النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان يدافع عنه، ويحرص عليه أشد من حرصه على نفسه، لذلك كان سيدنا عمر رضي الله عنه إذا ذُكر أبو بكر يقول: "ما سابقتُ أبا بكر على خير إلا سبقني. والله لَيومٌ من أيام أبي بكر خيرٌ من حياة عمر كلها". هكذا يبيّن الصاحب فضل صاحبه، فقد كان أبو بكر وعمر هما الشيخان اللذان يلوذان برسول الله صلى الله عليه وسلم على الدوام، وكانا سنداً قوياً له في كل شؤونه. سيدنا علي رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه عرف قيمة أبي بكر رضي الله عنه، لذلك كان عندما يلتقي مع أبي بكر لا يسلم عليه، فإذا سُئل عن ذلك يقول: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "وخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام" وأبو بكر خير مني". والسلف الصالح عبر السنين كلهم يرون أن سيدنا أبا بكر إنما هو خيرٌ من مؤمن آل فرعون الذي تحدّث عنه القرآن؛ وذلك بسبب صحبته لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصداقته المتميزة التي لم يفارقه فيها يوماً من ليل أو نهار.

^ معية الله تعالى تشمل كل مؤمن:

إن معية الله ليست خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه، بل إنها عطاء من الله تعالى لمن يستحق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو دائماً في معية الله، في يقظته، ونومه، وكلامه، وصمته، وعبادته، وعمله وحياته الخاصة والعامة، لذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام موصوفاً من قِبل الله تعالى بأنه لا ينطق عن الهوى وذلك في قوله:[]وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى[] سورة النجم (3). فكيف ينطق عن الهوى وهو في رعاية دائمة من الله؟! والله تعالى يكلؤه ويرعاه في الليل والنهار، وقد زاده الله تعالى على ذلك بوصفه بالخُلًُق العظيم وذلك في قوله:[]وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ[] سورة القلم (4). فمن كان خلقه عظيماً وكان في رعاية الله سبحانه وتعالى فهو في معية الله على الدوام، فمعية الله عطاء منه تعالى يخص به عباده ويشمل الباقي إذا تعرّضوا هم لهذه المعية، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان مخصوصاً بهذه المعية، وأما سائر الخلق فإن هم تعرضوا لمعية الله وفعلوا الأسباب الموجبة ليكونوا في معية الله كان الله معهم وكانوا بمعيته، وشيء عظيم أن يكون الإنسان بمعية الله، فإن كنا نعيش بمعية الله نعلم أن الله تعالى قد حفظنا، ورعانا، وكَلَأنا بعينه ورعايته، فهو يشرف علينا إشرافاً كاملاً.

^ شروط بلوغ معية الله تعالى:

حتى نبلغ معية الله تعالى لا بد من شروط:

أ- التقوى:

يقول تعالى:[]إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ....[] سورة النحل (128).

لا بد أن يكون الإنسان تقياً، وتقوى الله: هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل. وهي أن يفقدك الله حيث نهاك، وأن يجدك حيث أمرك. وهي ألا يكون الله سبحانه أهون الناظرين إلينا؛ فنفعلَ ما نشاء، ونرتكب ما نريد، ولا نعتقد بأن الله تعالى مطّلع على أحوالنا ويرى فِعالنا.

ب- الصبر:

يقول الله تعالى:[]...إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[] سورة البقرة (153).

الإنسان مبتلى في حياته؛ فيمكن أن يُبتلى في نفسه، أو ماله أو أولاده، فما عليه إلا أن يصبر، وقد يكون الامتحان والابتلاء تمحيصاً لإيمان المؤمن، وقد يكون ترقية لدرجاته، وقد يكون تكفيراً لذنوبه وسيئاته، فإن صبر المؤمن على ما ابتُلي به وامتُحِن فإنه يهيِّئ نفسه للعيش بمعية الله سبحانه وتعالى.

جـ- الإحسان:

يقول تعالى:[]...وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[] سورة العنكبوت (69).

فعلينا أن نكون من المحسنين؛ خُلُقاً وسلوكاً، عبادة وعملاً، مادةً ومعنى. ويجب أن يظهر أثر هذا الإحسان على سلوكنا في معاملاتنا مع جميع الخلائق.

إن معيّة الله لهؤلاء الأصناف قد تكررت في القرآن الكريم في عدة مواضع، وهذا يؤكد أن تقوى القلب والصبر هما شأن من شؤون الروح التي تطمئن لله سبحانه وتعالى، وأن الإحسان هو تقديم عمل خير للناس.

^ أنواع معية الله سبحانه وتعالى:

أ- المعية العامة:

إن معية الله تعالى يمكن أن تكون عامة، شاملة لجميع الخلق مؤمنِهم وكافرِهم، وهي تعني أن يكون الله مع خلقه بعلمه ومشيئته، وإحاطته ونفوذ أمره، وقدرته وقهره، لا يغيب عنه شيء ولا يُعجِزه شيء, هذا المعنى الشمولي للمعية يمكن أن يدرك كلَّ إنسان على وجه الأرض ممن خلقه الله سبحانه وتعالى. وهذا ما يدل عليه قول الله سبحانه وتعالى:[]أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[] سورة المجادلة (7).

إذاً فالله سبحانه وتعالى معنا جميعاً لكن ليس بكيف، ولا بشيء تنحصر فيه ذاته تعالى، إنما هو معنا بعلمه، ومشيئته، وأمره وإحاطته بكل صغيرة وكبيرة من أمور حياتنا. هذه تسمى المعية الشاملة.

ب- المعية الخاصة:

أما المعية الخاصة فهي من نصيب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعض الأنبياء، والأولياء، والصالحين. وتكون هذه المعية بالنصر، والتأييد، والتوفيق، والمحبة، والإلهام. فالله تعالى ينصر أنبياءه، ويؤيد رسله، ويوفقهم لما فيه الخير، ويُلهمهم أن يعملوا ما فيه الصلاح لهذه الأمم كلها. الله سبحانه وتعالى أشار في القرآن الكريم إلى هذه الخصوصية في قوله:[]...لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا...[] سورة التوبة (40). فالمراد بالمعية هنا معية الحفظ والنصر والعصمة. والله سبحانه وتعالى قال في مطلع هذه الآية:[]إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ...[] سورة التوبة (40). هو ليس بحاجة إلى نصركم أو دعمكم أو معونتكم، فالله هو الذي أيّده ونصره وحفظه، بل عصمه من أن يقع في يد أعدائه وأن يحققوا بذلك رغبتهم التي سعَوا من أجلها.

هذه المعية (المعية الخاصة) هي ما ينبغي أن يحرص عليه المسلمون جميعاً؛ ليبلغوا هذه الدرجة، ويشعروا بنعمة العيش بمعية الله تعالى.

^ معيّة الله لسيدنا موسى في البحر:

سيدنا موسى عليه السلام كان يؤمن إيماناً جازماً بحتمية النصر من الله سبحانه وتعالى له؛ لأنه وفّى ما استحق عليه من قبل الله تعالى، ووفى ما استحقته المعية عليه كالصبر والإحسان والتقوى. وقد وصف الله سبحانه وتعالى لنا مشهد معيته لسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام فقال:[]فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) سورة الشعراء قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)[] سورة الشعراء. فقد تراءى جمع الإيمان بقيادة سيدنا موسى عليه السلام، وجمع الكفر بقيادة فرعون ومعه زبانيته وأعوانه، وعندما بدأ أصحاب اليقين المتشكِّك يحاولون إضعاف موقف سيدنا موسى عليه السلام وينصحونه ألا يقع في صراع مع فرعون قالوا له:[]...إِنَّا لَمُدْرَكُونَ[] سورة الشعراء (61). فكان كلام سيدنا موسى عليه السلام كأنه كلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار؛ فيه ثقة، وثبات، ويقين، وإيمان راسخ وعقيدة ثابتة، فهو يستخدم أسلوب الإضراب والزجر "كلاّ" عندما قال:[]كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[] سورة الشعراء (62). فلو تأملنا حق التأمل في هذه الآية لوجدنا أن سيدنا موسى عليه السلام لم يقبل هذا النقاش من أصحابه؛ لأنه كان مدركاً لحتمية النصر من ربه سبحانه وتعالى، وأن نصره من قِبل الله تعالى حقيقة لا مراء ولا جدال فيها. فسيدنا موسى عبّر في تلك اللحظة عن قوة إيمانه بالله، وشدة ثقته به سبحانه. وهذا ما جاء عملياً في قوله سبحانه وتعالى:[]فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ[] سورة الشعراء (63). لقد ضرب سيدُنا موسى عليه السلام البحرَ بعصاه بأمر من الله تعالى، فانفصل البحر قسمين، ومشى سيدنا موسى حتى وصل إلى الشاطئ، وأغرق الله فرعون وجنوده، ولا تزال جثة فرعون - التي تُعرف اليوم بالمومياء - شاهدةً إلى عصرنا هذا على قدرة الله وحفظه ورعايته لسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام. وقد عبّر الله تعالى عن ذلك بقوله:[]وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (67)[] سورة الشعراء.

إن نصر الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين قانون عام يصلح لجميع البشر، لا يمكن أن يتعدّى إلى غيره؛ لأن الله تعالى إذا وعد أنبياءه وأولياءه بالنصر والتمكين والثبات فلن يُخْلِف الله وعده، وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن ذلك في مواضع كثيرة منها قوله:[]إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ[] سورة الأنفال (12).

