::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> محاضرات وندوات

 

 

مقدّمات هجرة النبي عليه الصلاة والسلام

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان (المشرف العام)  

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الحمد لله رب العالمين حمدَ الشاكرين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آل بيته الطاهرين، وأصحابه الغرّ الميامين وسلم تسليماً كثيرا. اللهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين. واجعل ما نقوله حجة لنا، ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

^ سبب اتّخاذ المسلمين هجرة النبي عليه الصلاة والسلام تاريخاً لهم:

        ذكرى الهجرة ذكرى مباركة، وفيها نستذكر تاريخ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنوّرة، هذه الهجرة التي أصبحت تاريخاً للمسلمين، والسبب في ذلك أن سيدنا أبا موسى الأشعري كانت تأتيه كتب من سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلا تاريخ، فكتب له: "يا أمير المؤمنين! إن كتباً من طرفك تأتينا بغير تاريخ، أفلا أرّخت لنا". فجمع سيدنا عمر رضي الله عنه أصحابَ الرأي والمشورة وقال لهم: "أشيروا علي". فأشار بعضهم بأن يبدأ التاريخ بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وأشار البعض الآخر أن يكون التاريخ من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. فاختار سيدنا عمر الرأيَ الثاني وقال: "كانت الهجرةُ فُرقاناً بين الحق والباطل". لذلك أرّخ المسلمون لهجرة النبي عليه الصلاة والسلام.

^ سبب الهجرة ليس الفرار بالنفس، إنما إنقاذ الدين:

        للهجرة معانٍ كثيرة، لا تزال هذه الأحداث التي وردت في كتب السير والتراجم يُستَفاد منها الدروس والعِبر، ويُؤخذ منها العِظات والمواقف البطولية، ومواقف التخطيط، والإدارة، والتنظيم لواقع المسلمين وحياتهم ومستقبلهم.

        فالهجرة أولاً لم تكن فِراراً بالنفس كما يتخيّل كثير من الناس، أو كما يَزْعُم بعض المغرضين والمشكّكين من أعداء الإسلام الذين قالوا: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فرَّ من مكة بنفسه. هذا كلام مٌغرِض لا صحّةَ له على الإطلاق، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت وقاوم وتحمّل الشدائد والمشقّات التي تعرّض لها طوال إقامته في مكة المكرمة.

^ مظاهر إيذائه عليه الصلاة والسلام قبل الهجرة:

أوذي صلى الله عليه وسلم في نفسه فصبر، وأوذي في أصحابه فصبر، ومُنِع من الجهر بالدعوة الإسلامية فصبر، وما كان منه إلا أن فكّر بالخروج من مكة المكرمة؛ ليوسّع إطار الدّعوة الإسلامية وأفقها، ويجعلها أوسع مما كانت فيه.

        أ- في الطائف:

        خرج صلى الله عليه وسلم بعد سلسلة من مراحل الإيذاء إلى الطائف قاصداً نصرةَ قومها وأهلها، لكنّه عليه الصلاة والسلام واجهَ في ثقيف والطائف أشد ما كان يواجهه في مكة، أوذي ورُمِي بالحجارة، سالت الدماء من عقبيه الطاهرتين، فما كان منه إلا أن التجأ إلى الله سبحانه وتعالى في لحظة مناجاة وصدق قائلاً: "اللهم! إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. اللهم! أنت ربي ورب المستضعفين، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهّمني؟ أم إلى قريب ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة. لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك يا أرحم الراحمين!". السيرة النبوية.

        دعاءُ مناجاة، دعاءٌ فيه إظهار الافتقار والانكسار والتّبتّل والتّذلل إلى الله سبحانه وتعالى، وإظهار العجز والفقر والضعف بين يدي الله سبحانه وتعالى هو أقرب الأبواب إلى الله على الإطلاق، فكما فُتِحت أبواب السماء لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن دعاء بهذه الدعوات، فإن كل مسلم يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى بهذا الأسلوب فإن أبواب السماء تُفتَح له ولا شك. وهذا أول الدروس التي نستفيدها من الأحداث التي سبقت الهجرة من مكة إلى المدينة، وهي أن المؤمن عليه أن يظل على الدوام في حالة اتصال دائم مع الله سبحانه وتعالى، فإذا أصابك ضيق، أو حَزَبَك أمر، أو دَهَمَك شيء، أو استعصت عليك حاجة، أو أردت أن تطلب من الله سبحانه وتعالى أمراً ما، فما عليك إلا أن تفزع إلى الله، فتركع ركعتين، وتسجد سجدتين، وتذرف دمعتين بين يدي الله سبحانه وتعالى وتقول له: "يا رب! إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي".

        مَلَكُ الجبال نزل بأمر من الله سبحانه وتعالى إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "يا محمد! إن شئتَ أطبقْتُ عليهم الأخشبَين[1]". فيُستأصلوا عن الأرض. لكن عادة الاستئصال أيها الإخوة لم تكن مما يختص بهذه الأمة، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم رفض فكرة الاستئصال، وأراد أن ينظر إلى ما هو أعمق من ذلك بكثير، فقال: "يا رب! بل أرجو أن يُخْرِج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا". متفق عليهعفا عنهم عليه الصلاة والسلام، وكان يخطط للمستقبل، ويفكر أن يَخرُجَ من أصلاب هؤلاء الرجال الذين آذوه - عليه الصلاة والسلام - أبطالٌ وقادة ومن ينصر الدين، وهذا ما حصل فعلاً؛ حيث خرج خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأمثالهم من القادة والفاتحين ممن كان آباؤهم وأجدادهم يُناصِبون العِداء لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

        ب- في غزوة أحد:

        هذا الموقف هو شأنه عليه الصلاة والسلام، ليس في هذه الحادثة فقط، إنما في حوادث متعددة. على سبيل المثال: في غزوة أحد حُفِرت للنبي صلى الله عليه وسلم حفرة، ووُضِع عليها شيء من القش حتى لا يراها المسلمون، وبالفعل سقط فيها عليه الصلاة والسلام وبعض أصحابه، وشُجَّ وجهه الشريف، وكُسِرت رباعيّته[2]، وسال الدم منه، فما كان من أصحابه عليه الصلاة والسلام إلا أن قالوا: "يا رسول الله! ألا تدعو الله عليهم؟". فقال عليه الصلاة والسلام: "إني لم أُبعث لعّاناً". "إنما أنا رحمةٌ مُهداة". مجمع الزوائد. لم يُبعَث ليدعو على قومه كما دعا الأنبياء السابقون على أقوامهم. فقد قال: "اللهم! اهدِ قومي؛ فإنهم لا يعلمون". شرح سنن ابن ماجة.

        هكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يعامل قومه وأهله برفق وحلم وسعة صدر، وهذا من أعظم الدروس التي نستفيدها مما سبق الهجرة إلى المدينة المنورة.

^ إذنُ النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم بالهجرة:

        أيها الإخوة! النبي صلى الله عليه وسلم كان في رحلة عذاب، في طريق مليء بالأشواك. من يتخيّل أن طريق البعثة كان محفوفاً بالورود والرياحين فهو مخطئ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام عانى الكثير، وصبر كثيراً، ولاقى كل أنواع الشدائد هو وأصحابه رضي الله عنهم، لذلك بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يأذن لأصحابه بالهجرة، وكانت أول تباشير الفرج أن يأذن عليه الصلاة والسلام لأصحابه أن يهاجروا إلى الحبشة، فهاجر بعضهم إلى الحبشة، وهاجر البعض الآخر إلى المدينة المنورة التي كانت تسمّى فيما مضى "يثرب".

        لقد أذن عليه الصلاة والسلام لأصحابه بالهجرة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يعمل وفق نظام تخطيط عجيب. كان عليه الصلاة والسلام يفكّر بأرض بديلة عن مكة، أين يذهب هو وأصحابه رضي الله عنهم إذا خرجوا منها؟ هل يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تظل الدعوة الإسلامية محاصرة في مكة؟ وألا تتسع رقعتها؟ لا! كان عليه الصلاة والسلام يخطط ليجد بديلاً عن مكة المكرمة، وكان يفكّر في أعماق نفسه على الدوام أن تكون للمسلمين دولة إسلامية وعاصمة إسلامية تتسع رقعتها، وتنتقل هذه الرسالة ونورها وإشعاعها الحضاري إلى كافة البلاد.

        استعصت مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، آمن معه من آمن، ورضي به من رضي، لكن الدائرة لم تعد تتّسع ولم تعد تقبل المزيد، لذلك كان عليه الصلاة والسلام في قرارة نفسه وأعماقها يخطط ويفكر في طريقة أخرى للنهوض بهذه الرسالة ولامتداد أفقها ولاتساع رقعتها. هذا هو الجواب الفعلي والعملي لمن يقول: إن الهجرة كانت فراراً بالنفس والمال بأنها كانت فراراً بالدين وتوسيعاً لآفاق الدعوة الإسلامية وتخطيطاً لإقامة دولة إسلامية وعاصمة إسلامية ينطلق منها نور الإسلام، ويشعّ منها نور الحضارة الإسلامية ليعمَّ البلاد شرقها وغربها.

        إذاً.. بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يعطي أصحابه إذناً بالهجرة، فبعضهم هاجر إلى الحبشة، والبعض الآخر هاجر إلى يثرب (المدينة المنورة)، وهكذا استمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يهاجرون واحداً تلو الآخر، حتى لم يبق في مكة المكرمة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضٌ يسير من أصحابه على رأسهم سيدنا أبو بكر الصديق وسيدنا علي رضي الله تعالى عنهما. إذاً.. النبي عليه الصلاة والسلام كان يُعِدّ أرضاً جديدة لكي تكون مهداً للرسالة وأفقاً واسعاً لهذا الدين.

^ رؤيته عليه الصلاة والسلام المكان الذي سيهاجر إليه في منامه:

        أُرِيَ النبي صلى الله عليه وسلم في منامه ذات يوم أنه يهاجر إلى أرض فيها شجر نخيل وشجر كثيف. يقول صلى الله عليه وسلم: "أُرِيتُ دارَ هجرتكم، ذاتَ نخيلٍ بين لابَتَين[3]". صحيح البخاري. وظن عليه الصلاة والسلام أنها اليمامة[4] أو هَجَر[5]، لكنها كانت يثرب. واليمامة وهجر مشهورتان بكثرة النخيل وإنتاج التمور والبلح... كما هي المدينة المنورة تماماً، إلا أن الله سبحانه وتعالى اختار له هذه المدينة؛ لأن أهلها قد هُيِّئوا.

^ أهلية المدينة المنورة لتكون المكان الذي سيستقر فيه بعد الهجرة:

        النبي عليه الصلاة والسلام كان يعرض نفسه في المواسم على القبائل العربية، ففي موسم الحج كان يأتي أهل يثرب إلى مكة، فيعرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه عليهم بدينه، فالتقى عند العقبة الأولى وفداً منهم، ثم التقى في سنة أخرى عند العقبة الأخرى وفداً آخر، وكثر هؤلاء، ودخلوا في الإسلام، ولم يبق بيت في المدينة المنورة إلا وفيه من أسلم، ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم مصعب بن عمُير وعبد الله ابن أم مكتوم، وكانا قارِئَين من قرّاء مكة المكرمة، فأصبحا يقرآن القرآن في المدينة المنورة حتى عمَّ الإسلامُ كلَّ بيت. ولما خرج النبي عليه الصلاة والسلام من مكة المكرمة ضمن أحداث الهجرة وقف على بوّابة مكة وقال: "اللهم! إنهم أخرجوني من أَحَبِّ البقاع إلي، فأسكِنِّي أحبَّ البقاع إليك". فاختار الله سبحانه وتعالى له المدينة المنوّرة.

        الإنسان بطبيعته متمسّك بوطنه. ترى الإنسان المسافر يحن إلى أهل حتى لو كان حول بيت الله الحرام، فعلى سبيل المثال: الحجاج الشاميّون حينما يكونون في مكة المكرمة يستمتعون بالطواف حول البيت، والصلاة حول مقام سيدنا إبراهيم وخلفه، والشرب من ماء زمزم... لكنّ قلوبهم تتعلق بمسقط رأسهم؛ حيث أهلُهم وأصحابهم وجيرانهم. والنبي عليه الصلاة والسلام هو أَولى الناس أن يتعلق قلبه بمكة المكرمة.

