التعريب وأثره في الحضارة العربية الإسلامية
بقلم : د. محمد حسان الطيان
لم يعد التعريب في حياتنا المعاصرة مجرد هدف ثقافي وإنما أصبح هدفاً حضاريًّا شاملاً ينطوي على جوانب سياسية وقومية لا تقل أهمية عن جوانبه الثقافية. ومن هنا فقد كثر الكلام فيه وعقدت له ندوات وألفت فيه كتب ومقالات ودارت حوله بحوث ومناقشات شارك فيها العلماء والباحثون ورجال الفكر والتربية والتوجيه في فترة من الزمن امتدت على مدى تسعين عاماً أو تزيد.
ونستطيع أن نتبيّن من خلال جملة ما قيل فيه ثلاثة آراء تحدد مفهومه:
الأول: صياغة المصطلح الأجنبي وفق المقاييس والأوزان الصرفية العربية بحيث يصبح قابلاً للتعريف والاشتقاق بمختلف أنواعه.
الثاني: الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية.
الثالث: هو عملية نقل للمعاني والعلوم من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية, على أن تصاغ بألفاظ متناسبة ومتناسقة تعطي المعاني المنقولة معادلاً مطابقاً للأصل.
ولا شك أن هذا الأخير هو المفهوم الذي يعنينا لأن تعريب العلوم التطبيقية يقتضي القدرة على وعي معانيها العلمية وتصورها ثم الإبانة عنها بلغة عربية. وإن اضطررنا مبدئياً إلى استعمال المصطلحات الأجنبية بلفظها الأجنبي, فليس التعريب قائماً بالضرورة على تعريب المصطلح ولا متوقفاً عليه, إذ أثبتت التجربة أن تعريب المصطلحات يأتي ثانياً بعد تعريب العلوم, ولا يحول جهل باسم مادة ما باللغة العربية دون وصفها وذكر خصائصها وبسط الكلام عليها.
لقد استطاعت العربية ـ بسعتها وثرائها وخصائصها ـ أن تستوعب الثقافات والعلوم منذ أواخر القرن الأول للهجرة حين بدأ النقلة والمترجمون والمعربون بترجمة كتب اليونان والفرس والهند وغيرها إلى العربية, وأصبحت اللغة العربية حينذاك ولمدة عدة قرون لغة العلم والمعرفة التي يصطنعها العلماء والمؤلفون في جميع الأقطار الممتدة من الأندلس غرباً حتى أقصى بلاد ما وراء النهر شرقاً, وصح وصفها بأنها لغة العالم المتحضّر.
وإن التراث العلمي العربي بخصبه وتنوعه وغزارته وكثرة مبتكراته لشاهد حيّ على قدرة العقل العربي على الإبداع والإضافة والمشاركة الجادَّة في مسيرة الإنسانية العلمية والتقانية, أخذ منها ثم أعطاها الكثير مما عم نفعه العالمَ بأسره, وهو, إلى ذلك, شاهد عدل ينطق بقدرة اللسان العربي وطواعيته لاستيعاب أنواع العلوم والمعارف, ودليل مبين يفصح عن كفايته في التعبير عن أدق المعاني وأجلها على حدٍّ سواء, وسنعرض فيما يلي لأمثلة من العلوم التي نهض العرب بتعريبها أولاً ثم أضافوا وأبدعوا فيها ما جعلها تنسب إليهم أصالة:
ففي الطب عرب علماء العرب والنقلة طب الأوائل من شتى الأمم, ثم لم يقتصر أطباؤنا الأقدمون على الاطلاع على ما عرب من مواريث الأمم الغابرة في هذا العلم بل أعادوا النظر فيما ترجم وعمدوا إلى تنقيحه, وتجاوزوا ذلك إلى الإبداع فيه نافين عنه ما ثبت عندهم خطؤه متداركين ما كان فيه من نقص، ثم أضافوا الكثير الكثير من الجديد الذي هدتهم إليه بحوثهم وتجاربهم حتى أصبح الطب عربياً خالصاً, وسارت فيه المقولة المشهورة: (كان الطب معدوماً فأوجده بقراط، وميتاً فأحياه جالينوس، ومتفرقاً فجمعه الرازي، وناقصاً فأكمله ابن سينا).
وبذلك صارت العربية لغة هذا العلم بلا منازع, حتى اضطر طلبة العلم من الغربيين إلى أن يتعلموها ليدرسوا بها الطب وغيره من العلوم, ثم عكف فريق منهم على ما ألفه أعلام الطب المسلمون كالرازي وابن سينا والمجوسي من أطباء الشرق, وابن رشد وابن زهر من أطباء الأندلس, وأخذوا يترجمونه إلى اللاتينية لغة الدين والعلم عندهم إذ ذاك, وظل ما ترجمون عماد دراسة الطب فيما أنشئ في إيطاليا وفرنسا من مدارس لتعليمه, وامتد ذلك قروناً, وكان من ذلك أن سرى إلى لغة الطب في الغرب كثير من الألفاظ العربية.
وفي الرياضيات ترجم النقلة الحساب الهندسي والأرقام الهندية, وكان أول ما نقلوه كتاب (السند هند) الذي أمر المنصور بترجمته وتأليف كتاب على نهجه, فترجمه محمد بن إبراهيم الفزاري ووضع على نهجه كتاب (السند هند الكبير) ثم أعاد محمد بن موسى الخوارزمي كتابته وأضاف إليه عدة زيجات اشتهرت في البلدان الإسلامية, ووضع كتابه المشهور (حساب الجبر والمقابلة) الذي أسس فيه علم الجبر, ويشير الباحثون في تاريخ الرياضيات إلى أن الرياضيات الهندية كانت تفتقر إلى معرفة واسعة بالهندسة وإلى اهتمام بتحقيق صحة القواعد الرياضية التي يتبعونها, فاغتنت بكل ذلك على أيدي العلماء العرب الذين تخطوا تلك المراحل الأولية إلى المعقّد من مشاكل الرياضيات, وما تزال مصطلحاتهم تستعمل في دنيا الرياضيات حتى يوم الناس هذا من مثل (’Algoithmy’) و (’Algebra’).
وفي الكيمياء كانت أول ترجمة في الإسلام على يد خالد بن يزيد بن معاوية الذي ذكر عنه أن له همة ومحبة للعلوم ولترجمتها, وقد أمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونان المتقنين للعربية من مصر, وأمرهم بنقل كتب الكيمياء من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي, ثم وضع عدة رسائل في الكيمياء وتابع الطريق من بعده أعلام الكيمياء من مثل جابر بن حيان والرازي فنهضوا بهذا العلم وحولوه من مجرد ملاحظات وقوانين تستغل في أعمال الغش والشّعوذة إلى علم له مقوماته وأسسه ومصطلحاته العربية التي انتشرت في أصقاع الأرض محتفظة بهويتها وأصالتها.
وهكذا أصبح العرب المسلمون بفضل التعريب مالكين لمعظم علوم وآداب اليونان والهنود والفرس, وبلغ عدد الكتب المعربة نحو (400) كتاب حسبما ذكر ابن النديم في الفهرست, وكانت مراكز الترجمة والنقل والتعريب أحد العوامل الأساسية التي أسهمت في نقل تراث هذه الأمم التي اعتمد عليها العرب في بدء تكوين حضارتهم الجديدة, ولعل أشهرها مدارس الإسكندرية وأنطاكية وحران والرها وغيرها. هذا بالإضافة إلى بيوت الحكمة ودورها التي انتشرت في معظم الحواضر العربية الإسلامية, وكانت بمثابة مراكز للبحث والترجمة والتعريب كبيت الحكمة في كل من بغداد والقيروان ودار الحكمة في القاهرة وطرابلس ومراغة.
إن تعريب العلوم الذي بدأ في عهد مبكر وتطوَّر بسرعة مذهلة إلى تمثل المادة العلمية وتنقيتها والإضافة عليها, هو الذي أدى إلى مرحلة الإبداع وبزوغ فجر الحضارة العربية الإسلامية.وما أحوجنا اليوم إلى حركة مماثلة تنقل إلى العربية نتاج الحضارة الغربية لكي نوطن العلوم المختلفة ونعلمها أبناءنا بلغتهم الأم, فيسهل عليهم تعلمها وتمثلها والإبداع فيها, دون أن يصرفنا ذلك عن إلزامهم تعلم اللغة الأجنبية وإتقانها ليواكبوا دائما أحدث ما ينشر فيها, ويشاركوا من ثم في عملية التعريب البناءة.
إن حاجتنا إلى نهضة لغوية شاملة لا تقل أهمية عن حاجتنا إلى نهضة علمية شاملة، وما كان القصور في لغتنا في يوم من الأيام ولن يكون، وإنما هو في عجزنا وتواكلنا، أو في تبعيتنا وقلة وعينا، وقد صدق لعمري من قال:
"لا سبيل لنهضة حقيقية بدون نهضة لغوية، فاللغة فكر ووجدان...
والأزمة أزمة إنسان لا أزمة لسان"!!...
التعليقات:
0 |
|
|
مرات
القراءة:
12446 |
|
|
تاريخ
النشر: 22/05/2011 |
|
|
|
|
|
|