^ جنود الله لعباده .. أحد أشكال المعية الخاصة:

عندما نصر الله سبحانه وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام وهو في غار ثور أيّده بجنود وقد قال:[]...وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا[] سورة التوبة (40). كلمة جنود هنا نكرة، والنكرة تفيد التعميم، ومعنى ذلك أن الجنود الربانيين يتعددون كثيراً ويتنوعون.

أ- الملائكة:

فمن جند الله تعالى الملائكة الذين أرسلهم تأييداً لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر الكبرى وفي غزوة حُنين، فقد كانوا يقاتلون معه عليه الصلاة والسلام ومع أصحابه، حتى أنه عليه الصلاة والسلام وصف لأصحابه سيدَنا جبريل بأنه يقاتل على النقع (الغبار المتصاعد في أرض المعركة) وعليه عمامة سوداء.

ب- الرعب:

حيث يقذفه الله تعالى في قلوب الأعداء، فإذا تزلزلت قلوبهم وخافت فإنهم يضعفون ويجبنون أمام لقاء المؤمنين.

والنبي عليه الصلاة والسلام عندما تحدث عن بعض الخصائص التي خصّه الله بها عن سائر الأنبياء يقول: "نُصِرتُ بالرعب". متفق عليه. فالرعب كان أحد الجنود الأقوياء الأشدّاء الذين دعم بهم اللهُ سبحانه وتعالى رسولَنا محمداً صلى الله عليه وسلم.

جـ- الرياح:

ومن جملة الجند الرياح العاتية التي زلزل الله تعالى بها خيام الأحزاب من المشركين في غزوة الخندق، فجاءت الريح قوية خلعت خيامهم، وألقت قدورهم، فما كان منهم إلا أن انصرفوا خاسرين ذاهلين مما أصابهم من الرياح الشديدة.

ء- نسيج العنكبوت:

وخيط العنكبوت خيط متواضع وضعيف، يتمزّق بسرعة، فلو أن ريحاً خفيفة هبّت على فم الغار لاقتلعت هذه الخيوط من على فم الغار، لكن الله تعالى حماه بخيط ضعيف، فأظهره قوياً متماسكاً على فم الغار، وكان - من حيث الظاهر - من الأسباب التي جُعل فيها النصر والتأييد لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكما يقول كثير من الناس: "إن الله تعالى كما حفظ موسى بالتابوت، وحمى يونس في بطن الحوت حفظ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيط العنكبوت".

 معية الله سبحانه وتعالى يمكن أن ندركها جيداً من خلال هذه المواقف وهذه الشواهد التي استعرضناها من خلال حياة سيدنا موسى عليه السلام وحياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وخاصة عندما كان في الغار مع سيدنا أبي بكر وقال له:[]...لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا...[] سورة التوبة (40).

^ معية الله للسيدة هاجر وولدها إسماعيل في وادٍ غيرِ ذي زرع:

ولا يفوتنا ونحن نتحدث عن حسن الظن بالله واليقين به ومعيته أن نذكر السيدة هاجر أم سيدنا إسماعيل عليه السلام، والتي كانت بموقفها من أعظم من عاش بمعية الله سبحانه وتعالى، فعندما أمر الله تعالى سيدنا إبراهيم أن يأخذ هاجر وولدها إسماعيل إلى جوار بيت الله حيث لا زرع، ولا ماء، ولا نبات، ولا إنسان ليتركهم، ثم يعود إلى مهمته، ووضع الأمتعة التي كان يحملها لهاجر وإسماعيل ثم مشى، نادته السيدة هاجر: يا إبراهيم! فلم يردّ عليها ولم يلتفت. فقالت له: آالله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لن يضيَّعنا.

هذه الثقة وهذا القلب المطمئنّ بالله تعالى هو الذي جعل السيدة هاجر تحيا وتعيش بمعية الله، فكانت خير معيشة، وكان خيرَ زمن أقامت فيه تلك المرأة الصالحة مع مولودها الصغير، وهيأ الله تعالى لهما حياة صالحة فيها الخير والنماء والعطاء، وأرشد إليها الخلق ليعيشوا في جوارها، ثم عَمَرَ الله ذلك المكان عند خير بقعة في الأرض (الكعبة المشرَّفة). ولأن نعيش بمعية الله خير من أن نعيش بمعية أي مخلوق على وجه الأرض.

^ دعاء:

نسأل الله أن يُسكِن قلوبَنا محبَّتَه ومعيّته، وأن نحيا ونعيش بمعيّته وحفظه ورعايته. اللهم اكلأنا بعينك التي لا تنام، واحرسنا في كل أوقاتنا وأيامنا، ويقظتنا ومنامنا، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 

 

 

 

 

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 9798

 تاريخ النشر: 06/03/2010

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 211

: - عدد زوار اليوم

7460265

: - عدد الزوار الكلي
[ 46 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan