وقفة ٌمع الموت ....
بقلم : ريما محمد أنيس الحكيم
في رهبة الليل الأسود ، كنت جالسةً أمام نافذتي أرقب النجوم لامعةً مضيئة ، كلٌّ منها تحاول لفت النظر إليها على أنها الأجمل و الألمع ، و تستغل اختفاء القمر في هذه الليالي الأخيرة من هذا الشهر ...
سؤالٌ لطالما حاك في نفسي .... سؤالٌ لطالما أرقني في الليالي و احتل مساحة تفكيري...
سؤالٌ.. كنت في هذه الليلة أحاول البحث عن إجابته بين تلك القناديل المعلقة في قبة السماء السوداء...
نظرت إلى السماء و ناديت بصوتٍ عالٍ في داخلي حتى ارتج قلبي على اهتزازاته التي تدافعت للخروج ، لكن لم يسمعه أحد إلا أنا و صاحب الجواب ...
ناديت : (( ما هو الموت ؟ ... ما هو الموت ؟؟! ... ))
شعرت في تلك اللحظة برهبة شديدة ، و أحسست ببردٍ يتسلل إلى ثنايا جسدي و يستقر في قلب عظامي المتعبة ... و بالرغم من ذلك لم أستطع إغلاق النافذة ، فقد أحسست أن السماء .... كلَّ السماء تنظر إلي و تهتم بي ، و تحاول إخباري بكل ما تراه ..
ما هو الموت ؟ ... ذلك السؤال الأبدي ، الذي كانت أجوبته واضحة العيان أمام ناظري إلا أنني لم أرها، لم أر إلا إشارة الاستفهام التي تحاول أن تقودني إلى اللامكان .... حيث لا مكان و لا زمان .... ولا لحظات خاطفة ...
طلبت من السماء إجابتي بقلبٍ حائرٍ يأبى الجواب إلا من صاحبه ...
أغمضت عينيَّ ثم فتحتهما ... فأحسست بالبرد يشتد .. نظرت ورائي ... فرأيته شامخاً متحدياً معتزاً بكل ما لديه من قوة ، مخيفاً بنظراته الجامدة ، مرعباً بملامح وجهه الحادة ...شعرت حينها بأن قدميَّ لن تقويا على الوقوف بعد الآن ، إلا أنني وقفت بصعوبةٍ وأخفيت رعبي الظاهر على وجهي ...
سألته بضعفٍ و بصوتٍ خافتٍ :
- من أنت ؟ و ما الذي أدخلك إلى هنا ؟
قال لي :
- أنتِ من طلبني بإلحاح ! أنت من ناداني باستمرار ! أنت من لا يكل و لا يمل في بحثه عن الأجوبة ، و هاأنذا لأجيب ، فاسألي !! ...
- إذاً أنت هو الموت ؟ أنت صاحب الرهبة الأبدية الذي لطالما وقفت أمامه باحترامٍ وخوف شديدين .. أنت صاحب اليد التي تخطف الروح من جسد صاحبها؟ أنت هو ..
- أنا هو الموت .. لكن أتعرفين ما هو الموت ؟؟ ...
- ربما لا ، من خلال بحثي عنك و من خلال تجاربي و رؤيتي لمن يموت ، كنت دائماً ما أحس بأن الموت ما هو إلا لحظة حقيقة صافية .. نعم إنك أنت الحقيقة الوحيدة في حياتنا الخالية .. لكن ما أنت ؟ و ما هو عملك ؟؟؟ ..
- أنا حقٌّ على كلِّ مخلوقٍ خلقه الله، أنا العدالة الإلهية التي تساوي بين كل مخلوقات الله عز وجل، بين الإنسان و الحيوان ، الغني والفقير ، القوي و الضعيف أنا لا أفعل شيئاً إلا أن أوقف عمل الآلة الجسدية و أفتح نافذةً أمام الروح لتخرج و تعود إلى بارئها فتعيش تحت عرشه إلى يوم القيامة .. هذا عملي و هذا أنا ، والروح أصلاً ملكٌ لبارئها لا لصاحب جسدها ، فأنا لا أخطفها بل أعيدها إلى صاحبها..
- حسناً .. إن ما يقلقني هو موعدك ، لماذا لا تعطي مواعيدك للناس لعلهم يفعلون ما يريدون قبل مجيئك؟ الكثير منهم لا يشعر بك إلا في آخر أيام حياته ولا يستيقظ من سباته إلا بحضورك ؟..
- موعدي بيد الله .. وتلك إرادة الله يختبر بها البشر ، و يميز بها بين المقصر و الفائز ، إني آتٍ لا محالة ، فلماذا لا تعتبرون ؟.. لكن متى ؟ فهذا علمه عند الله وحده ....
- أتقصد أن الموت حكمٌ صادرٌ على كل مخلوق ... و بقي موعد تنفيذه ...
- نعم فليسرع كل إنسان في عمله وليسعَ إلى مرضاة ربه عساه يفوز بها قبل أن آتي .. فحين آتي لا توبة و لا غفران بعدها ...
- إنك مليءٌ بالرهبة ، إلا أنني فهمتك و لم أعد أخاف منك الآن ، أنا أحترمك و أحترم فيك العدالة فأنت أكبر مظهر للعدالة في الحياة الدنيا ..أتساءل لماذا يخاف منك الناس ؟ على كل منهم أن يقف لك احتراماً و يُجلَّك ويرى فيك المخلص و المنقذ من يد الدنيا ..لا أن يخاف مجيئك ، بل و يخشى حتى ذكرك !! ..
- إن الناس متعلقون بالدنيا ، قد جذبتهم إليها و سحرت ألبابهم ، يرون فيها كل الحياة و ينسون الحياة الآخرة الباقية ، تعلقوا بالفناء و ربطوا مصيرهم بالهالكة ، وتراموا عند أقدامها وانحنوا لها ، ودعوها أن تبقيهم فيها للأبد ، وقد قطعت هي لهم الوعود الكاذبة التي لن يعرف أحد حقيقتها إلا حين آتي ، فخدعَتهُم و هي تعلم كذبها وكأن الأمر أصلاً بيدها ...
- أنا بصراحة أرى فيك البطل المنتظر ، وهاأنذا أنتظر مجيئك ، أجئت الآن لتأخذني ؟؟
- لا بل لأجيبك ، إن الآن ليس بموعدك ، لم يحن وقتك بعد ...
- لكن متى إذاً ستأتي ؟؟
نظر إلي بعينيه الباردتين ، تلك النظرة الجامدة التي جمدت الدم في شراييني وجعلت العرق يتسرب من جسدي .. و الخوفَ ، لا بل الرهبة الشديدة تقف كطائرٍ على رأسي ، قال لي :
- ألا يزال لديك أي سؤال ؟؟
حاولت التكلم بصوتي الراجف ، و قاومت خوفي و فكرت بأن أسأله الآن فقد لا يعود مرةً أخرى إلا حين موعدي ... سألته :
- سؤالٌ أخير ، حين تُفتح النافذة تخرج منها الروح ، بعد ذلك : هل سبق و عادت يوماً إلى الجسد بعد عبورها ؟؟
- لا ، فمرور الروح يعني بقاءَها هناك إلى الأبد إلا إن أراد الله غير ذلك ....
و اختفى من أمامي بلمح البصر ، نظرت حولي بحثاً عنه فلم أجده ... ووجدت النافذة مغلقة مع أنني ما أغلقتها .. غريب ....
جلست إلى منضدتي ورأيت أوراقي المبعثرة .... رأيت في صحيفة أمامي نعي أحد الشبان ، تذكرت سؤالاً آخر، في هذه الفترة من العام و نحن الآن في رمضان قد كثرت الوفيات .. نعم فأنا أسمع كل يومٍ نعي المتوفين و المتوفيات سواءً كانوا عجائز أم شبان بكثرة... تذكرت قولاً : أنه في الخامس عشر من شعبان تتساقط أوراق الناس الذين سيموتون في هذا العام ..حاولت أن أربط هذا بكثرة الموتى حولي خلال شهر واحد فقط ، فجأةً خطر لي أن منتصف شعبان قد مر في أول الانقلاب الخريفي ، أي في بداية فصل الخريف ، الفصل الذي يعري الأشجار من أوراقها و يدعوها للتساقط ، فصل الأوراق المبعثرة على كل رصيف .... قلت لنفسي حينها : (( ماذا لو كان للوقت ارتباطٌ بشجرة الموت ؟ ، ماذا لو أن الخريف قد جعل أوراق شجرة الموت تتساقط بهذه الكثرة .. ربما كان له تأثير ، و ربما لهذا كثرت الوفيات في هذا الشهر )) ، فجأةً توقف الوقت حولي ؟؟! (( ماذا لو أن الخريف قد عرَّى الشجرة من كل أوراقها كما يعري أشجار الدنيا ، ماذا لو ؟ أيعني هذا أن النهاية قد اقتربت .. )) ...
حار عقلي ، و تشوشت أفكاري ، لو أنني سألته قبل أن يذهب ، يا ليت الوقت يعود، فقد تكاثرت الأسئلة في عقلي ، أسئلةٌ شتى بلا أجوبة .... ليتك تعود و تجيبني ...
فتحت النافذة ، ووقفت عندها .. عُد أرجوك ، عُد أجبني .. سمعت صوتاً في داخلي يقول لي :
(( انتظري .. فمع الوقت ستعرفين كل شيء )) ...
و منذ تلك اللحظة و أنا أقف أمام نافذتي ..
كلما شعرت بالبرد تأهبت و انتظرت بلا جدوى ..
و منذ تلك اللحظة .. و أنا أنظر على السماء .. و أنتظر ...
التعليقات:
0 |
|
|
مرات
القراءة:
3054 |
|
|
تاريخ
النشر: 10/01/2008 |
|
|
|
|
|
|