::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> كلمة المشرف

 

 

الإيثار ، مراتبه و فضائله العظيمة

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان  

 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا، ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.
        الإيثار خُلُقٌ عظيم من أخلاق الإسلام، ومما دعا إليه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقعاً سلوكياً عملياً. هذا الخلق لا يكون إلا في إنسان أحب الله ورسوله، وأحبه الله ورسوله؛ لأنه لا يتخلق به إلا أصحاب القلوب التي وعت إنسانيتها، والتزمت دينها، وتحقق لها القرب من الله سبحانه وتعالى، إنه خلق الإيثار... الخلق الذي صار علماً على الأنصار، حيث أنهم فاقوا به غيرهم وتميزوا به عمن سواهم، ولعظيم أثره، وشرف قدره أثنى الله تعالى على الأنصار فقال جل شأنه:[]...وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[] سورة الحشر (9).
        والمعلوم تاريخياً أن المسلمين الأوائل لما هاجروا من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة تركوا وراءهم أموالاً ودوراً وعقارات، وهاجروا فراراً بدينهم، ولحاقاً بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أنْ وصلوا المدينة المنورة عَرَض عليهم إخوانهم من الأنصار أن يُقاسموهم في أموالهم وسُكناهم، فأثنى الله تعالى عليهم هذا الثناء العظيم.
^ ما هو الإيـثار:
        الإيثار هو أن تؤثر منافع غيرك على منافعك، أن تحب لأخيك كما تحب لنفسك، بل وأكثر مما تحب لنفسك، أن تعطي لأخيك مثل أو أكثر مما تعطي لنفسك، أن تفضل منافع الغير على منافع نفسك رغبة في إرضاء الله سبحانه وتعالى.
^ مراتب خُلُق الإيثار:
        قسّم بعض العلماء خلق الإيثار إلى مراتب ودرجات، فقد قال الإمام "ابن القيم" رحمه الله تعالى:
        الدرجة الأولى: إيثارُ رضاء الله على رضاء غيره وإن عظُمت فيه المحن، ولو أغضب الخلْق كلَّهم أجمعين، بل أن يُسْخِط الخلق لكي يُرضيَ الخالق سبحانه وتعالى. وهذه الدرجة هي درجة الأنبياء، وأعلاها لِلرسل عليهم صلوات الله وسلامه. قال الشافعي رحمه الله: "رضا الناس غايةٌ لا تدرك، فعليك بما فيه صلاحُ نفسك فالْزمهُ". ومعلومٌ أن لا صلاح للنفس إلا بإيثار رضا ربها ومولاها على غيره. ولقد أحسن من قال:
فليتـكَ تحلُو والحياةُ مـريرَةٌ     وليتكَ ترضى والأنامُ  غِضَابُ
وليت الذي بيني وبينكَ  عامرٌ     وبيـني وبين العالمـين خرابُ
إذا صحَّ منكَ الوُدُّ فالكّلُّ هينٌ     وكلُّ الذي فوق الترابِ ترابُ
        تُنسَب هذه الأبيات لأبي العتاهية، والموقف في البيت الأول منها موقف عظيم، فإذا كان هذا الكلام بحق المولى سبحانه وتعالى فهو نِعمَ القول.
        الدرجة الثانية: أن تُؤْثِرَ الخَلْقَ على نفسك فيما يرضي الله ورسوله وهذه هي الدرجات التي يتفاوت فيها المؤمنون من الخلق، والمحبون من خلصاء الله.
        ما أجمله من خلق يجعل الحياة سعيدة وطيبة رضية، ويجعل التكافل فيما بين الناس مما فيه رضا الله سبحانه وتعالى، ويحقق هذا التوازن الإنساني والاجتماعي الذي يحرص عليه الدين. هذا الخُلق يقلب بيداء الحياة إلى واحة ندية، ويذلل صعبها ويخفف مصابها، يشعر الإنسان من خلاله بأن حوله أصحاباً أوفياء، وأصدقاء أمناء يخلصون له في الحل والترحال، ويسارعون إلى معونته وإسعافه في الضيق والعسر، إنه خلق عظيم؛ لأن الإنسان يتعب الواحد ليستريح إخوانه، ويحتاج – وربما يفتقر -  ليستغنوا، ويشقى ليسعدوا، لذا كان أجره عند الله عظيماً وثوابه جزيلاً، وإذا كان هذا الخلق لا يُدرَك إلا إذا رُزق العبد قريحة وقادة ونفساً منقادة، واتصف مع ذلك بعلم نافع وإيمان راسخ وصبر جميل، فإن مما يعين عليه ويدفع الهمم إليه أن يعلم الإنسان فضائله ومكانته، ليكون ذلك عونا له على التخلق به.
^ فضائل الإيثار:
        أ- الإيثار خُلُق الفَضْل في الإسلام:
        وهو أعلى درجات السخاء، وأكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من صاحب خلق زكي، مُحب لله تعالى، مقدّم هذا الخلق على شهوات نفسه ولَذَّاتها وما يحلو له فعله. ومن رُزِق الإيثار فقد وُقِي شُحَّ نفسه كما قال الله تعالى:[]...وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[] سورة الحشر (9). والشح مرض خبيث وخطير، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "واتّقوا الشح، فإن الشح أهلكَ مَن كان قبلكم، حَمَلهم على أن سَفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم". صحيح مسلم. أي إن الشح والحرص على المال وعلى الدنيا والتنافس فيها ربما يؤدي بالإنسان إلى أن يرتكب محرّماً، أو يقع في فاحشة حتى يحافظ على ماله وعلى تنافسه فيه.
        ب- الإيثار خُلق الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام:
        فإيثار رضا الله عز وجل على غيره ولو أغضب الخلق كلهم هو درجة الأنبياء وأعلاها للرسل عليهم صلوات الله وسلامه، وأعلاها لأولي العزم منهم، فإبراهيم عليه السلام سأل ربه الولد الصالح، فوهب له إسماعيل عليه السلام، فامتحنه الله بذبحه، فما كان من سيدنا إبراهيم عليه السلام إلا أن استسلم لأمر ربه فأقدم على ذبح ولده - الذي رزق به على كبر وهو وحيده حينذاك - إيثاراً لمحبة الله على محبة الولد، فكافأه الله سبحانه وتعالى عندما أراد تنفيذَ هذا الفعل بأن فداه بذبح عظيم. قال تعالى:[]وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)[] سورة الصافات. فسيدنا إبراهيم عليه السلام آثر محبَّة الله وأمره على محبة ولده، وسيدنا إسماعيل عليه السلام كان مثال الولد المطيع، الذي أعان والده على طاعة الله سبحانه وتعالى، فلم ينزعج من كلام أبيه ولم يقف في وجهه موقفَ المعاند، إنما قال له: افعل ما تُؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين.
        علّق الإمام ابن القيم على هذه الآيات في كتابه: "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" (ص227): "لم يكن المقصودُ ذبحَ الولد، ولكن المقصود ذبحه من قلبه ليخلص القلب للرب، فلما بادر الخليل إلى الامتثال، وقدم محبة الله على محبة ولده، حصل المقصود فرُفع الذبح وفُدي الولد بذبح عظيم، فإن الرب تعالى ما أمر بشيء ثم أبطله رأساً، بل لابد أن يبقى بعضه أو بدَّله كما أبقى شريعة الفداء، وكما أبقى استحباب الصدقة بين يدي المناجاة وكما أبقى الخمس صلوات بعد رفع الخمسين وأبقى ثوابها". وجاء في الحديث القدسي: (("ما يبدل القول لدي، وهي خمس في الفعل وخمسون في الأجر")).
        وقد حاز نبينا صلى الله عليه وسلم على أعلى هذه الدرجة؛ فإنه قاوم العالم كله، وتجرد للدعوة واحتمل عداء القريب والبعيد في سبيل الله تعالى، بل كان همه وعزمه وسعيه كله مقصوراً على إيثار مرضاة الله سبحانه وتعالى، لذلك قال عندما عاد من الطائف وبعد أن آذاه أهلُها من ثقيف: "إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي". حتى ظهر دين الله على كل دين، وقامت حُجَّته على العالمين، وتمّت نعمته على المؤمنين، فبَلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، فلم ينل أحدٌ من درجة هذا الإيثار ومقامه ورتبته ما ناله صلوات الله وسلامه عليه.
        جـ- الإيثار يُكسب العبدَ رفعة في الدنيا والآخرة:
        يكتسب المتصف بهذا الخلق جميلَ الذِّكرِ في الدنيا - حيث إن القلوب جُبلت على تعظيم من يؤثرها - وجزيل الأجر في الآخرة مع ما يجلبه له الإيثار من البركة وفيضان الخير عليه، فيعود عليه إيثاره أفضل مما بذله. فهو يعلم عن يقين أن ما يقدمه اليوم يجده غداً هو خيراً وأعظم أجراً، قال تعالى:[]...وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً...[] سورة المزمل (20). وقال تعالى:[]إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)[] سورة فاطر. فيحتقر الدنيا ويزدريها، ويصطفي الآخرة ويختارها، ويُقبل على الله عز وجل فيُؤثر رضاه سبحانه وتعالى على رضا غيره، والموَفَّق من وَفَّقه الله سبحانه وتعالى.
        ء- الإيثار هو النهاية في الأخوّة:
        آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قَدِم المدينة المنورة بين المهاجرين والأنصار، وكان يحرص أن يؤاخي بين أنصاري من الأغنياء ومهاجر من الفقراء؛ حتى يكون هناك اعتدال وتوازن في هذه العلاقة، ويكفل أحدهما الآخر.
        وكان من جملة من تآخى سيدنا عبد الرحمن بن عوف من المهاجرين، وسعد بن الربيع رضي الله عنهما من الأنصار، فقال سيدنا سعد بن الربيع لأخيه سيدنا عبد الرحمن بن عوف: "إني أَكثَر الأنصار مالاً، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت، نزلت لك عنها، فإذا حلّت، تزوجتَها". قال: فقال له أخوه عبد الرحمن بن عوف: "بارك الله لك في أهلك ومالك، لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟". قال: سوق قينقاع. قال: فغدا إليه عبد الرحمن، فأتى بإقط (اللبن الممجمد) (وهو اللبن محمض يجمد حتى يستحجر ويُطبخ، أو يطبخ به. المعجم الوسيط1/22) . ثم تابع الغدو، فما لبث أن جاء عبد الرحمن عليه أثر صُفرة (المراد بالصفرة صفرة الخلوق، والخلوق طِيب يُصنع من زعفران وغيره، قاله الحافظ ابن حجر في الفتح كتاب النكاح 9/142) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تزوجت؟ قال: نعم. قال: ومن؟ قال: امرأة من الأنصار. قال: كم سُقت؟ قال: زِنَةَ نواة من ذهب" (وزن نواة بنصب النون على تقدير فعل أي أصدقتها، ويجوز الرفع على تقدير مبتدأ أي الذي أصدقتها هو. قاله الحافظ ابن حجر في الفتح كتاب النكاح 9/142.) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أولم ولو بشاة". (رواه البخاري 4/377/حديث 2048 كتاب البيوع).
        هذا من ثمرات الأخوّة في الله؛ لأن التمسك بحبل الله المتين ينقي القلوب ويصفّيها، ويجعلها تتطلع إلى السماء، يجعلها تنظر للآخرة، يجعلها تسير في درب الإيثار وطريق التضحية وسبيل الوفاء والبذل والعطاء دونما كَلَلَ أو تعب. فالمؤمن الذي يقدّم ما يملك هبة لأخيه ودعماً ومساندة له، فلا شك أنه سيحوز قلب أخيه، ويملك عليه روحه ومشاعره.
        إنهم مع حبهم ووفائهم لزوجاتهم يقدمون حب الله على حب نسائهم، إنهم مع هذا الحب الجم يؤثرون رضوان الله على هذا الود. إنهم مع رقة مشاعرهم وصدق أحاسيسهم ووفائهم لنسائهم يؤثرون إخوانهم وأحبابهم طمعاً فيما عند الله تبارك وتعالى. نفوس عفيفة نقية طاهرة لا تحمل في قلبها حقداً ولا حسداً. لقد كان هذا الصحابيّان الجليلان خيرَ أخوين تعاونا على البر والتقوى، فسجّلا مواقفَ مضيئة في صفحات التاريخ ستظل متلألئة عبر الأيام والدهور، ومشرقة في النفوس، فتحفزها على الإيثار والوفاء والعمل الطيّب والتوكل على الله تعالى، فبأي منهما تشبّهت أفلحت بإذن الله تعالى.
        هكذا يكون الإيثار، وهكذا يقدّم الإنسان جزءاً مما يملك لمن لا يملك من إخوانه المؤمنين.
^ كيف يكُتَسَب الإيثار؟
        لو كانت الأخلاق صفات لازمة تُخلق في الإنسان ويُطبع عليها، فلا يمكنه تغييرها ولا تبديلها ولا تعديلها كسائر صفاته الجسدية من طول وقصر ولون... لَمَا أمر الشرع بالتخلق بالأخلاق الحسنة، والتخلي عن القبيحة، فلو لم يكن ذلك ممكناً مقدوراً للإنسان لما ورد الحث عليه في الشرع؛ لأنه لا تكليف إلا بمقدور ولا تكليف بمستحيل، فخلق الإيثار يُكتسَب اكتساباً.
        ولو كانت الأخلاق فطرية لا تقبل التغيير - كما يرى البعض - فقد قالوا إن حسن الخلق غريزة وتمسكوا بحديث ابن مسعود "إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم". وهو عند البخاري في الأدب المفرد تحت رقم 275 وهو جزء من حديث. قال بعض العلماء: "إن حسن الخلق غريزة في الإنسان".
        والحقيقة أن الأخلاق فيها ما هو جبلي وما هو مكتسب، ولذا قال الحافظ بن حجر في الفتح (10/474): "وقع في حديث الأشج العصري عند أحمد والنسائي والبخاري في الأدب المفرد وصححه ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة".قال: يا رسول الله: قديماً كانا فيَّ أو حديثاً؟ قال: "قديماً". قال : "الحمد لله الذي جبلني على خُلُقين يحبهما". فترديده السؤال وتقريره عليه يشعر بأن في الخلق ما هو جبلي وما هو مكتسب" أهـ.
        وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما العلمُ بالتعلُّم، والحلم بالتحلُّم، ومن يَتَحرَّ الخير يُعْطَه، ومن يتوقَّ الشرَّ يُوْقَه". كشف الخفاء. فالإنسان يستطيع أن يصل إلى أرقى الأخلاق وأحسنها بمحاولته أن يتتبّع هذه المقامات والدرجات والرتب العالية حرصاً على أن يَبْلُغَهَا وينالَ رضا الله سبحانه وتعالى.
        وهذا يدلنا على أن تزكية الأفعال تكون بمباشرة الأعمال المحقِّقة لزكاة النفس وتطهيرها، وليس بمجرد العلم النظري، ولكن الناس يتفاوتون في مقدار أهليتهم وقدرتهم واستعدادهم لاكتساب الأخلاق أو تعديلها، فمن جُبل على خلق معين يسهل عليه ترسيخ هذا لخلق في نفسه؛ لأن فطرته تعينه عليه.
^ نماذج من الإيثار:
        نستعرض بعض النماذج من الإيثار الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفيما بعد في حياة السلف الصالح رضي الله عنهم وأرضاهم:
        1- جاءت امرأة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعطته بُرْدَة هدية نسجتها بيديها، فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان محتاجاً إليها. ورآه أحد أصحابه، فطلبها منه، وقال: "يا رسول الله! ما أحسن هذه! اكْسُنِيها". فخلعها النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها إياه. فقال الصحابة للرجل: "ما أحسنتَ، لبسها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها، ثم سألتَه وعلمتَ أنه لا يرد أحداً". فقال الرجل: "إني والله ما سألتُه إياها لألبسَها، إنما سألتُه لتكون كفني". البخاري. واحتفظ الرجل بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكان كفنه.
(رواية أخرى)
        سيد الخلق وخاتم النبيين وإمام المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم تأتيه امرأة بُبردة فتقول: "يا رسول الله! أكسوك هذه؟". فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها، فلبسها. فرآها عليه رجل من الصحابة، فقال: "يا رسول الله! ما أحسن هذه؟ فاكسنيها". فقال: "نعم". فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم لامَهُ أصحابه فقالوا: "ما أحسنت حين رأيت النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها، ثم سألته إياها وقد عرفت أنه لا يُسأل شيئاً فيمنعه". فقال: أن أيَّ شيء مسَّ جسد النبي صلى الله عليه وسلم ثم مس جسدَ إنسان من البشر فإنَّ ذلك الجسد يُحَرَّمُ على النار إكراماً لمقام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
        2- جاء رجل جائع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، وطلب منه طعاماً، فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى إحدى نسائه يبحث عن طعام في بيته، فلم يجد إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يُضيِّف هذا الليلةَ رحمه الله؟". فقال رجل من الأنصار: "أنا يا رسول الله!". ويُقال إنه ثابت بن قيس رضي الله تعالى عنه.
        وأخذَ الرجلُ الضيفَ إلى بيته، ثم قال لامرأته: "هل عندكِ شيء؟". فقالت: "لا، إلا قوت صبياني". فلم يكن عندها إلا طعام قليل يكفي أولادها الصغار، فأمرها أن تشغل أولادها عن الطعام وتنومهم، وعندما يدخل الضيف تطفئ السراج (المصباح)، وتُقدِّم كل ما عندها من طعام للضيف، ووضع الأنصاري الطعام للضيف، وجلس معه في الظلام حتى يُشْعِره أنه يأكل معه، وأكل الضيف حتى شبع، وبات الرجل وزوجته وأولادهما جائعين.
        وفي الصباح، ذهب الرجلُ وضيفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال للرجل: "قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة". صحيح مسلم. قال بعض المفسّرين: إن هذه الحادثة كانت السبب في نزول قول الله سبحانه وتعالى:[]وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ...[] سورة الحشر (9). والخصاصة: شدّة الحاجة.
        3- قيس بن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه (ابن سيد سادات الأنصار) مرض يوماً، فلم يجد أحداً يزوره، فسأل خادمَه: لمَ لا يزورني أحد؟ فقال له: "لأنك كريم، وأقرضتَ أصحابك، فاسْتَحَوا أن يأتوا وهم مقترضون منك، وليسوا في يسر لسداد الدين!!" فقال قيس بن سعد بن عبادة: "بئس هذا المال الذي يمنع زيارة الإخوان! ليقُم المنادي فينادي في الناس أنه من كان عليه لي مال فهو في حِلٍّ من أمري". يقول راوي هذه القصة: "فما أمسى إلا وانكسرت عتبة داره بسبب كثرة الزيارة". وهذا دليل على أنه كان قد أقرض الناس بشكل كبير.
        4- حذيفة العدوي في معركة اليرموك يبحث عن ابن عم له، ومعه شربة ماء. وبعد أن وجده جريحاً، فقال له: أسقيك؟ فأشار إليه بالموافقة. وقبل أن يسقيه سَمِعا رجلاً يقول: آه! آه! فأشار ابنُ عم حذيفة إليه؛ ليذهب بشربة الماء إلى الرجل الذي يتألم، فذهب إليه حذيفة، فوجده هشام بن العاص.
        ولما أراد أن يسقيه سمعا رجلاً آخر يقول: آه! آه! فأشار هشام إلى حذيفة لينطلق إليه بالماء، فذهب إليه حذيفة فوجده قد مات، فرجع بالماء إلى هشام فوجده قد مات، فرجع إلى ابن عمه فوجده قد مات. فقد فضَّل كلُّ واحد منهم أخاه على نفسه، وآثره بشربة ماء، ومات الثلاثة على خُلُقِ الإيثار.
        فالمؤمن أخو المؤمن، يُؤثِرُهُ حتى في شَرْبَةِ الماء التي قد تكون سبباً في نجاته من الهلاك.
        5- اجتمع عند أبي الحسن الأنطاكي أكثر من ثلاثين رجلاً، ومعهم أرغفة قليلة لا تكفيهم، فقطَّعوا الأرغفة قطعاً صغيرة وأطفؤوا المصباح، وجلسوا للأكل، فلما رُفِعت السفرة، فإذا بالأرغفة كما هي لم ينقص منها شيء؛ لأن كل واحد منهم آثر أخاه بالطعام وفضَّله على نفسه، فلم يأكل أحدٌ منهم أبدا.
        أيها الإخوة! لو أردنا أن نستعرض قصص الإيثار من حياة السلف الصالح، سنجد أنها قصص كثيرة وكثيرة؛ لكثرة ما تخلَّق أولئك السلف رضي الله تعالى عنهم بهذا الخلق العظيم.
^ من فوائد الإيثار:
        لو لم يكن من فوائده إلا أنه دليلُ كمالِ الإيمان وحُسْنِ الإسلام ورِفعةِ الأخلاق لَكَفَى، فكيف وهو طريق إلى محبة الله سبحانه وتعالى، وحصول الألفة بين الناس، وباب من أبواب جلب البركة والسَّعة في الرزق، وطريق للوقاية من الشُّحِّ؟! كما قال الله سبحانه وتعالى:[]...وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[] سورة الحشر (9).
^ بعض الوسائل التي تعين على اكتساب الإيثار وترسيخه:
        أ- رغبة العبد في مكارم الأخلاق ومَعاليها:
        فإنَّ من أفضلِ أخلاقِ الرجلِ وأشرفِها وأعلاها خُلُق الإيثار، وبحسب رغبته فيها يكون إيثارُه. فكلما رغب العبد أن يزداد من مكارم الأخلاق ومَعاليها عليه أن يُبادرَ إلى التَّخَلُّق بهذا الخلق العظيم.
        ب- مَقْتُ الشُّحِّ:
        فإن العبد إذا مَقَتَ الشُّحَّ وأبغضَه التزم الإيثارَ وأحبَّه، فإنه يرى أنه لا خلاصَ له من هذا المقت البغيض (الشح) إلا بخلق الإيثار.
        جـ- تعظيم الحقوق:
        التي جعلها الله سبحانه وتعالى للمسلمين بعضِهم على بعض، فإن عُظِّمَت الحقوق عندنا قمنا بواجبها، ورعيناها حقَّ رعايتها، واستعظمْنا إضاعتها، وأصبح الغني منا يرعى الفقير، والقوي يحرص على الضعيف، وعلمنا أننا إن لم نَبْلُغْ درجةَ الإيثار لم نُؤَدِّها كما ينبغي، فنجعل إيثارنا احتياطاً لأدائها.
        ء- المواظبة على تَكَلُّفِ الإيثارِ مرةً بعد مرة:
        حتى تَأْلَفَهُ النفس وتعتادَه ويصيرَ لها طبعاً وسَجِيَّة، وهذا يستلزم التَجَمُّل بالصبر، كالمريض الذي يصبر على تعاطي الدواء المر. فإن تحمّلنا المشقة التي يحتاجها الإيثار يصبح فيما بعد خلقاً نكتسبه نتيجة هذا التجمُّل والتَصَبُّر الذي نحتاج إليه في معاملتنا مع الناس.
        هـ- إدمان مطالعة فضائل الإيثار، وترديدها على القلب:
        وجمع الهمة على تحصيل الإيثار، والسعي الحثيث في التحلي به.
        و- المواظبة على العبادات والطاعات المفروضة والمندوبة:
        كالصلاة التي قال الله سبحانه وتعالى في شأنها:[]...إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ...[] سورة العنكبوت (45). وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن فلاناً يصلي الليلَ كلَّه، فإذا أصبح سرق! فقال صلى الله عليه وسلم: "سينهاه ما يقول". أو قال: "ستمنعه صلاته". (رواه الإمام أحمد في مسنده 2/447 وصححه ابن حبان 639 الموارد وقال الهيثمي في المجمع: رواه احمد والبزار ورجاله رجال الصحيح 2/258). وكالزكاة التي قال سبحانه وتعالى فيها:[]خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا...[] سورة التوبة (103).
        فهذه الواجبات المفروضة والمندوبات التي جاءنا بها النبي صلى الله عليه وسلم تكون عوناً للمسلم على التخلُّق بهذا الخُلق العظيم.
        ز- لُزومُ الصِّدقِ وتَحَرِّيه، وتَجَنُّبُ الكذب:
        لأن الصدق يهدي إلى البر، قال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق؛ فإنَّ الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة". (رواه البخاري في الأدب رقم6094 ومسلم رقم 2606 وغيرهما). والإيثار من جملة البر.
        ح- الاقتداء بالمثل الأعلى للبشرية:
        يكفينا أن نأخذ مثلاً وقدوةً سيدَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومطالعة سيرته العطرة وشمائله الكريمة، فقد كان عليه الصلاة والسلام خيرَ من يُؤْثِرُ الناس، وخيرَ من يقدِّم لهم العونَ والمساعدة، وقد ضرب لنا صلى الله عليه وسلم أمثلة كثيرة في حياته، وهو الذي أعرضَ عن دنياه، ولم يسترسل بها، وكان زاهداً فيها، مع أن الله سبحانه وتعالى أنزلَ عليه سيدَنا جبريل عليه الصلاة والسلام فقال له: "يا محمد! إن شئتَ أن يُسِيَّرَ اللهُ معكَ الجبال حيثُ شئت فعل". فقال صلى الله عليه وسلم: "بل أجوع يوماً فأصبر، وأشبع يوماً فأشكر".
        هذا هو خلق الإيثار، وهذه هي النماذج العظيمة من حياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
        ثم استحضار إيثار الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ثم استحضار إيثار من تَبِعهم من أهل العلم والإيمان.
       
        ط- تقوية رابطة الأخوة في الله:
        التي تُوَلِّد في نفس المسلم أصدقَ العواطف النبيلة في اتخاذ مواقف إيجابية من التعاون والإيثار والرحمة والعفو عند المقدرة.
        ي- النفرة من أخلاق اللئام:
        والتحوُّل إلى الصحبة الصالحة؛ لأن الطباع سراقة، وفي حديث قاتل المئة نفس أن العالِم قال له: "… ومن يحول بينك وبين التوبة؟! انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناساً يعبدون الله، فاعبدِ الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء…" الحديث (جزء من حديث رواه البخاري في الأنبياء 3470 ومسلم في التوبة 2766 وغيرهما) أمره         باعتزال بيئته الفاسدة التي تَصُدُّ عن الخلق الحسن، والتحول إلى الصحبة الصالحة التي تعينه على الخير.
^ دعاء:
        اللهم! خَلِّقْنا بخُلُقِ الإيثار، وحَبِّبْه إلينا، واجعلنا اللهم ممن تُثْني عليهم كما أثْنَيْتَ على الأنصار، واجعلْنا اللهم ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 10126

 تاريخ النشر: 12/09/2011

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 739

: - عدد زوار اليوم

7401415

: - عدد الزوار الكلي
[ 64 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan