::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مساحة حرة

 

 

وسائل هجرة النبي عليه الصلاة والسلام

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان  

 

 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغُرّ الميامين، وسلِّم تسليماً كثيرا. اللهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا، ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.
^ الوسائل الّتي اتّخذها النبي عليه الصلاة والسلام للهجرة:
        وضع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الوسائل لإنجاح الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، ولكي تؤدّي الغرض المنشود:
 أ- اختيار الرفيق (سيدنا أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه):
        اتّخذ النبي صلى الله عليه وسلم سيدَنا أبا بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه صاحباً له ورفيقاً في هذه الرحلة، ومعلوم مكانة سيدنا أبي بكر في قلب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو القائل عليه الصلاة والسلام: "لو كنتُ متّخذاً خليلاً لاتّخذتُ أبا بكرٍ خليلا، ولكن أخوة الإسلام". صحيح مسلم.
        هذه الخلة والمحبة والعلاقة الرّوحيّة بين سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيدنا أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه جعلته الرفيق، والصاحب، والمستشار، والأمين والمُنَفِّذ لهذه الهجرة، هو الذي جاد بماله في سبيل الله تعالى، وضحّى به في خدمة الدين، كما هيَّأ أهل بيته ليكونوا خَدَماً للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
ب- التّمويه (مهمّة سيدنا علي كرم الله وجهه):
        أوكل النبي صلى الله عليه وسلم هذا العمل الفدائي العظيم إلى سيدنا علي كرّم الله وجهه؛ أوّل شباب الإسلام، فقد جعله عليه الصلاة والسلام الشخص الأمين على رَدِّ الأمانات والودائع إلى قريش، حيث قال له صلى الله عليه وسلم: "نَمْ على فراشي، وتَسَجَّ ببردي[1][1]". السيرة النبوية.
        وهنا لنا وقفة: كيف تعادي قريش الشخص الأمين وتطارده وتريد أن تتخلص منه، وهي تضع أماناتها وودائعها عنده؟؟ هذا تناقض ظاهر في نظرة قريش إلى شخصية النبي صلى الله عليه وسلم.
جـ- مراقبة قريش ومعرفة أخبارها (مهمة سيدنا عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما):
        مراقبة قريش، ومعرفة أخبارهم، وإيصالها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه، فقد كانت مهمة سيدنا عبد الله رضي الله تعالى عنه أن يأتيهما إلى الغار بعد حلول الظلام ويبيت عندهما، ثم يخرج من عندهما وقتَ السَّحَر، فيظهر وكأنه بات في مكة. يأتيهما بما يَطَّلِع عليه من أخبار في الليل، ثم يعود ليستوضح الأخبار من جديد.
ء- إعداد الطعام والزاد (مهمة السيدتين عائشة وأسماء رضي الله عنهما):
        قامت بنات سيدنا أبي بكر رضي الله عنهن (السيدة أسماء، والسيدة عائشة) بتجهيز ما يحتاج إليه رسول الله وصاحبه سيدنا أبو بكر في هذه الهجرة، وجهّزتا الطعام والزاد والماء، ووضعتاه في وعاء من الجلد، فلما أرادتا ربط فم الوعاء (ويقال له الجراب) لم تجدا شيئاً، فقامت السيدة أسماء رضي الله عنها، فشقّت نطاقها نصفين، فربطت فم الجراب بنصفه وانتطقت بالآخر، ولذلك سُمِّيت "ذات النطاقين".
        النطاق هو ثوب تشد به المرأة وسطها، وكان هذا الانتطاق من عادة النساء العربيات، تشد به خصرها حتى لا يبدو شيء من محاسنها، تحاول بذلك أن تزداد حشمة، وهذا يدل على أن المرأة العربية قبل الإسلام كانت تُعنى بحشمتها، فاستمرت هذه الحشمة في العهد الإسلامي حينما أصبح الحجاب وثوب المرأة المسلمة شيئاً من أساسيات إيمانها، أي الثوب الساتر والسابغ الذي لا يصف ولا يشف.
