wwww.risalaty.net


وداع رمضان


بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان

 

صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر يومًا فقال: ((آمين، آمين، آمين))، ثم قال: ((أتاني جبريل فقال: رغِمَ أنفُ من أدرك رمضانَ فلم يُغْفَرْ له، قل: آمين، فقلتُ: آمين)).
هاهو رمضان يودعنا، فمن كان يعبد الله في رمضان فإن رمضان فات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ باقٍ لا يموت .
فلنشدَّ العزيمة على الثبات على نوع من العبادة نحافظ عليه، حتى لا نكونَ ممن ضَرَبَ الله تعالى لهم المثلَ في القرآن الكريم بقوله تعالى :"وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً"[النحل: الآية92]، ذكر المفسرون في تفسيرها: أن عجوزاً في مكة كانت تغزل الصوف في أول النهار، حتى إذا أوشكت على إتمام غزلها آخر النهار نقضت غزلهَا وأفسدته، ثم عادت إلى الغزل والنقض مرة أخرى، وهكذا كان دأبها وشأنها أبداً.
فحذّر الله تعالى من خلال هذه الآية المؤمنين من التشبه بصنيع هذه المرأة، وذلك بإفساد أعمالهم الصالحة بأعمال سيئة تنقضُها وتُذْهِبُ بركتَها.
وروي عن عطاء بن أبي رباح قال‏:‏ قال لي ابن عباس‏:‏ يا عطاء ، ألا أُريكَ امرأةٍ من أهل الجنة ‏؟‏ فأراني حبشيةً صفراءَ، فقال‏:‏ ‏"‏هذه أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ إن بي هذه الموتة - يعني الجنون - فادع الله أن يعافيني‏.‏ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ " إن شئتِ دعوتُ اللهَ فعافاكِ، وإن شئتِ صبرتِ واحتسبتِ ولكِ الجنة "، فاختارت الصبر والجنة .
كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقَبوله، ويخافون من ردِّهِ، وهؤلاء هم الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهُم وَجِلة، روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (كونوا لقَبول العمل أشدَّ اهتمامًا منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: ((إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ؟)) [المائدة:27].
وكانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلِّغَهم رمضان، ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبَّله منهم".
سألَتْ عائشةُ رضي الله عنها الصديقةُ بنت الصديق رسولَ الله عن قوله سبحانه: ((وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)) أهُمُ الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر؟ قال: ((لا يا ابنةَ الصِّدِّيق، ولكنهم الذين يصلّون ويصومون ويتصدّقون ويخافون أن لا يُتقَبَّل منهم).
وقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على المواظبة على العمل بعد رمضان، جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تُطيقون فإن الله لا يَـمَلُّ حتى تَمَلُّوا، وإن أحبَّ الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قَلَّ " .
وفي صحيح مسلم من حديث عائشة قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته)) . أي داوم عليه وحافظ عليه.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي عمرة سفيان بن عبد الله الثقفـي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ((قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدَك)). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((قل آمنتُ بالله ثم استقم)) ، قل آمنت بالله ثم استقم، استجابةً لقوله جل وعلا: " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30].
قرأها يوماً على المنبر سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا، استقاموا على منهج الله فلم يروغوا روَغَانَ الثعالب، والاستقامة هي المداومة والثبات على الطاعة.
فلنحذر أن تكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، لنحذر أن نكون مثل امرأة تغزل طول يومها غزلاً قويًا محكماً ثم تنقضه أنكاثاً، أي: تفسده بعد إحكامه، فقال تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًاً).
اللهم سلِّم لنا رمضان، وتسلَّمه منا متقبلاً، وبارك لنا فيما بقي منه، والحمد لله رب العالمين.