        كان لأهل المدينة المنورة مواقف رائعة في حدث الهجرة المبارك مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما كانوا يخرجون كل يوم ليستقبلوه عليه الصلاة والسلام فرحين بقدومه إليهم، كلهم كانوا يخرجون إلى ثنيّة الوداع، وينتظرون قدوم النبي عليه الصلاة والسلام، وحينما وصل صلى الله عليه وسلم أرض المدينة المنوّرة ونزل قباء واستقبله أهل المدينة أخرجوا معهم أطفالهم الصغار الذين هيّؤوهم قلبياً وروحياً لمحبّة النبي عليه الصلاة والسلام، وزرعوا في نفوسهم أن هذا النبي هو قدوة لهم. وحينما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أهلَ المدينة يستقبلونه بالأهازيج ويقولون:

طلـع الـبدر علـينا     مـن ثنـيِّةِ الـوداع

وجـب الشـكرُ علينا     مـا دعــا لله داع

أيهـا  المبعـوثُ  فينا     جئت بالأمر الـمطاع

جئت شرَّفـتَ المدينة     مرحباً يا خيرَ سـاع

        فرح النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الاستقبال، ونظر إلى الطفلات الصغيرات، وانحنى أمامهن بمحبة وإكبار وقال: "أتُحْبِبْنَني؟". قلنَ: "نعم يا رسول الله!". فقال عليه الصلاة والسلام: "والله إنّ قلبي يحبّكنّ!".

        هذا الكلام زرع في نفوس الناس محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيطر عليهم مقامُ القدوة، وهكذا ينبغي أن يفعل كل واحد منا، فيحبّب أبناءه برسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال شمائله، وصفاته، وأخلاقه وسلوكه، فالنبي علبيه الصلاة والسلام وحيٌ ناطق لا يأتي إلا بخير، وهو الذي أرشدنا إلى أحسن الأخلاق والسلوك والصفات، وكانت حياته منهجاً قويماً لنا، لا نزال إلى اليوم نقرأ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ونُفيد منها الشيء الكثير في حياتنا وعلاقاتنا ومستقبلنا.

^ التخطيط النبوي الدقيق قبل الهجرة وبعدها هدفه بناء مجتمع إسلامي متماسك:

        النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطّط لإقامة مجتمع إسلامي في المدينة، وعاصمة إسلامية ذات أسس قوية قائمة على الوحدة فيما بين المسلمين، وعلى تماسُك الصف، وعلى إقامة دستور إسلامي عُرِف بالوثيقة التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم للتعايش فيما بين المسلمين مع بعضهم، وفيما بين المسلمين وغيرهم من أبناء الديانات السماوية الأخرى.

        كذلك اختار النبي عليه الصلاة والسلام منهجاً عظيماً يجمع المسلمين كلهم في رابطة واحدة، وتحت سقف واحد، وفي جامعة واحدة هي المسجد، فكان المسجد بمثابة الجامعة والرابطة التي تربط فيما بين المسلمين.

        إضافة إلى أنه عليه الصلاة والسلام آخى بين المهاجرين والأنصار، وهذه المؤاخاة جعلت علاقة المسلمين فيما بينهم قوية ومتماسكة ومترابطة، فلا فرق بين غني وفقير، ولا بين سيد وعبد، ولا بين رئيس ومرؤوس. جميعهم تآخَوا في الله، وأصبحت دور الأنصار دوراً للمهاجرين، وأموال الأنصار أموالاً للمهاجرين، وهكذا نشأ المجتمع الإسلامي مجتمعاً قوياً متماسكاً.

^ قصة هجرة سيدنا "أبو سَلَمة" وزوجه رضي الله عنهما إلى المدينة المنورة:

        حدثٌ طريف وقع مع سيدنا أبي سلمة الذي يُعَدُّ أولَ مَن هاجر من المسلمين إلى المدينة، وكان ذلك قبل بيعة العقبة الثانية بسنة واحدة.

        أ- خروج أبي سلمة قاصداً المدينة والتفريق بينه وبين زوجه وابنهما:

        كان أبو سلمة رضي الله تعالى عنه قد عاد من الحبشة إلى مكة، فآذاه أهلها من جديد، فلما بلغه إسلامُ الأنصار وأذِن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة المنورة كان أول من هاجر إليها، وكان قد أعدّ العُدَّة للهجرة مع زوجته السيدة "أم سلمة" رضي الله تعالى عنها، ومعهما طفلهما "سلمة". فخرج يقود بعيره التي ركب عليها أم سلمة وطفلها، فلما رآه رجالٌ من بني المغيرة - وهم أهل زوجته وعشيرتها - قاموا إليه فقالوا: "يا أبا سلمة! هذه نفسك قد غلَبْتَنا عليها، أما صاحبتك هذه فعلامَ نتركك تسير بها في البلاد". فنزعوا خطام البعير من يده وانتزعوا منه أم سلمة رضي الله تعالى عنها، وقامت قيامة بني عبد الأسد وهم رهط أبي سلمة وعشيرته وقومه، فوقع بينهم خصامٌ ونِزاع، فقالوا: "والله لا نترك ابننا عند أم سلمة". فتجاذبوا سلمة حتى خُلِعت يده، وانطلق به بنو عبد الأسد (عشيرة أبي سلمة رضي الله عنه). أما أم سلمة رضي الله تعالى عنها فقد حبسها بنو المغيرة (عشيرتها) عندهم، وفرّقوا بينها وبين زوجها وولدها. لم يلتفت أبو سلمة رضي الله عنه مع كل هذا إلى زوجته وولده، فهاجر في سبيل الله تعالى إلى المدينة وأقام في قباء، وقباء هي في مقدمة المدينة المنورة.

        ب- حال أم سلمة بعد حبس أهلها لها، وفكّها من قبل رجل مشرك:

        بعد ذلك كانت السيدة أم سلمة رضي الله عنها تخرج كل غداةٍ، فتجلس أمام البيت الذي حُبِست فيه وتبكي حتى تُمسي، وبقيت على تلك الحال سنة كاملة. وذات يوم مر بها رجل من بني عمها فرأى حالها وبكاءها وحزنها على فراق زوجها وولدها، فرقّ لها ورحمها، وذهب إلى أهلها وقال لهم: "ألا تُخرِجون هذه المسكينة! ألا تشفقون عليها، فرّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها". فرحموها وقالوا لها: "الحقي بزوجكِ إن شئتِ". فحينئذ ردّ إليها بنو عبد الأسد ابنها سلمة.

        جـ- أم سلمة تروي قصة هجرتها إلى المدينة برفقة عثمان بن طلحة:

        لْنقرأْ معاً كيف كانت مشاعر السيدة أم سلمة وهي تصف لنا رحلتها العجيبة إلى المدينة المنورة لا حقةً بزوجها أبي سلمة رضي الله تعالى عنهما.

        تقول رضي الله عنها في قصة هجرتها: "فارتحلت بعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحد من خلق الله، فقلت أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي[6]، حتى إذا كنت بالتنعيم[7] لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة[8] أخا بني عبد الدار، فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ فقلت: أريد زوجي بالمدينة. قال: أوما معكِ أحد؟ فقلت: لا والله! إلا الله وبني هذا. قال: والله ما لكِ من مترك[9]. فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قط أرى أنه كان أكرمَ منه كان إذا بلغ المنزل[10] أناخ بي البعير ثم تأخر عني، حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحطّ عنه الرحل ثم قيّده في الشجرة، ثم تنحى عني إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه، فرحله، ثم استأخر عني وقال: اركبي. فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذه بخطامه، فقاده حتى ينزل بي، حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية (وكان أبو سلمة بها نازلاً) فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعاً إلى مكة. والله ما أعلم أهلَ بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحباً قط كان أكرمَ من عثمان بن طلحة". السيرة النبوية.

        ء- فائدة نأخذها من هذه القصة:

        انظروا أيها الإخوة إلى هذه الأخلاق! رجل مشرك يقود امرأة مؤمنة ومعها ولدها، يعاملها بأدب واحترام، ويوصلها إلى زوجها دون أن تفكّر نفسه بشيء من الغدر أو الخيانة أو الإيذاء. لقد كان عثمان بن طلحة يتميز بأخلاق كريمة فاضلة قبل أن يدخل في الإسلام، وقد أسلم بعد صلح الحديبية، وهاجر إلى المدينة المنورة بعد ذلك، وكان ممّن حسُن إسلامه وتقدّم في صحبته مع النبي صلى الله عليه وسلم.