        السيدة أسماء حينما ربطت النطاق على خصرها أرادت بذلك أن تعطي درساً لبنات سنّها وأترابها أن يحرصن على الحشمة في ارتداء الثياب، وألا يلبسن من الثياب ما يفضح جسد المرأة، وهنا ينبغي أن نقف قليلاً عند بنات هذه الأيام اللواتي لم ينتبهن إلى هذا المعنى، فترى بعض النساء يخرجن في الطريق كاسياتٍ عاريات، يُبدين من الزينة والعورات ما ينبغي أن يُستَر وما لا يجوز النظر إليه، لذلك نذكّر هؤلاء الأخوات - وهن بناتنا وأخواتنا - أن يحرصن على الحشمة في لباسهن، وعلى رضا الله سبحانه وتعالى، وأن يكنّ كما كانت السيدتين أسماء وعائشة بنات الصّدّيق رضي الله تعالى عنهم جميعاً.
هـ- إحضار اللبن للغار ومحو آثار الأقدام (مهمة عامر بن فهيرة):
        كان يأتي بالأغنام، فيمشي على آثار سيدنا عبد الله بن أبي بكر التي يمشيها ليلاً وفجراً، ويُريح عندهما قُبالةَ الغار حتى الصباح، فيحلب لهما الشياه، ويقدّم لهما اللبن والحليب، ويغطي على آثار سيدنا عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما.
        والعرب كانوا يتميزون بمعرفة القيافة، والقيافة هي تتبع الأثر، فما من إنسان أو حيوان يمشي في الصحراء إلا ويعرفون جهة ذهابه وحركته من خلال تتبع الآثار، فكانت مهمة عامر بن أبي فهيرة (مولى سيدنا أبي بكر) أن يمشي بالأغنام فوق آثار الأقدام حتى يمحو أثرها.
و- اختيار دليل خبير للطريق (مهمة عبد الله بن أريقط):
        فقد واعده النبي عليه الصلاة والسلام ليجداه أسفلَ غار ثور بعد ثلاث ليال. وذلك ليدلّهما على الطريق، حيث أمناه ودفعا له الأجر. وكان عبد الله بن أريقط رجلاً خبيراً في الطرق يعرف كل شيء يتعلق بالطريق ما بين مكة والمدينة المنورة (يُقال له في اللغة خِرّيتاً، وقالوا: كلمة الخِرِّيت جاءت من الأخْرات؛ وهي المفاوز والصخور). وكان عبد الله رجلاً مشركاً لكنه كان أميناً، وقد استعان به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيدنا أبو بكر رضي الله عنه لهذه المهمة.
^ وقفة مع اختيار سيدَينا أبي بكر وعلي رضي الله عنهما لمهمتين عظيمتين:
        لما أذن الله تعالى لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة قصد بيت سيدنا أبي بكر ليعلمه بذلك، ومن بيت أبي بكر كانت الانطلاقة الأولى جهةَ غار ثور. هنا أوكل النبي صلى الله عليه وسلم مهمةَ المبيت في مكانه وفي بيته لسيدنا علي رضي الله تعالى عنه، فكان نعمَ الفدائي الذي يضحي بنفسه، تصوروا إنساناً ينام على فراش وهو يدرك أن هناك من يتربص به طوال الليل، وقد تحدثنا في المحاضرة السابقة عن خطة أبي جهل التي أشار بها على زعماء مكة.
        كانت مهمة سيدنا علي كرم الله وجهه النوم في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليردّ في الصباح الأمانات إلى قريش، وليمارس عمل التمويه ريثما يصل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى غار ثور، فكان لا بد أن يطمئنّ أولئك الشباب والفتيان من شباب مكة إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا زال ينام في فراشه.
        هنا وقفة مهمة وذات فائدة وبُعد عظيم، تتعلق بسر العلاقة ما بين سيدنا أبي بكر رضي الله عنه وبين سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه؛ لاحظوا أن هذين الشخصين كانا الجناحين اللّذَين حلّق بهما سيدنا رسول الله عليه وسلم في هجرته؛ أما أحدهما فكان فداءً له عليه الصلاة والسلام بنفسه وماله ورفيقاً له في تلك السفرة، وأما الثاني فقد كان مضحّياً بنفسه إذ عرّضها للشدائد والمخاطر. هذا الربط بين سيدنا علي وسيدنا أبي بكر رضي الله عنهما ينبغي أن يستوقفنا وقفة متأنية لندرك العلاقة المتينة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذين الشخصين. وأقول هذا الكلام في زمن ربما تطاول البعض على كلا الشخصيتين، وأساء الآخرون لسيدنا أبي بكر رضي الله عنه أو لسيدنا علي كرم الله وجهه، فحينما نعلم علم اليقين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ارتضى هذين الشخصين لمهمتين جليلتين عظيمتين في حياته، كان لهاتين المهمتين أثر كبير في نجاح الدعوة الإسلامية، فلا يصح في حال من الأحوال أن نفرق كلمة المسلمين، ولا وحدة صفوفهم، ولا نظرتهم إلى أحد هذين والصحابيين رضي الله عنهما وأرضاهما. هذه لفتة مهمة ينبغي أن ننتبه إليها جيداً.
^ الذهاب ليلاً إلى بيت الصدّيق:
        حينما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته في الليل قاصداً بيت سيدنا أبي بكر رضي الله تعالى عنه، خرج وهو يحمل بيده كفّاً من تراب، نثره على رؤوس أولئك الفتيان الشجعان من قريش، وهو يتلو قول الله سبحانه وتعالى:[]يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (4) تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (9)[] سورة يس. ألقى التراب في وجوههم وعلى رؤوسهم، وخرج من بينهم ولم يره أحد ولم يحس به أحد، وكان ذلك من خوارق العادات والمعجزات التي أيّد الله سبحانه وتعالى بها سيدَنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.
^ كلمة وداع للوطن الغالي:
        ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوره إلى بيت الصدّيق رضي الله عنه، والذي كان يترقب وصولَه عليه الصلاة والسلام، بعد أن أعدّ العُدَّةَ للسفر، وهيأ الراحلتين، فانطلق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب خلفي لبيت سيدنا أبي بكر رضي الله تعالى عنه، واتجه باتجاه غار ثور. ولما وقف النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أبواب مكة وهو يغادرها مضى جهةَ البيت (باتجاه القبلة) وقال: "واللهِ إنَّكِ لَأَحَبُّ أرضِ الله إليّ، وإنَّكِ لَأَحَبُّ أرضِ الله إلى الله، ولولا أنَّ أهلكِ أخرجوني منكِ ما خرجت". لا حظوا تعلُّقَ قلبِ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة المكرمة. ثم توجّه إلى الله تعالى بالدعاء قائلاً: "الحمد لله الذي خلقني ولم أكُ شيئا. اللهم! أعنّي على هَوْلِ الدنيا، وبَوائق الدهر، ومصائب الليالي والأيام. اللهم! اصْحَبْني في سَفَري، واخْلُفْني في أهلي، وبارك لي في ما رزقتني، ولكَ فَذَلِّلْني، وعلى صالحِ خُلُقي فقَوِّني، وإليكَ ربّي فَحَبِّبْني، وإلى الناس فلا تكلني. ربَّ المستضعفين وأنتَ ربي! أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقتْ له السماوات والأرض، وكُشِفتْ به الظُّلُمات، وصلح عليه أمر الأوّلين والآخرين، أعوذ بك أن تُحِلَّ عليّ غضبك، وتُنْزِلَ بي سَخَطك، أعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نِقمتك، وتَحَوُّلِ عافيتك، وجميع سخطك، لكَ العُتبى خيرَ ما استطعت، ولا حول ولا قوّة إلا بالله".
^ مواقف بطوليّة من الصّدّيق رضي الله عنه في طريق الهجرة:
        أ- في الطريق إلى الغار:
        في طريقه صلى الله عليه وسلم إلى غار ثور بدت من سيدنا أبي بكر رضي الله تعالى عنه مواقفُ بطولية تدل على فدائه وتضحيته لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد رأى عليه الصلاة والسلام من سيدنا أبي بكر أمراً عجباً. رآه مرّةً يسير أمامه، ومرة يسير خلفه، ومرة عن يمينه، ومرة عن شماله. فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: "ما لك تفعل ذلك يا أبا بكر؟". فقال سيدنا أبو بكر: "يا رسول الله! أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأذكر الرَّصَد فأكون أمامك، ومرة عن يمينك، ومرة عن شمالك، لا آمنُ عليك يا رسول الله". أحبَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يزداد من معرفة حب سيدنا أبي بكر له، فقال له: "يا أبا بكر! لو كان شيءٌ لأحببتَ أن يكون بكَ دوني؟". فقال سيدنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه: "نعم والذي بعثك بالحق". هذا يدل على خالص المحبة وصدقها فيما بين سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيدنا أبي بكر رضي الله تعالى عنه. وهذا الاختيار للصحبة لا يأتي من فراغ، إنما هو علامة لصدق سيدنا أبي بكر رضي الله تعالى عنه في محبته لسيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام.
        بعد ذلك ظل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه يسيران في ظلمة الليل ما بين الرمال والصخور حتى وصلا إلى الغار. أيها الإخوة! لاحظوا المشقة التي تعرض لها عليه الصلاة والسلام. الذاهب إلى غار ثور الآن وقد مُهِّد الطريق فإنه يجد مشقة وصعوبة في ضوء النهار، فما بالك في الليل، وهما مُطارَدان، ويُتَوَقَّع في أي لحظة أن يخرج لهما من يترصد بهما يريد الأذى، خاصة أن قريش كانت قد أعلنت عن جائزة كبيرة لمن يأتي بمحمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه أحياء أو أموات، كانت الجائزة مئة ناقة من كرائم نوق العرب، كل ناقة تعادل في زماننا سيارة فاخرة بأحسن المواصفات.
        ب- في الغـار:
        لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى الغار قال له سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: "مكانَكَ يا رسول الله حتّى أسْتَبْرِئَ لك الغار". أراد أن يتفقده ليطمئن أنه خال من أي خطر؛ كأن يكون به حية أو سبع أو ثعبان أو أي شيء آخر، فالغار مهجور، ويُتَوَقَّع أن يكون فيه أي شيء يؤذي رسول الله وصاحبه. فنزل سيدنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى الغار يتحسس ما فيه، ويبحث عن أي شيء يمكن أن يُعَرِّضَهما للأذى، فلم يجد به إلا ثقوباً يُتَوَقَّع أن تكون أوكاراً أو جحوراً لثعابين أو أفاعٍ أو حيّات أو غير ذلك. فقال له: "انزل يا رسول الله!". فنزل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغار وقد أخذ منه التعب كلّ مأخذ، فما إن دخل حتى توسّدَ حِجر سيدنا أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ثم غطّ في نوم عميق.
        سيدنا أبو بكر رضي الله عنه من شدة محبته لسيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام وخشيته عليه كان ينظر في الثقوب والشقوق التي في الغار بين الحجارة، فيمزّق ثوباً معه ويضعه في تلك الثقوب، إلا موضعاً واحداً فلم يبق معه شيء من القماش، فوضع قدمه في ذلك الشق. بعد لحظات من نوم النبي صلى الله عليه وسلم خرج ثعبان من ذلك الشق فلدغ سيدَنا أبا بكر رضي الله عنه بقدمه، فتألم سيدنا أبو بكر، لكنه حرصاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يزعجه ظلت قدمه كما هي وهو يعتصر الألم ويصبر عليه، وربما عاود الثعبان لدغه مرة بعد مرة، فكان رضي الله تعالى عنه من شدة الألم يعتصر دموعه، إلى أن سقطت بعض الدموع ساخنةً على خدِّ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان رأسه في حِجر سيدنا أبي بكر، فاستيقظ النبي عليه الصلاة والسلام وسأله عما به، فأخبره الصدّيق رضي الله عنه بما حدث، فَتَفَلَ النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام على يده، ثم مسح قدمَ سيدنا أبي بكر رضي الله عنه، فبرئت بإذن الله، وشُفِي رضي الله عنه، ولم يَعُدْ يُحِسُّ بأي ألم بِبركة ريق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أيضاً نوع من التأييد للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه.
^ الجنود التي سخّرها الله تعالى لحراسته عليه الصلاة والسلام وصاحبه في الغار:
        تُروى قصة ذكرها ثلاثة من الأعلام؛ الإمام البزّار في مسنده، والإمام أحمد في مسنده، والحافظ بن عساكر في كتابه "البداية والنهاية".ومع ذلك نجد من ينكر هذه القصة ويقول إنها مُختَلَقة. فكيف تكون مختلقة والله سبحانه وتعالى يقول:[]...وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا...[] سورة التوبة (40). يقول علماء اللغة: كلمة جنود هنا نكرة، والنكرة تدل على العموم، وتدل على أن كلَّ ما أيَّدَ اللهُ تعالى به نبيَّه صلى الله عليه وسلم يُعَدّ جنداً مسخَّراً لحمايته وحفظه من كل أذى، ليس فقط الملائكة. الله سبحانه وتعالى أيد رسوله عليه الصلاة والسلام بالملائكة، فحاربوا وقاتلوا معه في غزوتي بدر وحُنين، وقد وردت نصوص صريحة في القرآن الكريم. أم الجنود في رحلة الهجرة فإنها جنود متعددة الصفات، فقد تكون بيوض الحمام، وقد تكون خيوط العنكبوت من جملة هذه الجنود التي سخّرها الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم.
        يُروى أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا دخل هو وصاحبه الصدّيق إلى الغار أمر الله شجرة فنبتت على فم الغار، وانتشرت أغصانها على بابه، وألهم الله العنكبوت فنسجت على أغصان الشجرة، وألهم حمامتين وحشيّتين فعشّشتا وباضتا بين أغصان الشجرة. هذه آياتٌ ثلاث جعلها الله سبحانه وتعالى من الجنود التي ساهمت في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصَدِّ المشركين عن اقتحام الغار. ولما رأى النفر الشجعان الأبطال الأقوياء الذين خرجوا في نجدة قريش وطلب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، لما رأوا العنكبوت والشجرة وبيوض الحمامتين قالوا: كيف يَدْخُل الغار ولم يُختَرَق خيط العنكبوت؟ حتى أن أحدهم قالوا: واللهِ إن هذا العنكبوت لَمِن قبلِ ميلاد محمد! فخيط العنكبوت شكله قديم جداً، فكيف يخترقه عليه الصلاة والسلام وصاحبه دون أن تتمزق خيوط العنكبوت، وخيوط العنكبوت ضعيفة وواهية، لو جاءها شيء من الرياح الشديدة فإنها تقتلعها وتزيلها، لكن الله سبحانه وتعالى جعلها قوية متماسكة لتردَّ أولئك الفتيان الشجعان الذين طاردوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه.
^ صدمة لقريش (خروج سيدنا علي صباحاً لردّ الأمانات بعد أن بات في فراشه عليه الصلاة والسلام):
        نعود لنرى أولئك الفتية الذين وضعتهم قريش على باب النبي صلى الله عليه وسلم: لما أصبح الصباح وتيقّن هؤلاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال في فراشه، فإذ بسيدنا علي رضي الله تعالى عنه يخرج وينادي على قريش بأسمائهم فيقولون له: أين محمد؟ فيقول سيدنا علي رضي الله تعالى عنه: إن محمداً صلى الله عليه وسلم قد خرج، وأوكلني أن أرد هذه الأمانات إلى أصحابها. هنا جُنَّ جنون قريش، وبدأت تبحث عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلت لمن يأتي به حياً أو ميتاً مئة ناقة، وبعثوا بأصحاب الخبرة في الطرقات والجبال في كل وجه، ومنهم سُراقة بن جُعشُم، وكُرْز بن علقمة، فصاروا يتتبّعون الأثر حتى وصلوا إلى جبل ثور، وصعدوا الجبل، ووقفوا على فم الغار، وبدؤوا يتقلّبون ويحاولون دخوله، لكنَّ شيئاً يمنعهم وهو إرادة الله سبحانه وتعالى أن يحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه.
^ درس في "معية الله تعالى":
        في هذه الأثناء والمشركون واقفون على فم الغار يتحدثون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه يسمعان حديثهم، كان الصدّيق رضي الله تعالى عنه شديدَ الخوف على رسول الله صلى اله عليه وسلم أكثرَ مما هو خائفٌ على نفسه فقال: "يا رسول الله! لو أنَّ أحدَهم نظر تحت قدميه لأبْصَرَنا". فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يدَه على قلب سيدنا أبي بكر رضي الله عنه وقال: "يا أبا بكر! ما ظَنُّكَ باثنين اللهُ ثالثهما؟!". صحيح مسلم. وفي هذا نزل قوله سبحانه وتعالى:[]إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[] سورة التوبة (40). هنا درس كبير وعظيم فيه فوائد جليلة: أن تعيش بمعية الله وحفظه وحمايته سبحانه وتعالى. ((كنْ مع الله ولا تُبالِ))، ((ماذا وجد مَن فقد الله؟! وماذا فقد مَن وجد الله؟!))، ((من كان الله معه فمن عليه؟! ومن كان الله عليه فمن معه؟!)). هذه المعاني ينبغي أن تتحرك في نفسِ كلِّ مسلمٍ وهو يقرأ حديث الهجرة ويصل إلى هذه الفقرة المهمة: "ما ظَنُّكَ باثنين اللهُ ثالثهما؟!".
        النبي عليه الصلاة والسلام لمّا قال لسيدنا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "يا غلام! احفظِ اللهَ يحفظْك، احفظِ اللهَ تجدْهُ تُجاهَك". سنن الترمذي. كان يقصد عليه الصلاة والسلام: احفظِ الله تكنْ في عنايته ورعايته، يُلهم سبحانه وتعالى ويأمر ملائكةً لحفظك ورعايتك وحمايتك من كل خطر وشدّة ولأواء يمكن أن تتعرّض لها في حياتك. فهذا الدرس علينا نحن - معاشرَ المسلمين - أن نُفيدَ منه جيداً، وخاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم هو في عين الله سبحانه وتعالى منذ أن قال له:[]...فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا...[] سورة الطور (48). وهذه سُنَّةُ الله تعالى مع أنبيائه. ربنا سبحانه وتعالى قال لسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام:[]...وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي[] سورة طه (39). أي: أنت بكامل الرعاية الربانية الإلهية. وإن الذي قال لسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام "ولتصنع على عيني" هو نفسه الذي قال لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم "فإنك بأعيننا". رعاية، وحماية، ومحبة، ومراقبة ومتابعة، وخسِئ المشركون ومؤامراتهم وتدبيرهم وكل تخطيطهم الذي خطّطوه فيما مضى.
^ دعاء:
        نسأل الله سبحانه وتعالى أن نُفيدَ من دروس الهجرة ما ينعكس على حياتنا وإيماننا وصِلَتِنا بالله سبحانه وتعالى. اللهم! اجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتّبعون أحسنَه، وخلِّقنا بأخلاق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجعلنا من أتباعه الصادقين يا رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
 
 


 

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 4551

 تاريخ النشر: 09/11/2012

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 221

: - عدد زوار اليوم

7399307

: - عدد الزوار الكلي
[ 59 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan