wwww.risalaty.net


اتق شر من أحسنت إليه


هذه الكلمة تداولها الناس كثيراً, وتمثلوا بها, وأوردوها في سياق كلامهم للاستشهاد بها، ولعلك لا تجالس أحداً إلا وتسمعها منه, حيث اشتهرت على الألسنة، حتى اهتم بها الخطاطون المبرِّزون في علم الخطِّ ، فتسابقوا في إحسان كتابتها وتزيينها وتزويقها، ولم يعتنوا بآية من كتاب ربنا، ولا بحديث من أحاديث نبيينا عنايتهم بهذه الكلمة، حتى أصبحت تُعلقُ على جدران البيوت، والمحلات التجارية، ولقد ذهب اعتقاد بعض الناس إلى حدِّ أنها آية من القرآن الكريم، هذه الكلمةُ التي راجت واشتهرت بين أفراد الأمة المحمدية، ما هي حديث ولا آية، ولا يصح معناها، ولا يجوز نسبتُها إلى الدين الإسلامي، وخاصة بالطريقة التي يُستشهد بها بين الناس.
التخريج : قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" : لا أعرفه ، ويُشبه أن يكون من كلام بعض السلف.  
وقال العجلوني في "كشف الخفا" 1/43 : قال في الأصل: لا أعرفه ، ويُشبه أن يكون من كلام بعض السلف , وهو من الأحاديث الموضوعة الشائعة على الألسن .
وقال العامري في "الجد الحثيث في بيان ما ليس بحديث" 1/38 : ليس بحديث .
وقال القاوقجي في "اللؤلؤ المرصوع" 1/32 : هذا من الأمثال.
المعنى : احذروا ثمَّ احذروا أن تُحسنوا إلى أحد بأيِّ نوعٍ من أنواع الإحسان؛ لأنَّكم إن خالفتم هذا التحذير وأحسنتم إلى مخلوق فانتظروا الدَّواهي والشرور من وراء إحسانكم، لذلك يجبُ أن تحترسوا ممن أحسنتم إليهم كلَّ الاحتراس، وهذا تنفيرٌ من الإحسان إلى عباد الله ليس بعدَ!ه تنفير .
رأي الشيخ محمد متولي شعراوي رحمه الله في معنى وصحة هذا المَثل:
قال الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله تعالى في "تفسيره" : هذا قول صحيح؛ لأنك حين تُحسن إلى شخصٍ تدكُّ كبرياءَه , وتكون اليد العليا عليه، فإذا ما أخذ حظاً من الحياة وأصبح ذا مكانةٍ بين الناس، فإن كان غيرَ سوي النفس فإنه لا يحب من تفضَّل عليه في يوم من الأيام ودكَّ كبرياءَه ، لذلك يكره وجودَه ، ولا يحبُّ أن يراه , و ربَّما دبَّرَ لك المكائد لتختفي من طريقه، وتُخلي له السَّاحة ؛ لأنك الوحيد الذي يُحرجُه حضوركَ , ولأنه يُخزَى ساعة يراك، وهو يريدُ أن يتعالى , ووجودُكَ يكسرُ عندَه هذا التعالي .
وقال أيضاً : اتق شر من أحسنت إليه : لماذا لأنَّ الذي أحسنت إليه مرَّت به فترة كان ضعيفاً محتاجاً، وأنت قوي فأحسنت إليه، وقدَّمت له المعروف الذي قوَّم حياتَه فأصبح لك يدٌ عليه،  وكلَّما رآكَ ذكرتَه بفترة ضعفه .
وقال القرطبي في "التفسير" : قال القشيري أبو النَّصر : قيل للبجلي أتجدُ في كتاب الله تعالى ( اتق شر من أحسنت إليه ) قال : نعم  { وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} التوبة :74.
المثل في المنظور الإسلامي : الإسلام لا يوافق على هذا أبداً، بل يُحرِّضُ المؤمنين على الإحسان؛ لأنه يعلم أنَّ الإحسان يورثُ محبةً بين المُحسِنِ والمُحسَنِ إليه، وهو من دواعي المحبة والأُلفة بين النَّاس، لذلك أكَّد الإسلام في الأمر به، ومعلومٌ لدى النَّاس جميعاً أنَّ النفوس جُبلتْ  وفُطرتْ على حبِّ من أحسنَ إليها، قال بعض الحكماء لولده : " يا بُنيَّ إذا اشترى النَّاسُ الأرقاءَ بأموالهم فاشترِ أنت الأحرارَ بإحسانك " .
والإحسانُ صفةٌ محمودةٌ يستطيعُ بها الإنسانُ أن يؤثِّرَ على عواطف الآخرين، ومن ثمَّ عقولَهم وسلوكَهم؛ لأنّ النفس الإنسانية مجبولةٌ على حبِّ من أحسنَ إليها.
والإحسانُ يؤدّي إلى كسب وُدّ الآخرين وثقتهم . يقول الشاعر المُجرِّبُ:
أحسن إلى النَّاس تستعبد قلوبَهم        
وإنْ أساءَ مُسيءٌ فلْيَكنْ لكَ في       وكن على الدهر معواناً لذي أملٍ

 
 
فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
عُروضِ زَلَّتِهِ صَفْحٌ وغُفرانُ
يرجو نداكَ، فإنَّ الحرَّ معوانُ

 
وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم سيّدَ المحسنين في كل باب من أبواب الإحسان، فقد روى البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم ما سُئلَ شيئاً قطّ وقال: لا .
وعن أنس بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم أعطى رجلاً غنماً تملأُ ما بين جبلين فرجع الرجل إلى قومه وهو يقول: " يا قوم أسلموا فإنَّ محمداً يُعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر" .  رواه مسلم  
فجودُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهورٌو معروفٌ لا حَدَّ له ، ولسنا بصدد ذكره هنا.
نبينا صلى الله عليه وسلم يُسمّي البذلَ خيراً ويُسمّي الإمساكَ شراً، فيقول :(( يا بنَ آدم إنك أْن تبذل الفضل خيرٌ لك وأن تُمسكَه شرٌ لك)). وهذا عكسُ المثل الذي نحن نتكلمُ عنه , فإن المثل يقول للمحسن : انتظر من وراء إحسانك شراً واحترس منه، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول للمحسن : انتظر من وراء إحسانك خيراً لأنَّ الخيرَ لا يُثمرُ إلا خيراً، والإحسانُ إلى الناس خيرٌ ولا يُنتجُ إلا خيراً .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول : (( ما من يوم يصبح العبادُ فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، و يقول الآخرُ: اللهم أعط ممسكاً تلفاً )).
ويخبرنا من لا ينطقُ عن الهوى عن ربِّه أنه يكون في عون المُحسن إلى أخيه ما دام يُحسنُ إليه، وأيُّ خيرٍ أعظمُ من أن يكون ربُّ العالمين عوناً له، وهل هناك إكرامٌ أضخمُ من هذا الإكرام؟ والله تعالى يقول : { وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } سبأ :39.
هل علمَ الذين يُنفرونَ النَّاسَ من الإحسان بقولهم للمُحسن : ( اتق شر من أحسنت إليه) هذه الآيات والأحاديث والتي تدلُّ على الإحسان وفضل أهل الإحسان؟ .
إنَّ ما وعدَ اللهُ تعالى به المؤمنينَ من الأجر والثواب وسعادة الدنيا والآخرة يجعلُ المؤمنين يتسابقونَ في باب الإحسان تسابقَ الجياد في ميدانها، حتَّى وصلوا في ذلك إلى حدٍ بعيدٍ جدّاً، ولعلَّ هناك من لا يُصدقُ أنَّ أحدَهم كان يعملُ طوالَ النَّهار يكدُّ ويتعبُ ويُؤجرُ نفسَه حتى إذا ما أخذَ أجرتَه آخرَ النَّهارِ رجعَ به فرحاً مسروراً وقدَّمَه إلى إخوانه المحتاجين, إنَّ هذا لا يُصدَّقُ عند من يقول: ( اتقِ شرَّ مَنْ أحسنتَ إليه) .
وإنَّ أحدَهم يكونُ الطعامُ بينَ يديه وهو في مُنتهى الحاجة إليه لشدة الجوع ، فيسمعُ أنَّ أخاً له من المؤمنين في حاجةٍ إلى ذلك الطعام فيقبضُ يدَه عن أنْ تمتدَّ إليه، ويُرسلُه إلى أخيه يقدِّمُه على نفسِه , هذا حالُ فقرائهم، فكيف كان حالُ أغنيائهم، لقد كان والله عظيماً وكبيراً وعجيباً .
إنَّ المؤمنَ لا ينعمُ بلذيذ الطَّعام والشَّراب وأخوه يعملُ الجوعُ في أحشائه ما يعمل، أيُّ أخٍ هذا الذي يرى إخوانَه في عَوَزٍ وجوعٍ وحاجةٍ ثمَّ لا يرحمُهم، ويعطفُ عليهم، ويسارعُ في إسعافهم بما فضلَ عنده من مال، أمَّا الذي يمتنعُ فحجتُه الكُبرى في هذا الموقف ( اتقِ شرَّ منْ أحسنتَ إليه ).
المؤمنُ يفرحُ فرحاً لا يعلمُه إلا مولاه بما سيكافئُه به ربُّه الغنيُّ الكريمُ على إحسانه، والفرحُ بالمكافأة من
ربِّه لا يدعُه يُفكّرُ في مكافأة من يُحسنُ إليه , قال تعالى : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً }الإنسان:9 .
إنَّ المحسنين لو قابلَهم فريقٌ من اللئام الذين يقابلون الإحسانَ بالإساءة ما بالَوا به، ولا التفتوا إليه ، ولا يندمون على ما قدَّموا إليه من معونة؛ لأنَّ الذي يرجونه هو المثوبةُ والأجرُ والثوابُ والرِّضا من الله تعالى، وإنَّ إساءتهم لا يُغيِّرُ في الأجر شيئاً ولا يُنقصُ منه، بل يزيدُ ذلك بما انضم إليه من مثوبة المغفرة لإساءته، وإنما يندمُ ويتألمُ على الإحسان من أحسن لا يريدُ المكافأة من ربِّه، بل يريدُها ممن أحسنَ إليه، وتزيدُ حسرتُه، وتعظُمُ آلامُه حين يكون المحسَنُ إليه ليس من أهل المكافأة لا بقولٍ ولا بفعلٍ , فمثلُ هذا لا يفيدُه إحسانُه لا في دنياه ولا في أُخراه، بل يكون في أخراه من أشدِّ النَّاس بُعداً عن رحمة الله، لقوله صلى الله عليه وسلم: (( ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاقُّ لوالديه، والمدمنُ الخمرَ، والمنَّانُ بما أعطى)).  رواه أحمد والنسائي والحاكم
 إنَّ من يقبضُ يدَه من الإحسانِ هو من ينتظرُ المكافأةَ من الخَلقِ، فإذا صدَرتْ منهم أيُّ إساءةٍ قال نادماً : ( اتقِ شرَّ من أحسنت إليه) .
ومن الغلط الفاحش، والجهل بدين الإسلام، أن يزهدَ الإنسانُ في الإحسان إلى مستحقيه لمجرَّدِ توهمِ أنَّ الذي يتناولُ الإحسانَ يُسيء إلى من أحسن إليه .
ومما يجعلُ المحسنَ لا ينقطعُ عن الإحسان ولو قُوبلَ بالإساءة أنَّه معدودٌ عند عقلاء الخلق من فريق الكرام، والمسيءُ إليه معدودٌ في فريق اللئام، واسمُه الذي يُسميه به الناسُ ويُسميه به ربُّه ( مُحسن ) واسم صاحبه مُسيء، وهل يستوي الكريمُ المحسنُ باللئيم المسيء، لا يستويان أبداً.
ومما يزيدُ المؤمنَ إغراءً على عملِ الإحسان أنَّ ربَّنا عزَّ وجلَّ يعاملُ العبدَ بما يُعاملُه به عبادُه فمن أحسنَ أحسنَ إليه ومن أساءَ أساءَ إليه { هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ }الرحمن: 60 .
 ومن عرفَ وتذوَّقَ هذه المعاني لا يتوقَّفُ عن الإحسان أبداً ليضمنَ لنفسه إحسانَ ربِّه إليه, أما الإساءة فيبتعدُ عنها كلَّ البُعدِ لئلا يكون ممن نصيبهم الإساءة.
 وقد حكى لنا ربُّنا عزَّ وجلَّ في كتابه العزيز قصة سيدنا ومولانا الصَّديق أبي بكر أنَّه غضبَ على مسطح بن أثاثة لمَّا وافقَ أهلَ الإفك في إفكهم، حتى وصلَ به الغضبُ إلى حدِّ الحلفِ بالله أنْ يقطعَ النَّفقة التي كان يُجريها عليه, ربُّنا عزًّ وجلَّ قال له ولأمثاله: { وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }النور:22 .
هذا قرآنُ ربِّنا يأبى كلَّ الإباء أن يُقرَّ الصديقَ على قطع الإحسان إلى رجلٍ أساءَ إليه إساءةً ليست أيَّ إساءة , إساءةَ مهاجمته في عرض ابنته الصديقة الطاهرة زوجِ رسولِ الله، والتي كان لها مكانةٌ وأيّ مكانة،  وقدرٌ وأيُّ قدرٍ عنده صلى الله عليه وسلم, كان مسطحُ يخوضُ في عرضها مع الخائضين، ومع ذلك ربُّنا جلَّ جلاله ينهى الصديقَ وأمثالَه أنْ يقطعوا إحسانَهم إلى مثل هذا الرجل القاذف .
بل يحرضُهم ربُّنا أشدَّ التَّحريض على استدامة الإنفاق، بوعدهم أنْ يغفرَ لهم سبحانه ذنوبَهم، إذن أين ( اتق شر من أحسنت إليه ) .
ماذا قال الصديقُ عندما سمعَ هذه الآية، قال : بلى أنا أحبُّ أن يغفرَ اللهُ لي، وكفَّرَ عن يمينه بعد أن عاد لعادته في إحسانه، وحلفَ أنْ لا يقطعَ من مسطح نفقته أبداً .
وبذلك رفعَ اللهُ قدرَ الصّديق عن أنْ يكونَ في درجةِ من يقابلُ الإساءةَ بما يُناسبُها، وإذا كان الصّديقُ من هذه الطبقة، فمن إذن يقابلُ الإساءةَ بالإحسان, هكذا طلب منَّا مُرشدُنا وهادينا سيدنا محمدٌ أنْ نُقابلَ سيئةَ الحرمان بحَسنة الإعطاء، وأنْ نقابلَ سيئةَ الظلمِ بحَسنة العفو، وأنْ نقابلَ سيئةَ القطعِ بحَسنة الصِّلة .
 لعلَّنا وصلنا إلى فهم هذا المثل الخاطئ من خلال هذه الشواهد والآيات والأحاديث، وأقول: أين دينُ اللهِ وأينَ كلمةُ: ( اتق شر من أحسنت إليه ).
 
 
 

 الشيخ أيمن شعباني