        لحقت السيدة أم سلمة رضي الله تعالى عنها بزوجها أبي سلمة الذي كان أوّل مهاجر، ونستفيد من هذه القصة نقطة مهمة تتعلق بنفاسة معدن العرب وفضائلهم في الجاهلية، ولاسيما خلق المروءة، وحماية الضعيف، ونجدة من استنجد بهم، وإجارة المستجير، فقد أبتْ مروءة هذا الرجل العربي الأصيل أن يَدَعَ امرأة شريفة مؤمنة تسير وحدها في الصحراء دون أن يعينها ويساعدها على تحقيق مرادها.

        أين نحن في هذا المجتمع الذي نعيش به في القرن الحادي والعشرين من هذه الأخلاق؟! أين أصحاب الأخلاق الكريمة؟ ونحن نقرأ ونسمع ونشاهد في كل يوم اعتداءً على الحريات، اغتصاباً للأعراض وفي وَضَحَ النهار، حوادث خطف في وضح النهار، سرقات سيارات ومنازل في وضح النهار، اغتصاب لفتيات بريئات في وضح النهار، هذا ما تنقله إلينا وسائل الإعلام والصحف ومواقع الإنترنت. كل يوم نقرأ عن حوادث اغتصاب لفتاة آمنة طاهرة بريئة...

        لنقرأْ أخبار أم سلمة رضي الله تعالى عنها مع عثمان بن طلحة الذي أكرمه الله تعالى بالإسلام، كيف نقلها من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، أكثر من 400 كم، وهو يغضّ بصره عنها وهي تنزل عن الناقة أو تركب عليها. هذه أخلاق فاضلة وكريمة ينبغي أن نُثْنِيَ عليها، والنبي صلى الله عليه وسلم قال من جملة ما قال: "إنما بُعِثْتُ لأتمّمَ مكارم الأخلاق". فمكارم الأخلاق في الجاهلية وعند العرب كانت أحسن وأكثر من النقائص والزّلاّت. ربما نسمع عن مبالغات عند العرب من إسالة الدماء، وأنهم كانت تقوم قيامتهم من أجل فرس سبقتْ فرساً، فتقوم حربٌ تدوم أربعين عاماً، لكن مع ذلك كله كان رصيدهم من الفضائل أكبر بكثير من رصيدهم من الزلات والنقائص والرذائل، لذلك اختار الله سبحانه وتعالى منهم خاتمَ الرسل والأنبياء صلى الله عليه وسلم، وكانوا أهلاً لحمل هذه الرسالة وتبليغها إلى الناس كافة.

 

 

 

 



[1] أي الجبلين.

[2] مقدمة أسنانه.

[3] اللابة أرضٌ ذات حجارة سوداء.

[4] اليمامة: بلد في الحجاز، أي ضمن أراضي المملكة السعودية الآن.

[5] هَجَر: بلد في البحرين.

[6] المسافة بين مكة والمدينة طريق صحراوية تبلغ حوالي 420 كم، وهي ليست مسافة سهلة، ولا تُقطع في يوم وليلة، بل تحتاج لأيام وليال، والشمس مُحرِقة.

[7] التنعيم: منطقة تبعد عن مكة المكرمة بحدود 7 كم، وهي أوّل حدود الحرم، ومنها يُحرِم المعتمرون: أي يصلّون ركعتي الإحرام وينوون العمرة.

[8] وكان عثمان يومئذ مشركاً.

[9] أي لا أترككِ وأنتِ على هذه الحال، وهذا من أخلاق العرب؛ أنهم يُنجِدون من يحتاج إلى النجدة، وهم أصحاب أخلاقٍ كريمة.

[10] أي إذا أردتُ النزول.

 

 

 

 التعليقات: 1

 مرات القراءة: 8871

 تاريخ النشر: 07/01/2011

2011-10-05

niveen

لم يرد جزء محدد عن المؤاخاة بين المهاجرين والانصار

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1421

: - عدد زوار اليوم

7448619

: - عدد الزوار الكلي
[ 53 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan